الباحث القرآني

﴿لَوْلا جاءُوا عَلَيْهِ بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الكاذِبُونَ﴾ اسْتِئْنافٌ ثانٍ لِتَوْبِيخِ العُصْبَةِ الَّذِينَ جاءُوا بِالإفْكِ وذَمٌّ لَهم. و(لَوْلا) هَذِهِ مِثْلُ (لَوْلا) السّابِقَةِ بِمَعْنى (هَلّا) . والمَعْنى: أنَّ الَّذِي يُخْبِرُ خَبَرًا عَنْ غَيْرِ مُشاهَدَةٍ يَجِبُ أنْ يَسْتَنِدَ في خَبَرِهِ إلى إخْبارِ مُشاهِدٍ، ويَجِبُ كَوْنُ المُشاهِدِينَ المُخْبِرِينَ عَدَدًا يُفِيدُ خَبَرُهُمُ (p-١٧٦)الصِّدْقَ في مِثْلِ الخَبَرِ الَّذِي أخْبَرُوا بِهِ، فالَّذِينَ جاءُوا بِالإفْكِ اخْتَلَقُوهُ مِن سُوءِ ظُنُونِهِمْ فَلَمْ يَسْتَنِدُوا إلى مُشاهَدَةِ ما أخْبَرُوا بِهِ ولا إلى شَهادَةِ مَن شاهَدُوهُ مِمَّنْ يُقْبَلُ مِثْلُهم فَكانَ خَبَرُهم إفْكًا. وهَذا مُسْتَنِدٌ إلى الحُكْمِ المُتَقَرَّرِ مِن قَبْلُ في أوَّلِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور: ٤] فَقَدْ عَلِمْتَ أنَّ أوَّلَ سُورَةِ النُّورِ نَزَلَ أواخِرَ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ أوْ أوائِلَ سَنَةِ ثَلاثٍ قَبْلَ اسْتِشْهادِ مَرْثَدِ بْنِ أبِي مَرْثَدٍ. وصِيغَةُ الحَصْرِ في قَوْلِهِ: ﴿فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الكاذِبُونَ﴾ لِلْمُبالَغَةِ كَأنَّ كَذِبَهم لِقُوَّتِهِ وشَناعَتِهِ لا يُعَدُّ غَيْرُهم مِنَ الكاذِبِينَ كاذِبًا فَكَأنَّهُمُ انْحَصَرَتْ فِيهِمْ ماهِيَّةُ المَوْصُوفِينَ بِالكَذِبِ. واسْمُ الإشارَةِ لِزِيادَةِ تَمْيِيزِهِمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِيَحْذَرَ النّاسُ أمْثالَهم. والتَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ (عِنْدَ اللَّهِ) لِزِيادَةِ تَحْقِيقِ كَذِبِهِمْ، أيْ: هو كَذِبٌ في عِلْمِ اللَّهِ فَإنَّ عِلْمَ اللَّهِ لا يَكُونُ إلّا مُوافِقًا لِنَفْسِ الأمْرِ. ولَيْسَ المُرادُ ما ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ أنَّ مَعْنى (عِنْدَ اللَّهِ) في شَرْعِهِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يُصَيِّرُهُ قَيْدًا لِلِاحْتِرازِ، فَيَصِيرُ المَعْنى: هُمُ الكاذِبُونَ في إجْراءِ أحْكامِ الشَّرِيعَةِ. وهَذا يُنافِي غَرَضَ الكَلامِ ويُجافِي ما اقْتَرَنَ بِهِ مِن تَأْكِيدِ وصْفِهِمْ بِالكَذِبِ؛ عَلى أنَّ كَوْنَ ذَلِكَ هو شَرْعُ اللَّهِ مَعْلُومٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ فاجْلِدُوهم ثَمانِينَ جَلْدَةً﴾ [النور: ٤] إلى قَوْلِهِ: ﴿فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الكاذِبُونَ﴾ . فَمَسْألَةُ الأخْذِ بِالظّاهِرِ في إجْراءِ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ مَسْألَةٌ أُخْرى لا تُؤْخَذُ مِن هَذِهِ الآيَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب