الباحث القرآني
﴿إنَّ الَّذِينَ هم مِن خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ هم بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ هم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهم وجِلَةٌ أنَّهم إلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ﴾ ﴿أُولَئِكَ يُسارِعُونَ في الخَيْراتِ وهم لَها سابِقُونَ﴾
هَذا الكَلامُ مُقابِلُ ما تَضَمَّنَتْهُ الغَمْرَةُ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَذَرْهم في غَمْرَتِهِمْ﴾ [المؤمنون: ٥٤] مِنَ الإعْراضِ عَنْ عِبادَةِ اللَّهِ وعَنِ التَّصْدِيقِ بِآياتِهِ، ومِن إشْراكِهِمْ آلِهَةً مَعَ اللَّهِ، ومِن شُحِّهِمْ عَنِ الضُّعَفاءِ وإنْفاقِ مالِهِمْ في اللَّذّاتِ، ومِن تَكْذِيبِهِمْ بِالبَعْثِ. كُلُّ ذَلِكَ مِمّا شَمِلَتْهُ الغَمْرَةُ فَجِيءَ في مُقابِلِها بِذِكْرِ أحْوالِ المُؤْمِنِينَ ثَناءً عَلَيْهِمْ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِ بَعْدَ هَذا: ﴿بَلْ قُلُوبُهم في غَمْرَةٍ مِن هَذا﴾ [المؤمنون: ٦٣] .
فَكانَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ كالتَّفْصِيلِ لِإجْمالِ الغَمْرَةِ مَعَ إفادَةِ المُقابَلَةِ بِأحْوالِ المُؤْمِنِينَ. واخْتِيرَ أنْ يَكُونَ التَّفْصِيلُ بِذِكْرِ المُقابِلِ لِحُسْنِ تِلْكَ الصِّفاتِ وقُبْحِ أضْدادِها تَنْزِيهًا لِلذِّكْرِ عَنْ تَعْدادِ رَذائِلِهِمْ، فَحَصَلَ بِهَذا إيجازٌ بَدِيعٌ، وطِباقٌ مِن ألْطَفِ البَدِيعِ، وصَوْنٌ لِلْفَصاحَةِ مِن كَراهَةِ الوَصْفِ الشَّنِيعِ.
وافْتِتاحُ الجُمْلَةِ بِـ (إنَّ) لِلِاهْتِمامِ بِالخَبَرِ، والإتْيانُ بِالمَوْصُولاتِ لِلْإيماءِ إلى وجْهِ بِناءِ الخَبَرِ وهو أنَّهم يُسارِعُونَ في الخَيْراتِ ويُسابِقُونَ إلَيْها، وتَكْرِيرُ (p-٧٧)أسْماءِ المَوصُولاتِ لِلِاهْتِمامِ بِكُلِّ صِلَةٍ مِن صِلاتِها فَلا تُذْكَرُ تَبَعًا بِالعَطْفِ. والمَقْصُودُ الفَرِيقُ الَّذِينَ اتُّصِفُوا بِصِلَةٍ مِن هَذِهِ الصِّلاتِ. و(مِن) في قَوْلِهِ: ﴿مِن خَشْيَةِ رَبِّهِمْ﴾ لِلتَّعْلِيلِ.
والإشْفاقُ: تَوَقُّعُ المَكْرُوهِ وتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وهم مِن خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٨] في سُورَةِ الأنْبِياءِ. وقَدْ حُذِفَ المُتَوَقَّعُ مِنهُ لِظُهُورِ أنَّهُ هو الَّذِي كانَ الإشْفاقُ بِسَبَبِ خَشْيَتِهِ، أيْ: يَتَوَقَّعُونَ غَضَبَهُ وعِقابَهُ.
والمُرادُ بِالآياتِ: الدَّلائِلُ الَّتِي تَضَمَّنَها القُرْآنُ ومِنها إعْجازُ القُرْآنِ. والمَعْنى: أنَّهم لِخَشْيَةِ رَبِّهِمْ يَخافُونَ عِقابَهُ، فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ (مُشْفِقُونَ) لِدَلالَةِ السِّياقِ عَلَيْهِ.
وتَقْدِيمُ المَجْرُوراتِ الثَّلاثَةِ عَلى عَوامِلِها لِلرِّعايَةِ عَلى الفَواصِلِ مَعَ الِاهْتِمامِ بِمَضْمُونِها.
ومَعْنى ﴿يُؤْتُونَ ما آتَوْا﴾ يُعْطُونَ الأمْوالَ صَدَقاتٍ وصِلاتٍ ونَفَقاتٍ في سَبِيلِ اللَّهِ. قالَ تَعالى: ﴿وآتى المالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبى﴾ [البقرة: ١٧٧] الآيَةَ وقالَ: ﴿ووَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ [فصلت: ٦] ﴿الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾ [فصلت: ٧] . واسْتِعْمالُ الإيتاءِ في إعْطاءِ المالِ شائِعٌ في القُرْآنِ مُتَعَيِّنٌ أنَّهُ المُرادُ هُنا.
وإنَّما عُبِّرَ بِـ ما أتَوْا دُونَ الصَّدَقاتِ أوِ الأمْوالِ لِيَعُمَّ كُلَّ أصْنافِ العَطاءِ المَطْلُوبِ شَرْعًا ولِيَعُمَّ القَلِيلَ والكَثِيرَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ المُؤْمِنِينَ لَيْسَ لَهُ مِنَ المالِ ما تَجِبُ فِيهِ الزَّكاةُ وهو يُعْطِي مِمّا يَكْسِبُ.
وجُمْلَةُ ﴿وقُلُوبُهم وجِلَةٌ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ وحَقُّ الحالِ إذا جاءَتْ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعاطِفَةٍ أنْ تَعُودَ إلى جَمِيعِ الجُمَلِ الَّتِي قَبْلَها، أيْ: يَفْعَلُونَ ما ذُكِرَ مِنَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ بِقُلُوبِهِمْ وجَوارِحِهِمْ وهم مُضْمِرُونَ وجَلًا وخَوْفًا مِن رَبِّهِمْ أنْ يَرْجِعُوا إلَيْهِ فَلا يَجِدُونَهُ راضِيًا عَنْهم، أوْ لا يَجِدُونَ ما يَجِدُهُ غَيْرُهم مِمَّنْ يَفُوتُهم في الصّالِحاتِ، فَهم لِذَلِكَ يُسارِعُونَ في الخَيْراتِ ويُكْثِرُونَ مِنها ما اسْتَطاعُوا وكَذَلِكَ كانَ شَأْنُ المُسْلِمِينَ الأوَّلِينَ. وفي الحَدِيثِ «أنْ أهْلَ (p-٧٨)الصُّفَّةِ» قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أهْلُ الدُّثُورِ بِالأُجُورِ يُصَلُّونَ كَما نُصَلِّي ويَصُومُونَ كَما نَصُومُ ويَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أمْوالِهِمْ. قالَ: أوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكم ما تَصَّدَّقُونَ بِهِ، إنَّ لَكم بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً وكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وأمْرٍ بِالمَعْرُوفِ صَدَقَةً، ونَهْيٍ عَنِ المُنْكَرِ صَدَقَةً.
وقالَ أبُو مَسْعُودٍ الأنْصارِيُّ: «لَمّا أُمِرْنا بِالصَّدَقَةِ كُنّا نُحامِلُ فَيُصِيبُ أحَدُنا المُدَّ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ» . ومِمّا يُشِيرُ إلى مَعْنى هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ويُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِينًا ويَتِيمًا وأسِيرًا﴾ [الإنسان: ٨] ﴿إنَّما نُطْعِمُكم لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكم جَزاءً ولا شُكُورًا﴾ [الإنسان: ٩] ﴿إنّا نَخافُ مِن رَبِّنا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ [الإنسان: ١٠] الآياتِ.
وخَبَرُ (إنَّ) جُمْلَةُ ﴿أُولَئِكَ يُسارِعُونَ في الخَيْراتِ﴾ .
وافْتُتِحَ بِاسْمِ الإشارَةِ لِزِيادَةِ تَمْيِيزِهِمْ لِلسّامِعِينَ؛ لِأنَّ مِثْلَهم أحْرِياءُ بِأنْ يُعْرَفُوا.
وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى مَعْنى ﴿يُسارِعُونَ في الخَيْراتِ﴾ آنِفًا.
ومَعْنى ﴿وهم لَها سابِقُونَ﴾ أنَّهم يَتَنافَسُونَ في الإكْثارِ مِن أعْمالِ الخَيْرِ، فالسَّبْقُ تَمْثِيلٌ لِلتَّنافُسِ والتَّفاوُتِ في الإكْثارِ مِنَ الخَيْراتِ بِحالِ السّابِقِ إلى الغايَةِ، أوِ المَعْنى: وهم مُحْرِزُونَ لِما حَرَصُوا عَلَيْهِمْ، فالسَّبْقُ مُجازٌ لِإحْرازِ المَطْلُوبِ؛ لِأنَّ الإحْرازَ مِن لَوازِمِ السَّبْقِ.
وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فاللّامُ بِمَعْنى (إلى) . وقَدْ قِيلَ: إنَّ فِعْلَ السَّبْقِ يَتَعَدّى بِاللّامِ كَما يَتَعَدّى بِـ (إلى) .
وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ لِلِاهْتِمامِ ولِرِعايَةِ الفاصِلَةِ.
{"ayahs_start":57,"ayahs":["إِنَّ ٱلَّذِینَ هُم مِّنۡ خَشۡیَةِ رَبِّهِم مُّشۡفِقُونَ","وَٱلَّذِینَ هُم بِـَٔایَـٰتِ رَبِّهِمۡ یُؤۡمِنُونَ","وَٱلَّذِینَ هُم بِرَبِّهِمۡ لَا یُشۡرِكُونَ","وَٱلَّذِینَ یُؤۡتُونَ مَاۤ ءَاتَوا۟ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَ ٰجِعُونَ","أُو۟لَـٰۤىِٕكَ یُسَـٰرِعُونَ فِی ٱلۡخَیۡرَ ٰتِ وَهُمۡ لَهَا سَـٰبِقُونَ"],"ayah":"وَٱلَّذِینَ یُؤۡتُونَ مَاۤ ءَاتَوا۟ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَ ٰجِعُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق