الباحث القرآني

﴿ولَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذا سُبْحانَكَ هَذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ﴾ [النور: ١٢] إلَخْ. وأُعِيدَتْ (لَوْلا) وشَرْطُها وجَوابُها لِزِيادَةِ الِاهْتِمامِ بِالجُمْلَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَعْطِفْ (قُلْتُمْ) الَّذِي في هَذِهِ الجُمْلَةِ عَلى (قُلْتُمْ) الَّذِي في الجُمْلَةِ قَبْلَها لِقَصْدِ أنْ يَكُونَ صَرِيحًا في عَطْفِ الجُمَلِ. وتَقْدِيمُ الظَّرْفِ وهو (إذْ سَمِعْتُمُوهُ) عَلى عامِلِهِ وهو ﴿قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا﴾ كَتَقْدِيمِ نَظِيرِهِ في قَوْلِهِ ﴿لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ﴾ [النور: ١٢] إلَخْ وهو الِاهْتِمامُ بِمَدْلُولِ الظَّرْفِ. (p-١٨٠)وضَمِيرُ (سَمِعْتُمُوهُ) عائِدٌ إلى الإفْكِ مِثْلُ الضَّمائِرِ المُماثِلَةِ لَهُ في الآياتِ السّابِقَةِ. واسْمُ الإشارَةِ عائِدٌ إلى الإفْكِ بِما يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الِاخْتِلاقِ الَّذِي يَتَحَدَّثُ بِهِ المُنافِقُونَ والضُّعَفاءُ، فالإشارَةُ إلى ما هو حاضِرٌ في كُلِّ مَجْلِسٍ مِن مَجالِسِ سَماعِ الإفْكِ. ومَعْنى ﴿قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا﴾ أنْ يَقُولُوا لِلَّذِينِ أخْبَرُوهم بِهَذا الخَبَرِ الآفِكِ، أيْ: قُلْتُمْ لَهم زَجْرًا ومَوْعِظَةً. وضَمِيرُ (لَنا) مُرادٌ بِهِ القائِلُونَ والمُخاطَبُونَ. فَأمّا المُخاطَبُونَ فَلِأنَّهم تَكَلَّمُوا بِهِ حِينَ حَدَّثُوهم بِخَبَرِ الإفْكِ. والمَعْنى: ما يَكُونُ لَكم أنْ تَتَكَلَّمُوا بِهَذا. وأمّا المُتَكَلِّمُونَ فَلْتُنَزِّهْهم أنْ يَجْرِيَ ذَلِكَ البُهْتانُ عَلى ألْسِنَتِهِمْ. وإنَّما قالَ: ﴿ما يَكُونُ لَنا أنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذا﴾ دُونَ أنْ يَقُولَ: لَيْسَ لَنا أنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذا، لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ الكَلامَ في هَذا وكَيْنُونَةَ الخَوْضِ فِيهِ حَقِيقٌ بِالِانْتِفاءِ. وذَلِكَ أنَّ قَوْلَكَ: ما يَكُونُ لِي أنْ أفْعَلَ، أشَدُّ في نَفْيِ الفِعْلِ عَنْكَ مِن قَوْلِكَ: لَيْسَ لِي أنْ أفْعَلَ. ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى حِكايَةً عَنْ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أنْ أقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ [المائدة: ١١٦] . وهَذا مَسُوقٌ لِلتَّوْبِيخِ عَلى تَناقُلِهِمُ الخَبَرَ الكاذِبَ وكانَ الشَّأْنُ أنْ يَقُولَ القائِلُ في نَفْسِهِ: ما يَكُونُ لَنا أنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذا، ويَقُولُ ذَلِكَ لِمَن يُجالِسُهُ ويَسْمَعُهُ مِنهُ. فَهَذا زِيادَةٌ عَلى التَّوْبِيخِ عَلى السُّكُوتِ عَلَيْهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقالُوا هَذا إفْكٌ مُبِينٌ﴾ [النور: ١٢] . و(سُبْحانَكَ) جُمْلَةُ إنْشاءٍ وقَعَتْ مُعْتَرِضَةً بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿ما يَكُونُ لَنا أنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذا﴾ وجُمْلَةِ ﴿هَذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ﴾ . و(سُبْحانَكَ) مَصْدَرٌ وقَعَ بَدَلًا مِن فِعْلِهِ، أيْ نُسَبِّحُ سُبْحانًا لَكَ. وإضافَتُهُ إلى ضَمِيرِ الخِطابِ مِن إضافَةِ المَصْدَرِ إلى مَفْعُولِهِ، وهو هُنا مُسْتَعارٌ لِلتَّعَجُّبِ كَما تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ [الإسراء: ١] وقَوْلِهِ: ﴿وسُبْحانَ اللَّهِ وما أنا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: ١٠٨] (p-١٨١)فِي سُورَةِ يُوسُفَ. والأحْسَنُ أنْ يَكُونَ هُنا لِإعْلانِ المُتَكَلِّمِ البَراءَةَ مِن شَيْءٍ بِتَمْثِيلِ حالِ نَفْسِهِ بِحالِ مَن يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما يَقُولُ فَيَبْتَدِئُ بِخِطابِ اللَّهِ بِتَعْظِيمِهِ ثُمَّ بِقَوْلِ: ﴿هَذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ﴾ تَبَرُّؤًا مِن لازِمِ ذَلِكَ وهو مُبالَغَةٌ في إنْكارِ الشَّيْءِ والتَّعَجُّبِ مِن وُقُوعِهِ. وتَوْجِيهُ الخِطابِ إلى اللَّهِ في قَوْلِهِ: (سُبْحانَكَ) لِلْإشْعارِ بِأنَّ اللَّهَ غاضِبٌ عَلى مَن يَخُوضُ في ذَلِكَ فَعَلَيْهِمْ أنْ يَتَوَجَّهُوا لِلَّهِ بِالتَّوْبَةِ مِنهُ لِمَن خاضُوا فِيهِ وبِالِاحْتِرازِ مِنَ المُشارَكَةِ فِيهِ لِمَن لَمْ يَخُوضُوا فِيهِ. وجُمْلَةُ ﴿هَذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ﴾ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ ﴿ما يَكُونُ لَنا أنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذا﴾ فَهي داخِلَةٌ في تَوْبِيخِ المَقُولِ لَهم. ووَصْفُ البُهْتانِ بِأنَّهُ (عَظِيمٌ) مَعْناهُ أنَّهُ عَظِيمٌ في وُقُوعِهِ، أيْ بالِغٌ في كُنْهِ البُهْتانِ مَبْلَغًا قَوِيًّا. وإنَّما كانَ عَظِيمًا؛ لِأنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلى مُنْكَراتٍ كَثِيرَةٍ وهي: الكَذِبُ، وكَوْنُ الكَذِبِ بِطَعْنٍ في سَلامَةِ العَرْضِ، وكَوْنُهُ يُسَبِّبُ إحَنًا عَظِيمَةً بَيْنَ المُفْتَرِينَ والمُفْتَرى عَلَيْهِمْ مِن خِيرَةِ النّاسِ وانْتِمائِهِمْ إلى أخْيَرِ النّاسِ مِن أزْواجٍ وآباءٍ وقُراباتٍ، وأعْظَمُ مِن ذَلِكَ أنَّهُ اجْتِراءٌ عَلى مَقامِ النَّبِيءِ ﷺ ومَقامِ أُمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. والبُهْتانُ مَصْدَرٌ مِثْلُ الكُفْرانِ والغُفْرانِ. والبُهْتانُ: الخَبَرُ الكَذِبُ الَّذِي يَبْهَتُ السّامِعَ؛ لِأنَّهُ لا شُبْهَةَ فِيهِ. وقَدْ مَضى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتانًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ١٥٦] في سُورَةِ النِّساءِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب