الباحث القرآني

﴿قُلْ مَن رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ ورَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ﴾ ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أفَلا تَتَّقُونَ﴾ تَكْرِيرُ الأمْرِ بِالقَوْلِ وإنْ كانَ المَقُولُ مُخْتَلِفًا دُونَ أنْ تُعْطَفَ جُمْلَةُ ﴿مَن رَبُّ السَّماواتِ﴾؛ لِأنَّها وقَعَتْ في سِياقِ التَّعْدادِ فَناسَبَ أنْ يُعادَ الأمْرُ بِالقَوْلِ دُونَ الِاسْتِغْناءِ بِحَرْفِ العَطْفِ. والمَقْصُودُ وُقُوعُ هَذِهِ الأسْئِلَةِ مُتَتابِعَةً دَفْعًا (p-١١٠)لَهم بِالحُجَّةِ، ولِذَلِكَ لَمْ تُعَدْ في السُّؤالَيْنِ الثّانِي والثّالِثِ جُمْلَةُ ﴿إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [المؤمنون: ٨٨] اكْتِفاءً بِالِافْتِتاحِ بِها. وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾ بِلامٍ جارَّةٍ لِاسْمِ الجَلالَةِ عَلى أنَّهُ حِكايَةٌ لِجَوابِهِمُ المُتَوَقَّعِ بِمَعْناهُ لا بِلَفْظِهِ؛ لِأنَّهم لَمّا سُئِلُوا بِـ (مَن) ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌الَّتِي‌‌‌‌ هي لِلِاسْتِفْهامِ عَنْ تَعْيِينِ ذاتِ المُسْتَفْهَمِ عَنْهُ كانَ مُقْتَضى الِاسْتِعْمالِ أنْ يَكُونَ الجَوابُ بِذِكْرِ اسْمِ ذاتِ المَسْئُولِ عَنْهُ، فَكانَ العُدُولُ عَنْ ذَلِكَ إلى الجَوابِ عَنْ كَوْنِ السَّماواتِ السَّبْعِ والعَرْشِ مَمْلُوكَةً لِلَّهِ عُدُولًا إلى جانِبِ المَعْنى دُونَ اللَّفْظِ مُراعاةً لِكَوْنِ المُسْتَفْهَمِ عَنْهُ لُوحِظَ بِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ، والرُّبُوبِيَّةُ تَقْتَضِي المُلْكَ. ونَظِيرُ هَذا الِاسْتِعْمالِ ما أنْشَدَهُ القُرْطُبِيُّ وصاحِبُ المَطْلَعِ: ؎إذا قِيلَ: مَن رَبُّ المَزالِفِ والقُرى ورَبُّ الجِيادِ الجُرْدِ قُلْتُ لَخالِدُ ولَمْ أقِفْ عَلى مَن سَبَقَهُما بِذِكْرِ هَذا البَيْتِ ولَعَلَّهُما أخَذاهُ مِن تَفْسِيرِ الزَّجّاجِ ولَمْ يَعْزُواهُ إلى قائِلٍ ولَعَلَّ قائِلَهُ حَذا بِهِ حَذْوَ اسْتِعْمالِ الآيَةِ. وأقُولُ: إنَّ الأجْدَرَ أنْ نُبَيِّنَ وجْهَ صَوْغِ الآيَةِ بِهَذا الأُسْلُوبِ فَأرى أنَّ ذَلِكَ لِقَصْدِ التَّعْرِيضِ بِأنَّهم يَحْتَرِزُونَ عَنْ أنْ يَقُولُوا: رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ اللَّهُ؛ لِأنَّهم أثْبَتُوا مَعَ اللَّهِ أرْبابًا في السَّماواتِ إذْ عَبَدُوا المَلائِكَةَ فَهم عَدَلُوا عَمّا فِيهِ نَفْيُ الرُّبُوبِيَّةِ عَنْ مَعْبُوداتِهِمْ واقْتَصَرُوا عَلى الإقْرارِ بِأنَّ السَّماواتِ مِلْكٌ لِلَّهِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ لا يُبْطِلُ أوْهامَ شِرْكِهِمْ مِن أصْلِها؛ ألا تَرى أنَّهم يَقُولُونَ في التَّلْبِيَةِ في الحَجِّ: (لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ، إلّا شَرِيكٌ هو لَكَ، تَمْلِكُهُ وما مَلَكَ) . فَفي حِكايَةِ جَوابِهِمْ بِهَذا اللَّفْظِ تَوَرُّكٌ عَلَيْهِمْ، ولِذَلِكَ ذَيَّلَ حِكايَةَ جَوابِهِمْ بِالإنْكارِ عَلَيْهِمُ انْتِفاءَ اتِّقائِهِمُ اللَّهَ تَعالى. (p-١١١)وقَرَأهُ أبُو عَمْرٍو ويَعْقُوبُ (سَيَقُولُونَ اللَّهُ) بِدُونِ لامِ الجَرِّ وهو كَذَلِكَ في مُصْحَفِ البَصْرَةِ وبِذَلِكَ كانَ اسْمُ الجَلالَةِ مَرْفُوعًا عَلى أنَّهُ خَبَرُ (مَن) في قَوْلِهِ: ﴿مَن رَبُّ السَّماواتِ﴾ والمَعْنى واحِدٌ. ولَمْ يُؤْتَ مَعَ هَذا الِاسْتِفْهامِ بِشَرْطِ (﴿إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [المؤمنون: ٨٤]) ونَحْوِهِ كَما جاءَ في سابِقِهِ؛ لِأنَّ انْفِرادَ اللَّهِ تَعالى بِالرُّبُوبِيَّةِ في السَّماواتِ والعَرْشِ لا يَشُكُّ فِيهِ المُشْرِكُونَ لِأنَّهم لَمْ يَزْعُمُوا إلَهِيَّةَ أصْنامِهِمْ في السَّماواتِ والعَوالِمِ العُلْوِيَّةِ. وخُصَّ وعْظُهم عَقِبَ جَوابِهِمْ بِالحَثِّ عَلى تَقْوى اللَّهِ؛ لِأنَّهُ لَمّا تَبَيَّنَ مِنَ الآيَةِ الَّتِي قَبْلَها أنَّهم لا يَسَعُهم إلّا الِاعْتِرافُ بِأنَّ اللَّهَ مالِكُ الأرْضِ ومَن فِيها وعُقِّبَتْ تِلْكَ الآيَةُ بِحَضِّهِمْ عَلى التَّذَكُّرِ لِيَظْهَرَ لَهم أنَّهم عِبادُ اللَّهِ لا عِبادُ الأصْنامِ. وتَبَيَّنَ مِن هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ رَبُّ السَّماواتِ وهي أعْظَمُ مِنَ الأرْضِ وأنَّهم لا يَسَعُهم إلّا الِاعْتِرافُ بِذَلِكَ ناسَبَ حَثَّهم عَلى تَقْواهُ؛ لِأنَّهُ يَسْتَحِقُّ الطّاعَةَ لَهُ وحْدَهُ وأنْ يُطِيعُوا رَسُولَهُ فَإنَّ التَّقْوى تَتَضَمَّنُ طاعَةَ ما جاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ . وحُذِفَ مَفْعُولُ (تَتَّقُونَ) لِتَنْزِيلِ الفِعْلِ مَنزِلَةَ القاصِرِ؛ لِأنَّهُ دالٌّ عَلى مَعْنًى خاصٍّ وهو التَّقْوى الشّامِلَةُ لِامْتِثالِ المَأْمُوراتِ واجْتِنابِ المَنهِيّاتِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب