الباحث القرآني
﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهم ولْيُوفُوا نُذُورَهم ولْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ﴾
هَذا مِن جُمْلَةِ ما خاطَبَ اللَّهُ بِهِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - .
وقَرَأ ورْشٌ عَنْ نافِعٍ، وقُنْبُلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو عَمْرٍو بِكَسْرِ لامِ (لِيَقْضُوا) . وقَرَأهُ الباقُونَ بِسُكُونِ اللّامِ. وهُما لُغَتانِ في لامِ الأمْرِ إذا وقَعَتْ بَعْدَ (ثُمَّ)، كَما تَقَدَّمَ آنِفًا في قَوْلِهِ تَعالى (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) . و(ثُمَّ) هُنا عَطَفَتْ جُمْلَةً عَلى جُمْلَةٍ فَهي لِلتَّراخِي الرُّتْبِيِّ لا الزَّمَنِيِّ فَتُفِيدُ أنَّ المَعْطُوفَ بِها أهَمُّ في الغَرَضِ المَسُوقِ إلَيْهِ الكَلامُ مِنَ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ. وذَلِكَ في الوَفاءِ بِالنَّذْرِ والطَّوافِ بِالبَيْتِ العَتِيقِ ظاهِرٌ إذْ هُما نُسُكانِ أهَمُّ مِن نَحْرِ الهَدايا، وقَضاءُ التَّفَثِ مَحْمُولٌ عَلى أمْرٍ مُهِمٍّ كَما سَنُبَيِّنُهُ.
والتَّفَثُ: كَلِمَةٌ وقَعَتْ في القُرْآنِ وتَرَدَّدَ المُفَسِّرُونَ في المُرادِ مِنها. واضْطَرَبَ عُلَماءُ اللُّغَةِ في مَعْناها لَعَلَّهم لَمْ يَعْثُرُوا عَلَيْها في كَلامِ العَرَبِ المُحْتَجِّ بِهِ. قالَ الزَّجّاجُ: إنَّ أهْلَ اللُّغَةِ لا يَعْلَمُونَ التَّفَثَ إلّا مِنَ التَّفْسِيرِ، أيْ أقْوالِ المُفَسِّرِينَ. فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ وابْنِ عَبّاسٍ: (p-٢٤٩)التَّفَثُ: مَناسِكُ الحَجِّ وأفْعالُهُ كُلُّها. قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ لَوْ صَحَّ عَنْهُما لَكانَ حُجَّةَ الإحاطَةِ بِاللُّغَةِ. قُلْتُ: رَواهُ الطَّبَرِيُّ عَنْهُما بِأسانِيدَ مَقْبُولَةٍ. ونَسَبَهُ الجَصّاصُ إلى سَعِيدٍ. وقالَ نِفْطَوَيْهِ وقُطْرُبٌ: التَّفَثُ: هو الوَسَخُ والدَّرَنُ. ورَواهُ ابْنُ وهْبٍ عَنْ مالِكِ بْنِ أنَسٍ. واخْتارَهُ أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ وأنْشَدَ قُطْرُبٌ لِأُمَيَّةَ بْنِ أبِي الصَّلْتِ:
؎حَفُّوا رُءُوسَهُمُ لَمْ يَحْلِقُوا تَفَثًا ولَمْ يَسُلُّوا لَهم قَمْلًا وصِئْبانا
ويَحْتَمِلُ أنَّ البَيْتَ مَصْنُوعٌ لِأنَّ أئِمَّةَ اللُّغَةِ قالُوا لَمْ يَجِئْ في مَعْنى التَّفَثِ شِعْرٌ يُحْتَجُّ بِهِ. قالَ نِفْطَوَيْهِ: سَألْتُ أعْرابِيًّا: ما مَعْنى قَوْلِهِ ﴿ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ﴾، فَقالَ: ما أُفَسِّرُ القُرْآنَ ولَكِنْ نَقُولُ لِلرَّجُلِ ما أتْفَثَكَ، أيْ ما أدْرَنَكَ.
وعَنْ أبِي عُبَيْدَةَ: التَّفَثُ: قَصُّ الأظْفارِ والأخْذُ مِنَ الشّارِبِ وكُلُّ ما يَحْرُمُ عَلى المُحْرِمِ، ومِثْلُهُ قَوْلُ عِكْرِمَةَ ومُجاهِدٍ ورُبَّما زادَ مُجاهِدٌ مَعَ ذَلِكَ رَمْيَ الجِمارِ.
وعَنْ صاحِبِ العَيْنِ والفَرّاءِ والزَّجّاجِ: التَّفَثُ الرَّمْيُ، والذَّبْحُ، والحَلْقُ وقَصُّ الأظْفارِ والشّارِبِ وشَعْرِ الإبِطِ. وهو قَوْلُ الحَسَنِ ونُسِبَ إلى مالِكِ بْنِ أنَسٍ أيْضًا. وعِنْدِي: أنَّ فِعْلَ (لْيَقْضُوا) يُنادِي عَلى أنَّ التَّفَثَ عَمَلٌ مِن أعْمالِ الحَجِّ ولَيْسَ وسَخًا ولا ظُفْرًا ولا شَعْرًا. ويُؤَيِّدُهُ ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وابْنِ عَبّاسٍ آنِفًا، وأنَّ مَوْقِعَ (ثُمَّ) في عَطْفِ جُمْلَةِ الأمْرِ عَلى ما قَبْلَها يُنادِي عَلى مَعْنى التَّراخِي الرُّتْبِيِّ فَيَقْتَضِي أنَّ المَعْطُوفَ بِـ (ثُمَّ) أهَمُّ مِمّا ذُكِرَ قَبْلَها فَإنَّ أعْمالَ الحَجِّ هي المُهِمُّ في الإتْيانِ إلى مَكَّةَ، فَلا جَرَمَ أنَّ التَّفَثَ هو مَناسِكُ الحَجِّ وهَذا الَّذِي دَرَجَ عَلَيْهِ الحَرِيرِيُّ في قَوْلِهِ في المَقامَةِ المَكِّيَّةِ ”فَلَمّا قَضَيْتُ بِعَوْنِ اللَّهِ التَّفَثَ. واسْتَبَحْتُ الطِّيبَ والرَّفَثَ. صادَفَ مَوْسِمُ الخَيْفِ. مَعْمَعانَ الصَّيْفِ“ . (p-٢٥٠)وقَوْلُهُ ﴿ولْيُوفُوا نُذُورَهُمْ﴾ أيْ إنْ كانُوا نَذَرُوا أعْمالًا زائِدَةً عَلى ما تَقْتَضِيهِ فَرِيضَةُ الحَجِّ مِثْلَ نَذْرِ طَوافٍ زائِدٍ أوِ اعْتِكافٍ في المَسْجِدِ الحَرامِ أوْ نُسُكًا أوْ إطْعامَ فَقِيرٍ أوْ نَحْوَ ذَلِكَ.
والنَّذْرُ: التِزامُ قُرْبَةٍ لِلَّهِ تَعالى لَمْ تَكُنْ واجِبَةً عَلى مُلْتَزِمِها بِتَعْلِيقٍ عَلى حُصُولِ مَرْغُوبٍ أوْ بِدُونِ تَعْلِيقٍ، وبِالنَّذْرِ تَصِيرُ القُرْبَةُ المُلْتَزَمَةُ واجِبَةً عَلى النّاذِرِ. وأشْهَرُ صِيغَةٍ: لِلَّهِ عَلَيَّ. . .، وفي هَذِهِ الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ النَّذْرَ كانَ مَشْرُوعًا في شَرِيعَةِ إبْراهِيمَ. «وقَدْ نَذَرَ عُمَرُ في الجاهِلِيَّةِ اعْتِكافَ لَيْلَةٍ بِالمَسْجِدِ الحَرامِ ووَفّى بِهِ في إسْلامِهِ» كَما في الحَدِيثِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ (ولْيُوفُوا) بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وسُكُونِ الواوِ بَعْدَها مُضارِعِ أوْفى. وقَرَأ أبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ (ولْيُوَفُّوا) بِتَشْدِيدِ الفاءِ، وهو بِمَعْنى قِراءَةِ التَّخْفِيفِ؛ لِأنَّ كِلْتا الصِّيغَتَيْنِ مِن فِعْلِ ”وفى“ المَزِيدِ فِيهِ بِالهَمْزَةِ وبِالتَّضْعِيفِ. وخُتِمَ خِطابُ إبْراهِيمَ بِالأمْرِ بِالطَّوافِ بِالبَيْتِ إيذانًا بِأنَّهم كانُوا يَجْعَلُونَ آخِرَ أعْمالِ الحَجِّ الطَّوافَ بِالبَيْتِ وهو المُسَمّى في الإسْلامِ طَوافَ الإفاضَةِ.
والعَتِيقُ: المُحَرَّرُ غَيْرُ المَمْلُوكِ لِلنّاسِ. شُبِّهَ بِالعَبْدِ العَتِيقِ في أنَّهُ لا مِلْكَ لِأحَدٍ عَلَيْهِ. وفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالمُشْرِكِينَ إذْ كانُوا يَمْنَعُونَ مِنهُ مَن يَشاءُونَ حَتّى جَعَلُوا بابَهُ مُرْتَفِعًا بِدُونِ دَرَجٍ لِئَلّا يَدْخُلَهُ إلّا مَن شاءُوا كَما جاءَ في حَدِيثِ عائِشَةَ أيّامَ الفَتْحِ. وأخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ قالَ: «إنَّما سَمّى اللَّهُ البَيْتَ العَتِيقَ لِأنَّهُ أعْتَقَهُ مِنَ الجَبابِرَةِ فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ جَبّارٌ قَطُّ» . واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآياتِ حِكايَةٌ عَمّا كانَ في عَهْدِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَلا تُؤْخَذُ مِنها أحْكامُ الحَجِّ والهَدايا في الإسْلامِ.
(p-٢٥١)وقَرَأ الجُمْهُورُ (ثُمَّ لْيَقْضُوا - ولْيُوفُوا - ولْيَطَّوَّفُوا) بِإسْكانِ لامِ الأمْرِ في جَمِيعِها. وقَرَأ ابْنُ ذَكْوانَ عَنِ ابْنِ عامِرٍ (ولِيُوفُوا - ولِيَطَّوَّفُوا) بِكَسْرِ اللّامِ فِيهِما. وقَرَأ ابْنُ هِشامٍ عَنِ ابْنِ عامِرٍ، وأبُو عَمْرٍو، ووَرْشٌ عَنْ نافِعٍ، وقُنْبُلٍ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ، ورُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ (ثُمَّ لِيَقْضُوا) بِكَسْرِ اللّامِ. وتَقَدَّمَ تَوْجِيهُ الوَجْهَيْنِ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) . وقَرَأ أبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ (ولْيُوَفُّوا) بِفَتْحِ الواوِ وتَشْدِيدِ الفاءِ مِن وفّى المُضاعَفِ.
{"ayah":"ثُمَّ لۡیَقۡضُوا۟ تَفَثَهُمۡ وَلۡیُوفُوا۟ نُذُورَهُمۡ وَلۡیَطَّوَّفُوا۟ بِٱلۡبَیۡتِ ٱلۡعَتِیقِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق