الباحث القرآني
﴿حَتّى إذا جاءَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ﴾ ﴿لَعَلِّيَ أعْمَلُ صالِحًا فِيما تَرَكْتُ كَلّا إنَّها كَلِمَةٌ هو قائِلُها ومِن ورائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾
(حَتّى) ابْتِدائِيَّةٌ وقَدْ عَلِمْتَ مُفادَها غَيْرَ مَرَّةٍ، وتَقَدَّمَتْ في سُورَةِ الأنْبِياءِ؛ ولا تُفِيدُ أنَّ مَضْمُونَ ما قَبْلَها مُغَيًّا بِها فَلا حاجَةَ إلى تَعْلِيقِ (حَتّى) بِـ (يَصِفُونَ) . والوَجْهُ أنَّ (حَتّى) مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿وإنّا عَلى أنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهم لَقادِرُونَ﴾ [المؤمنون: ٩٥] . فَهَذا انْتِقالٌ إلى وصْفِ ما يَلْقَوْنَ مِنَ العَذابِ في الآخِرَةِ بَعْدَ أنْ ذُكِرَ عَذابُهم في الدُّنْيا فَيَكُونُ قَوْلُهُ هُنا: ﴿حَتّى إذا جاءَ أحَدَهُمُ المَوْتُ﴾ وصْفًا أُنُفًا لِعَذابِهِمْ في الآخِرَةِ. وهو الَّذِي رَجَّحْنا بِهِ أنْ يَكُونَ ما سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنَ العَذابِ ثَلاثَ مَرّاتٍ عَذابًا في الدُّنْيا لا في الآخِرَةِ. فَإنْ حَمَلْتَ العَذابَ السّابِقَ الذِّكْرِ عَلى عَذابِ الآخِرَةِ كانَ ذَلِكَ إجْمالًا: وكانَ قَوْلُهُ: (p-١٢٣)﴿حَتّى إذا جاءَ أحَدَهُمُ المَوْتُ﴾ إلى آخِرِهِ تَفْصِيلًا لَهُ.
وضَمائِرُ الغَيْبَةِ عائِدَةٌ إلى ما عادَتْ عَلَيْهِ الضَّمائِرُ السّابِقَةُ مِن قَوْلِهِ: (﴿قالُوا أإذا مِتْنا وكُنّا تُرابًا وعِظامًا إنّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ [المؤمنون: ٨٢]) إلى ما هُنا ولَيْسَتْ عايِدَةً إلى الشَّياطِينِ. ولِقَصْدِ إدْماجِ التَّهْدِيدِ بِما سَيُشاهِدُونَ مِن عَذابٍ أُعِدَّ لَهم فَيَنْدَمُونَ عَلى تَفْرِيطِهِمْ في مُدَّةِ حَياتِهِمْ.
وضَمِيرُ الجَمْعِ في (ارْجِعُونِ) تَعْظِيمٌ لِلْمُخاطَبِ. والخِطابُ بِصِيغَةِ الجَمْعِ لِقَصْدِ التَّعْظِيمِ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ، وهو يَلْزَمُ صِيغَةَ التَّذْكِيرِ فَيُقالُ في خِطابِ المَرْأةِ إذا قُصِدَ تَعْظِيمُها: أنْتُمْ. ولا يُقالُ: أنْتُنَّ. قالَ العَرَجِيُّ:
؎فَإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّساءَ سِواكُـمُ وإنْ شِئْتِ لَمْ أطْعَمْ نُقاخًا ولا بَرْدا
فَقالَ: سِواكم. وقالَ جَعْفَرُ بْنُ عُلْبَةَ الحارِثِيُّ مِن شُعَراءِ الحَماسَةِ:
؎فَلا تَحْسَبِي أنِّي تَخَشَّعْتُ بَعْدَكُـمْ ∗∗∗ لِشَيْءٍ ولا أنِّي مِنَ المَوْتِ أفْرَقُ
فَقالَ: بَعْدَكم، وقَدْ حَصَلَ لِي هَذا بِاسْتِقْراءِ كَلامِهِمْ ولَمْ أرَ مَن وقَفَ عَلَيْهِ.
وجُمْلَةُ التَّرَجِّي في مَوْضِعِ العِلَّةِ لِمَضْمُونِ (ارْجِعُونِ) .
والتَّرْكُ هُنا مُسْتَعْمَلٌ في حَقِيقَتِهِ وهو مَعْنى التَّخْلِيَةِ والمُفارَقَةِ. وما صَدَقُ (ما تَرَكْتُ) عالَمُ الدُّنْيا. ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالتَّرْكِ مَعْناهُ المَجازِيُّ وهو الإعْراضُ والرَّفْضُ، عَلى أنْ يَكُونَ ما صَدَقَ المَوْصُولُ الأيْمانَ بِاللَّهِ وتَصْدِيقَ رَسُولِهِ، فَذَلِكَ هو الَّذِي رَفَضَهُ كُلُّ مَن يَمُوتُ عَلى الكُفْرِ، فالمَعْنى: لَعَلِّي أُسْلِمُ وأعْمَلُ صالِحًا في حالَةِ إسْلامِي الَّذِي كُنْتُ رَفَضْتُهُ، فاشْتَمَلَ هَذا المَعْنى عَلى وعْدٍ بِالِامْتِثالِ واعْتِرافٍ بِالخَطَأِ فِيما سَلَفَ. ورُكِّبَ بِهَذا النَّظْمِ المُوجَزِ قَضاءً لِحَقِّ البَلاغَةِ.
و(كُلًّا) رَدْعٌ لِلسّامِعِ لِيَعْلَمَ إبْطالَ طِلْبَةِ الكافِرِ.
وقَوْلُهُ: ﴿إنَّها كَلِمَةٌ هو قائِلُها﴾ تَرْكِيبٌ يَجْرِي مَجْرى المَثَلِ وهو مِن مُبْتَكَراتِ القُرْآنِ. وحاصِلُ مَعْناهُ: أنَّ قَوْلَ المُشْرِكِ: ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ﴾ إلَخْ لا يَتَجاوَزُ أنْ يَكُونَ كَلامًا صَدَرَ مِن لِسانِهِ لا جَدْوى لَهُ فِيهِ، أيْ: لا يُسْتَجابُ طَلَبُهُ بِهِ.
(p-١٢٤)فَجُمْلَةُ (هو قائِلُها) وصْفٌ لِـ (كَلِمَةٌ)، أيْ: هي كَلِمَةٌ، هَذا وصْفُها. وإذْ كانَ مِنَ المُحَقَّقِ أنَّهُ قائِلُها لَمْ يَكُنْ في وصْفِ (كَلِمَةٌ) بِهِ فائِدَةٌ جَدِيدَةٌ فَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ الخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا في مَعْنى أنَّهُ لا وصْفَ لِكَلِمَتِهِ غَيْرُ كَوْنِها صَدَرَتْ مِن في صاحِبِها.
وبِذَلِكَ يُعْلَمُ أنَّ التَّأْكِيدَ بِحَرْفِ (إنَّ) لِتَحْقِيقِ المَعْنى الَّذِي اسْتُعْمِلَ لَهُ الوَصْفُ.
والكَلِمَةُ هُنا مُسْتَعْمَلٌ في الكَلامِ كَقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ: «أصْدَقُ كَلِمَةٍ قالَها شاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ:
؎ألا كُلُّ شَيْءٍ ما خَلا اللَّهَ باطِلٌ»
وكَما في قَوْلِهِمْ: كَلِمَةُ الشَّهادَةِ وكَلِمَةُ الإسْلامِ. وتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ﴾ [التوبة: ٧٤] في سُورَةِ بَراءَةٌ.
والوَراءُ هُنا مُسْتَعارٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي يُصِيبُ المَرْءَ لا مَحالَةَ ويَنالُهُ وهو لا يَظُنُّهُ يُصِيبُهُ. شُبِّهَ ذَلِكَ بِالَّذِي يُرِيدُ اللِّحاقَ بِالسّائِرِ فَهو لاحِقُهُ، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿واللَّهُ مِن ورائِهِمْ مُحِيطٌ﴾ [البروج: ٢٠] وقَوْلِهِ: ﴿مِن ورائِهِمْ جَهَنَّمُ﴾ [الجاثية: ١٠] وقَوْلِهِ: ﴿ومِن ورائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ﴾ [إبراهيم: ١٧] . وتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: ﴿وكانَ وراءَهم مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا﴾ [الكهف: ٧٩] .
وقالَ لَبِيدٌ:
؎ألَيْسَ ورائِي أنْ تَراخَتْ مَنِيَّتِـي ∗∗∗ لُزُومُ العَصا تُحْنِي عَلَيْها الأصابِعُ
والبَرْزَخُ: الحاجِزُ بَيْنَ مَكانَيْنِ. قِيلَ: المُرادُ بِهِ في هَذِهِ الآيَةِ القَبْرُ، وقِيلَ: هو بَقاءُ مُدَّةِ الدُّنْيا. وقِيلَ: هو عالَمٌ بَيْنَ الدُّنْيا والآخِرَةِ تَسْتَقِرُّ فِيهِ الأرْواحُ فَتُكاشَفُ عَلى مَقَرِّها المُسْتَقْبَلِ. وإلى هَذا مالَ الصُّوفِيَّةُ. وقالَ السَّيِّدُ في التَّعْرِيفاتِ: البَرْزَخُ العالَمُ المَشْهُودُ بَيْنَ عالَمِ المَعانِي المُجَرَّدَةِ وعالَمِ الأجْسامِ المادِّيَّةِ، أعْنِي الدُّنْيا والآخِرَةِ ويُعَبَّرُ بِهِ عَنْ عالَمِ المِثالِ ا هـ، أيْ: عِنْدَ الفَلاسِفَةِ القُدَماءِ.
ومَعْنى ﴿إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ أنَّهم غَيْرُ راجِعِينَ إلى الحَياةِ إلى يَوْمِ البَعْثِ.
فَهِيَ إقْناطٌ لَهم؛ لِأنَّهم يَعْلَمُونَ أنَّ يَوْمَ البَعْثِ الَّذِي وُعِدُوهُ لا رُجُوعَ بَعْدَهُ (p-١٢٥)إلى الدُّنْيا فالَّذِي قالَ لَهم (﴿إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾) هو الَّذِي أعْلَمَهم بِما هو البَعْثُ.
{"ayahs_start":99,"ayahs":["حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ رَبِّ ٱرۡجِعُونِ","لَعَلِّیۤ أَعۡمَلُ صَـٰلِحࣰا فِیمَا تَرَكۡتُۚ كَلَّاۤۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَاۤىِٕلُهَاۖ وَمِن وَرَاۤىِٕهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ یَوۡمِ یُبۡعَثُونَ"],"ayah":"لَعَلِّیۤ أَعۡمَلُ صَـٰلِحࣰا فِیمَا تَرَكۡتُۚ كَلَّاۤۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَاۤىِٕلُهَاۖ وَمِن وَرَاۤىِٕهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ یَوۡمِ یُبۡعَثُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق