الباحث القرآني
﴿فَتَوَلّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتى﴾ ﴿قالَ لَهم مُوسى ويْلَكم لا تَفْتَرُوا عَلى اللَّهِ كَذِبًا فَيَسْحَتَكم بِعَذابٍ وقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى﴾
) تَفْرِيعُ التَّوَلِّي وجَمْعُ الكَيْدِ عَلى تَعْيِينِ مُوسى لِلْمَوْعِدِ إشارَةً إلى أنَّ فِرْعَوْنَ بادَرَ بِالِاسْتِعْدادِ لِهَذا المَوْعِدِ ولَمْ يُضِعِ الوَقْتَ لِلتَّهْيِئَةِ لَهُ.
والتَّوَلِّي: الِانْصِرافُ، وهو هُنا مُسْتَعْمَلٌ في حَقِيقَةٍ، أيِ انْصَرَفَ عَنْ ذَلِكَ المَجْلِسِ إلى حَيْثُ يُرْسِلُ الرُّسُلَ إلى المَدائِنِ لِجَمْعِ مَن عُرِفُوا بِعِلْمِ السِّحْرِ، وهَذا كَقَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ النّازِعاتِ (﴿ثُمَّ أدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى﴾ [النازعات: ٢٢]) .
ومَعْنى جَمْعُ الكَيْدِ: تَدْبِيرُ أُسْلُوبِ مُناظَرَةِ مُوسى، وإعْدادُ الحِيَلِ لِإظْهارِ غَلَبَةِ السَّحَرَةِ عَلَيْهِ، وإقْناعِ الحاضِرِينَ بِأنَّ مُوسى لَيْسَ عَلى شَيْءٍ.
وهَذا أُسْلُوبٌ قَدِيمٌ في المُناظَراتِ: أنْ يَسْعى المُناظِرُ جُهْدَهُ لِلتَّشْهِيرِ بِبُطْلانِ حُجَّةِ خَصْمِهِ بِكُلِّ وسائِلِ التَّلْبِيسِ والتَّشْنِيعِ والتَّشْهِيرِ، ومُبادَأتِهِ بِما يَفُتُّ في عَضُدِهِ ويُشَوِّشُ رَأْيَهُ حَتّى يَذْهَبَ مِنهُ تَدْبِيرُهُ.
(p-٢٤٨)فالجَمْعُ هُنا مُسْتَعْمَلٌ في مَعْنى إعْدادِ الرَّأْيِ، واسْتِقْصاءِ تَرْتِيبِ الأمْرِ، كَقَوْلِهِ (﴿فَأجْمِعُوا أمْرَكُمْ﴾ [يونس: ٧١])، أيْ جَمَعَ رَأْيَهُ وتَدْبِيرَهُ الَّذِي يَكِيدُ بِهِ مُوسى. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى فَجَمَعَ أهْلَ كَيْدِهِ، أيْ جَمَعَ السَّحَرَةَ، عَلى حَدِّ قَوْلِهِ تَعالى (﴿فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ﴾ [الشعراء: ٣٨]) .
والكَيْدُ: إخْفاءُ ما بِهِ الضُّرُّ إلى وقْتِ فِعْلِهِ. وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى (﴿إنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف: ١٨٣]) في سُورَةِ الأعْرافِ.
ومَعْنى (﴿ثُمَّ أتى﴾) ثُمَّ حَضَرَ المَوْعِدَ، و(ثُمَّ) لِلْمُهْلَةِ الحَقِيقِيَّةِ والرُتْبِيَّةِ مَعًا، لِأنَّ حُضُورَهُ لِلْمَوْعِدِ كانَ بَعْدَ مُضِيِّ مُهْلَةِ الِاسْتِعْدادِ، ولِأنَّ ذَلِكَ الحُضُورَ بَعْدَ جَمْعِ كَيْدِهِ أهَمُّ مِن جَمْعِ الكَيْدِ، لِأنَّ فِيهِ ظُهُورَ أثَرِ ما أعَدَّهُ.
وجُمْلَةُ (﴿قالَ لَهم مُوسى﴾ [الشعراء: ٤٣]) مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا، لِأنَّ قَوْلَهُ (﴿ثُمَّ أتى﴾) يُثِيرُ سُؤالًا في نَفْسِ السّامِعِ أنْ يَقُولَ: فَماذا حَصَلَ حِينَ أتى فِرْعَوْنُ مِيقاتَ المَوْعِدِ. وأرادَ مُوسى مُفاتَحَةَ السَّحَرَةِ بِالمَوْعِظَةِ.
وضَمِيرُ (لَهم) عائِدٌ إلى مَعْلُومٍ مِن قَوْلِهِ (﴿فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ﴾ [طه: ٥٨]) أيْ بِأهْلِ سِحْرٍ، أوْ يَكُونُ الخِطابُ لِلْجَمِيعِ، لِأنَّ ذَلِكَ المَحْضَرَ كانَ بِمَرْأًى ومَسْمَعٍ مِن فِرْعَوْنَ وحاشِيَتِهِ، فَيَكُونُ مَعادُ الضَّمِيرِ ما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (﴿فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتى﴾)، أيْ جَمَعَ رِجالَ كَيْدِهِ.
والخِطابُ بِقَوْلِهِ (ويْلَكم) يَجُوزُ أنْ يَكُونَ أرادَ بِهِ حَقِيقَةَ الدُّعاءِ، فَيَكُونُ غَيْرَ جارٍ عَلى ما أُمِرَ بِهِ مِن إلانَةِ القَوْلِ لِفِرْعَوْنَ: إمّا لِأنَّ الخِطابَ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُواجِهًا بِهِ فِرْعَوْنَ بَلْ واجَهَ بِهِ السَّحَرَةَ خاصَّةً الَّذِينَ اقْتَضاهم قَوْلُهُ تَعالى (﴿فَجَمَعَ كَيْدَهُ﴾)، أيْ قالَ مُوسى لِأهْلِ كَيْدِ فِرْعَوْنَ؛ وإمّا لِأنَّهُ لَمّا رَأى أنَّ إلانَةَ القَوْلِ لَهُ غَيْرُ نافِعَةٍ، إذْ لَمْ يَزَلْ عَلى تَصْمِيمِهِ عَلى الكُفْرِ، أغْلَظَ القَوْلَ زَجْرًا لَهُ بِأمْرٍ خاصٍّ مِنَ اللَّهِ في تِلْكَ (p-٢٤٩)السّاعَةِ تَقْيِيدًا لِمُطْلَقِ الأمْرِ بِإلانَةِ القَوْلِ، كَما أُذِنَ لِمُحَمَّدٍ ﷺ بِقَوْلِهِ (﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأنَّهم ظُلِمُوا﴾ [الحج: ٣٩]) الآياتِ في سُورَةِ الحَجِّ؛ وإمّا لِأنَّهُ لَمّا رَأى تَمْوِيهِهِمْ عَلى الحاضِرِينَ أنَّ سِحْرَهم مُعْجِزَةٌ لَهم مِن آلِهَتِهِمْ ومِن فِرْعَوْنَ رَبِّهِمُ الأعْلى وقالُوا: (﴿بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إنّا لَنَحْنُ الغالِبُونَ﴾ [الشعراء: ٤٤]) رَأى واجِبًا عَلَيْهِ تَغْيِيرَ المُنْكَرِ بِلِسانِهِ بِأقْصى ما يَسْتَطِيعُ، لِأنَّ ذَلِكَ التَّغْيِيرَ هو المُناسِبُ لِمَقامِ الرِّسالَةِ.
ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ كَلِمَةُ ويْلَكُمُ مُسْتَعْمَلَةً في التَّعَجُّبِ مِن حالٍ غَرِيبَةٍ، أيْ أعْجَبُ مِنكم وأُحَذِّرُكم، كَقَوْلِ النَّبِيءِ ﷺ لِأبِي بَصِيرٍ: «ويْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ» فَحُكِيَ تَعَجُّبُ مُوسى بِاللَّفْظِ العَرَبِيِّ الدّالِّ عَلى العَجَبِ الشَّدِيدِ.
والوَيْلُ: اسْمٌ لِلْعَذابِ والشَّرِّ، ولَيْسَ لَهُ فِعْلٌ.
وانْتَصَبَ (ويْلَكم) إمّا عَلى إضْمارِ فِعْلٍ عَلى التَّحْذِيرِ أوِ الإغْراءِ، أيِ الزَمُوا ويْلَكم، أوِ احْذَرُوا ويْلَكم؛ وإمّا عَلى إضْمارِ حَرْفِ النِّداءِ فَإنَّهم يَقُولُونَ: يا ويْلَنا، ويا ويَلَتَنا، وتَقَدَّمْ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى (﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بِأيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: ٧٩]) في سُورَةِ البَقَرَةِ.
والِافْتِراءُ: اخْتِلاقُ الكَذِبِ. والجَمْعُ بَيْنَهُ وبَيْنَ كَذِبًا لِلتَّأْكِيدِ، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى (﴿ولَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ﴾ [المائدة: ١٠٣]) في سُورَةِ العُقُودِ.
والِافْتِراءُ الَّذِي عَناهُ مُوسى هو ما يُخَيِّلُونَهُ لِلنّاسِ مِنَ الشَّعْوَذَةِ، ويَقُولُونَ لَهم: انْظُرُوا كَيْفَ تَحَرَّكَ الحَبْلُ فَصارَ ثُعْبانًا، ونَحْوُ ذَلِكَ مِن تَوْجِيهِ التَّخَيُّلاتِ بِتَمْوِيهِ أنَّها حَقائِقُ، أوْ قَوْلُهم: ما نَفْعَلُهُ تَأْيِيدٌ مِنَ اللَّهِ لَنا، أوْ قَوْلُهم: أنَّ مُوسى كاذِبٌ وساحِرٌ، أوْ قَوْلُهم: إنَّ فِرْعَوْنَ إلَهَهم، أوْ آلِهَةُ فِرْعَوْنَ آلِهَةٌ. وقَدْ كانَتْ مَقالاتُ كُفْرِهِمْ أشْتاتًا.
(p-٢٥٠)قَرَأ الجُمْهُورُ (فَيَسْحَتَكم) - بِفَتْحِ الياءِ - مُضارِعُ سَحَتَهُ: إذا اسْتَأْصَلَهُ، وهي لُغَةُ أهْلِ الحِجازِ. وقَرَأهُ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ، وخَلَفٌ، ورُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ - بِضَمِّ الياءِ التَّحْتِيَّةِ - مِن أسْحَتَهُ، وهي لُغَةُ نَجْدٍ وبَنِي تَمِيمٍ، وكِلْتا اللُّغَتَيْنِ فُصْحى.
وجُمْلَةُ (﴿وقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى﴾) في مَوْضِعِ الحالِ مِن ضَمِيرِ (﴿لا تَفْتَرُوا﴾) وهي مَسُوقَةٌ مَساقَ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ، أيِ اجْتَنِبُوا الكَذِبَ عَلى اللَّهِ فَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى عَلَيْهِ مِن قَبْلُ. بَعْدَ أنْ وعَظَهم فَنَهاهم عَنِ الكَذِبِ عَلى اللَّهِ وأنْذَرَهم عَذابَهُ ضَرَبَ لَهم مَثَلًا بِالأُمَمِ البائِدَةِ الَّذِينَ افْتَرَوُا الكَذِبَ عَلى اللَّهِ فَلَمْ يَنْجَحُوا فِيما افْتَرَوْا لِأجْلِهِ.
و(مَنِ) المَوْصُولَةُ لِلْعُمُومِ.
ومَوْقِعُ هَذِهِ الجُمْلَةِ بَعْدَ الَّتِي قَبْلَها كَمَوْقِعِ القَضِيَّةِ الكُبْرى مِنَ القِياسِ الِاقْتِرانِيِّ.
وفِي كَلامِ مُوسى إعْلانٌ بِأنَّهُ لا يَتَقَوَّلُ عَلى اللَّهِ ما لَمْ يَأْمُرْهُ بِهِ لِأنَّهُ يَعْلَمُ أنَّهُ يَسْتَأْصِلُهُ بِعَذابٍ ويَعْلَمُ خَيْبَةَ مَنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ، ومَن كانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ لا يُقْدِمُ عَلَيْهِ.
{"ayahs_start":60,"ayahs":["فَتَوَلَّىٰ فِرۡعَوۡنُ فَجَمَعَ كَیۡدَهُۥ ثُمَّ أَتَىٰ","قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ وَیۡلَكُمۡ لَا تَفۡتَرُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبࣰا فَیُسۡحِتَكُم بِعَذَابࣲۖ وَقَدۡ خَابَ مَنِ ٱفۡتَرَىٰ"],"ayah":"قَالَ لَهُم مُّوسَىٰ وَیۡلَكُمۡ لَا تَفۡتَرُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبࣰا فَیُسۡحِتَكُم بِعَذَابࣲۖ وَقَدۡ خَابَ مَنِ ٱفۡتَرَىٰ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق