الباحث القرآني
﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمُ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾
هَذا انْتِقالٌ مِنَ الثَّناءِ عَلى الكِتابِ ومُتَقَلِّدِيهِ ووَصْفِ هَدْيِهِ وأثَرِ ذَلِكَ الهَدْيِ في الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِهِ والثَّناءِ عَلَيْهِمُ الرّاجِعِ إلى الثَّناءِ عَلى الكِتابِ لَمّا كانَ الثَّناءُ إنَّما يَظْهَرُ إذا تَحَقَّقَتْ آثارُ الصِّفَةِ الَّتِي اسْتُحِقَّ بِها الثَّناءُ، ولَمّا كانَ الشَّيْءُ قَدْ يُقَدَّرُ بِضِدِّهِ انْتَقَلَ إلى الكَلامِ عَلى الَّذِينَ لا يَحْصُلُ لَهُمُ الِاهْتِداءُ بِهَذا الكِتابِ، وسَجَّلَ أنَّ حِرْمانَهم مِنَ الِاهْتِداءِ بِهَدْيِهِ إنَّما كانَ مِن خُبْثِ أنْفُسِهِمْ إذْ نَبَوْا بِها عَنْ ذَلِكَ، فَما كانُوا مِنَ الَّذِينَ يُفَكِّرُونَ في عاقِبَةِ أُمُورِهِمْ ويَحْذَرُونَ مِن سُوءِ العَواقِبِ فَلَمْ يَكُونُوا مِنَ المُتَّقِينَ، وكانَ سَواءً عِنْدَهُمُ الإنْذارُ وعَدَمُهُ فَلَمْ يَتَلَقَّوُا الإنْذارَ بِالتَّأمُّلِ بَلْ كانَ سَواءً والعَدَمُ عِنْدَهم، وقَدْ قَرَنَتِ الآياتُ فَرِيقَيْنِ فَرِيقًا أضْمَرَ الكُفْرَ وأعْلَنَهُ وهم مِنَ المُشْرِكِينَ كَما هو غالِبُ اصْطِلاحِ القُرْآنِ في لَفْظِ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وفَرِيقًا أظْهَرَ الإيمانَ وهو مُخادِعٌ وهُمُ المُنافِقُونَ المُشارُ إلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا﴾ [البقرة: ٨] . وإنَّما قُطِعَتْ هاتِهِ الجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَها لِأنَّ بَيْنَهُما كَمالَ الِانْقِطاعِ إذِ الجُمَلُ السّابِقَةُ لِذِكْرِ الهُدى والمُهْتَدِينَ، وهَذِهِ لِذِكْرِ الضّالِّينَ فَبَيْنَهُما الِانْقِطاعُ لِأجْلِ التَّضادِّ، ويُعْلَمَ أنَّ هَؤُلاءِ قِسْمٌ مُضادٌّ لِلْقِسْمَيْنِ المَذْكُورَيْنِ قَبْلَهُ مِن سِياقِ المُقابَلَةِ.
وتَصْدِيرُ الجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ إمّا لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمامِ بِالخَبَرِ وغَرابَتِهِ دُونَ رَدِّ الإنْكارِ أوِ الشَّكِّ؛ لِأنَّ الخِطابَ لِلنَّبِيِّ ﷺ ولِلْأُمَّةِ وهو خِطابُ أُنُفٍ بِحَيْثُ لَمْ يَسْبِقْ شَكٌّ في وُقُوعِهِ، ومَجِيءُ إنَّ لِلِاهْتِمامِ كَثِيرٌ في الكَلامِ وهو في القُرْآنِ كَثِيرٌ. وقَدْ تَكُونُ إنَّ هُنا لِرَدِّ الشَّكِّ تَخْرِيجًا لِلْكَلامِ عَلى خِلافِ مُقْتَضى الظّاهِرِ؛ لِأنَّ حِرْصَ النَّبِيءِ ﷺ عَلى هِدايَةِ الكافِرِينَ تَجْعَلُهُ لا يَقْطَعُ الرَّجاءَ (p-٢٤٨)فِي نَفْعِ الإنْذارِ لَهم وحالُهُ كَحالِ مَن شَكَّ في نَفْعِ الإنْذارِ، أوْ لِأنَّ السّامِعِينَ لِما أُجْرِيَ عَلى الكِتابِ مِنَ الثَّناءِ بِبُلُوغِهِ الدَّرَجَةَ القُصْوى في الهِدايَةِ يُطْمِعُهم أنْ تُؤَثِّرَ هِدايَتُهُ في الكافِرِينَ المُعْرِضِينَ وتَجْعَلَهم كالَّذِينَ يَشُكُّونَ في أنْ يَكُونَ الإنْذارُ وعَدَمُهُ سَواءً فَأُخْرِجَ الكَلامُ عَلى خِلافِ مُقْتَضى الظّاهِرِ ونَزَلَ غَيْرُ الشّاكِّ مَنزِلَةَ الشّاكِّ. وقَدْ نُقِلَ عَنِ المُبَرِّدِ أنَّ إنْ لا تَأْتِي لِرَدِّ الإنْكارِ بَلْ لِرَدِّ الشَّكِّ.
وقَدْ تَبَيَّنَ أنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا المَذْكُورِينَ هُنا هم فَرِيقٌ مِنَ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ هم مَأْيُوسٌ مِن إيمانِهِمْ، فالإتْيانُ في ذِكْرِهِمْ بِالتَّعْرِيفِ بِالمَوْصُولِ: إمّا أنْ يَكُونَ لِتَعْرِيفِ العَهْدِ مُرادًا مِنهُ قَوْمٌ مَعْهُودُونَ كَأبِي جَهْلٍ والوَلِيدِ بْنِ المُغِيرَةِ وأضْرابِهِمْ مِن رُؤُوسِ الشِّرْكِ وزُعَماءِ العِنادِ دُونَ مَن كانَ مُشْرِكًا في أيّامِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ ثُمَّ مَن آمَنَ بَعْدُ مِثْلَ أبِي سُفْيانَ بْنِ حَرْبٍ وغَيْرِهِ مِن مُسْلِمَةِ الفَتْحِ، وإمّا أنْ يَكُونَ المَوْصُولُ لِتَعْرِيفِ الجِنْسِ المُفِيدِ لِلِاسْتِغْراقِ عَلى أنَّ المُرادَ مِنَ الكُفْرِ أبْلَغُ أنْواعِهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ لا يُؤْمِنُونَ فَيَكُونُ عامًّا مَخْصُوصًا بِالحِسِّ لِمُشاهَدَةِ مَن آمَنَ مِنهم أوْ يَكُونُ عامًّا مُرادًا بِهِ الخُصُوصُ بِالقَرِينَةِ وهَذانِ الوَجْهانِ هُما اللَّذانِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِما المُحَقِّقُونَ مِنَ المُفَسِّرِينَ وهُما ناظِرانِ إلى أنَّ اللَّهَ أخْبَرَ عَنْ هَؤُلاءِ بِأنَّهم لا يُؤْمِنُونَ فَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونُوا مِمَّنْ تَبَيَّنَ بَعْدُ أنَّهُ ماتَ عَلى الكُفْرِ.
ومِنَ المُفَسِّرِينَ مَن تَأوَّلَ قَوْلَهُ تَعالى ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ عَلى مَعْنى الَّذِينَ قُضِيَ عَلَيْهِمْ بِالكُفْرِ والشَّقاءِ ونَظَّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: ٩٦] وهو تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ مِنَ اللَّفْظِ وشَتّانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ تَنْظِيرِهِ. ومِنَ المُفَسِّرِينَ مَن حَمَلَ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ عَلى رُؤَساءِ اليَهُودِ مِثْلَ حُيَيِّ بْنِ أخْطَبَ وأبِي رافِعٍ يَعْنِي بِناءً عَلى أنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ في المَدِينَةِ ولَيْسَ فِيها مِنَ الكافِرِينَ سِوى اليَهُودِ والمُنافِقِينَ وهَذا بَعِيدٌ مِن عادَةِ القُرْآنِ وإعْراضٌ عَنِ السِّياقِ المَقْصُودِ مِنهُ ذِكْرُ مَن حُرِمَ مِن هَدْيِ القُرْآنِ في مُقابَلَةِ مَن حَصَلَ لَهُمُ الِاهْتِداءُ بِهِ، وأيًّا ما كانَ فالمَعْنى عِنْدَ الجَمِيعِ أنَّ فَرِيقًا خاصًّا مِنَ الكُفّارِ لا يُرْجى إيمانُهم وهُمُ الَّذِينَ خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والمَقْصُودُ مِن ذَلِكَ أنَّ عَدَمَ اهْتِدائِهِمْ بِالقُرْآنِ كانَ لِعَدَمِ قابِلِيَّتِهِمْ لا لِنَقْصٍ في دَلالَةِ القُرْآنِ عَلى الخَيْرِ وهَدْيِهِ إلَيْهِ.
والكُفْرُ بِالضَّمِّ إخْفاءُ النِّعْمَةِ، وبِالفَتْحِ: السَّتْرُ مُطْلَقًا وهو مُشْتَقٌّ مِن كَفَرَ إذا سَتَرَ. ولَمّا كانَ إنْكارُ الخالِقِ أوْ إنْكارُ كَمالِهِ أوْ إنْكارُ ما جاءَتْ بِهِ رُسُلُهُ ضَرْبًا مِن كُفْرانِ نِعْمَتِهِ عَلى (p-٢٤٩)جاحِدِها، أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الكُفْرِ وغَلَبَ اسْتِعْمالُهُ في هَذا المَعْنى وهو في الشَّرْعِ إنْكارُ ما دَلَّتْ عَلَيْهِ الأدِلَّةُ القاطِعَةُ وتَناقَلَتْهُ جَمِيعُ الشَّرائِعِ الصَّحِيحَةِ الماضِيَةِ حَتّى عَلِمَهُ البَشَرُ وتَوَجَّهَتْ عُقُولُهم إلى البَحْثِ عَنْهُ ونُصِبَتْ عَلَيْهِ الأدِلَّةُ كَوَحْدانِيَّةِ اللَّهِ تَعالى ووُجُودِهِ ولِذَلِكَ عُدَّ أهْلُ الشِّرْكِ فِيما بَيْنَ الفَتْرَةِ كُفّارًا. وإنْكارُ ما عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ مَجِيءُ النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ ﷺ بِهِ ودَعَوْتُهُ إلَيْهِ وعَدُّهُ في أُصُولِ الإسْلامِ أوِ المُكابَرَةِ في الِاعْتِرافِ بِذَلِكَ ولَوْ مَعَ اعْتِقادِ صِدْقِهِ ولِذَلِكَ عَبَّرَ بِالإنْكارِ دُونَ التَّكْذِيبِ.
ويَلْحَقُ بِالكُفْرِ في إجْراءِ أحْكامِ الكُفْرِ عَلَيْهِ كُلُّ قَوْلٍ أوْ فِعْلٍ لا يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ مُؤْمِنٌ مُصَدِّقٌ بِحَيْثُ يَدُلُّ عَلى قِلَّةِ اكْتِراثِ فاعِلِهِ بِالإيمانِ وعَلى إضْمارِهِ الطَّعْنَ في الدِّينِ وتَوَسُّلِهِ بِذَلِكَ إلى نَقْضِ أُصُولِهِ، وإهانَتِهِ بِوَجْهٍ لا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ الظّاهِرَ وفي هَذا النَّوْعِ الأخِيرِ مَجالٌ لِاجْتِهادِ الفُقَهاءِ وفَتاوى أساطِينِ العُلَماءِ إثْباتًا ونَفْيًا بِحَسَبِ مَبْلَغِ دَلالَةِ القَوْلِ والفِعْلِ عَلى طَعْنٍ أوْ شَكٍّ. ومَنِ اعْتَبَرَ الأعْمالَ أوْ بَعْضَها المُعَيَّنَ في الإيمانِ اعْتَبَرَ فَقْدَها أوْ فَقْدَ بَعْضِها المُعَيَّنَ في الكُفْرِ.
قالَ القاضِي أبُو بَكْرٍ الباقِلّانِيُّ: القَوْلُ عِنْدِي أنَّ الكُفْرَ بِاللَّهِ هو الجَهْلُ بِوُجُودِهِ والإيمانَ بِاللَّهِ هو العِلْمُ بِوُجُودِهِ فالكُفْرُ لا يَكُونُ إلّا بِأحَدِ ثَلاثَةِ أُمُورٍ: أحَدُها الجَهْلُ بِاللَّهِ تَعالى. الثّانِي أنْ يَأْتِيَ بِفِعْلٍ أوْ قَوْلٍ أخْبَرَ اللَّهُ ورَسُولُهُ أوْ أجْمَعَ المُؤْمِنُونَ عَلى أنَّهُ لا يَكُونُ إلّا مِن كافِرٍ كالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ. الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ لَهُ قَوْلٌ أوْ فِعْلٌ لا يُمْكِنُ مَعَهُ العِلْمُ بِاللَّهِ تَعالى.
ونَقَلَ ابْنُ راشِدٍ في الفائِقِ عَنِ الأشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّ الكُفْرَ خَصْلَةٌ واحِدَةٌ. قالَ القُرافِيُّ في الفِرَقِ ٢٤١ أصْلُ الكُفْرِ هو انْتِهاكٌ خاصٌّ لِحُرْمَةِ الرُّبُوبِيَّةِ ويَكُونُ بِالجَهْلِ بِاللَّهِ وبِصِفاتِهِ أوْ بِالجُرْأةِ عَلَيْهِ وهَذا النَّوْعُ هو المَجالُ الصَّعْبُ لِأنَّ جَمِيعَ المَعاصِي جُرْأةٌ عَلى اللَّهِ.
وقَوْلُهُ ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمُ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ خَبَرُ ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ و”سَواءٌ“ اسْمٌ بِمَعْنى الِاسْتِواءِ فَهو اسْمُ مَصْدَرٍ دَلَّ عَلى ذَلِكَ لُزُومُ إفْرادِهِ وتَذْكِيرِهِ مَعَ اخْتِلافِ مَوْصُوفاتِهِ ومُخْبِراتِهِ فَإذا أخْبَرَ بِهِ أوْ وصَفَ كانَ ذَلِكَ كالمَصْدَرِ في أنَّ المُرادَ بِهِ مَعْنى اسْمِ الفاعِلِ لِقَصْدِ المُبالَغَةِ. وقَدْ قِيلَ إنَّ سَواءٌ اسْمٌ بِمَعْنى المَثَلِ فَيَكُونُ التِزامُ إفْرادِهِ وتَذْكِيرِهِ لِأنَّ المِثْلِيَّةَ لا تَتَعَدَّدُ، وإنْ تَعَدَّدَ مَوْصُوفُها تَقُولُ هم رِجالٌ سَواءٌ لِزَيْدٍ بِمَعْنى مِثْلٌ لِزَيْدٍ. وإنَّما عَدّى سَواءً بِعَلى هُنا وفي غَيْرِ مَوْضِعٍ ولَمْ يُعَلِّقْ بِعِنْدَ ونَحْوِها مَعَ أنَّهُ المَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِعْلاءِ في مِثْلِهِ، لِلْإشارَةِ إلى تَمَكُّنِ الِاسْتِواءِ عِنْدَ المُتَكَلِّمِ وأنَّهُ لا مَصْرِفَ لَهُ عَنْهُ ولا تَرَدُّدَ لَهُ فِيهِ فالمَعْنى سَواءٌ عِنْدَهُمُ الإنْذارُ وعَدَمُهُ.
(p-٢٥٠)واعْلَمْ أنَّ لِلْعَرَبِ في ”سَواءٍ“ اسْتِعْمالَيْنِ: أحَدُهُما أنْ يَأْتُوا بِسَواءٍ عَلى أصْلِ وضْعِهِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى مَعْنى التَّساوِي في وصْفٍ بَيْنَ مُتَعَدِّدٍ فَيَقَعُ مَعَهُ سَواءٌ ما يَدُلُّ عَلى مُتَعَدِّدٍ نَحْوَ ضَمِيرِ الجَمْعِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَهم فِيهِ سَواءٌ﴾ [النحل: ٧١] ونَحْوَ العَطْفِ في قَوْلِ بُثَيْنَةَ:
سَواءٌ عَلَيْنا يا جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ إذا مِتَّ بَأْساءُ الحَياةِ ولِينُها ويَجْرِي إعْرابُهُ عَلى ما يَقْتَضِيهِ مَوْقِعُهُ مِنَ التَّرْكِيبِ؛ وثانِيهُما أنْ يَقَعَ مَعَ هَمْزَةِ التَّسْوِيَةِ وما هي إلّا هَمْزَةُ اسْتِفْهامٍ كَثُرَ وُقُوعُها بَعْدَ كَلِمَةِ سَواءٍ ومَعَها أمِ العاطِفَةُ الَّتِي تُسَمّى المُتَّصِلَةُ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿سَواءٌ عَلَيْنا أجَزِعْنا أمْ صَبَرْنا﴾ [إبراهيم: ٢١] وهَذا أكَثَرُ اسْتِعْمالَيْها وتَرَدَّدَ النُّحاةُ في إعْرابِهِ وأظْهَرُ ما قالُوهُ وأسْلَمُهُ أنَّ (سَواءً) خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وأنَّ الفِعْلَ الواقِعَ بَعْدَهُ مُقْتَرِنًا بِالهَمْزَةِ في تَأْوِيلِ مُبْتَدَأٍ لِأنَّهُ صارَ بِمَنزِلَةِ المَصْدَرِ إذْ تَجَرَّدَ عَنِ النِّسْبَةِ وعَنِ الزَّمانِ، فالتَّقْدِيرُ في الآيَةِ سَواءٌ عَلَيْهِمْ إنْذارُكَ وعَدَمُهُ.
وأظْهَرُ عِنْدِي مِمّا قالُوهُ أنَّ المُبْتَدَأ بَعْدَ سَواءٍ مُقَدَّرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهامُ الواقِعُ مَعَهُ وأنَّ التَّقْدِيرَ سَواءٌ جَوابٌ ﴿أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ وهَذا يَجْرِي عَلى نَحْوِ قَوْلِ القائِلِ عَلِمْتُ أزْيَدٌ قائِمٌ إذْ تَقْدِيرُهُ عَلِمْتُ جَوابَ هَذا السُّؤالِ، ولَكَ أنْ تَجْعَلَ سَواءً مُبْتَدَأً رافِعًا لِفاعِلٍ سَدَّ مَسَدَّ الخَبَرِ لِأنَّ سَواءً في مَعْنى مُسْتَوٍ فَهو في قُوَّةِ اسْمِ الفاعِلِ فَيَرْفَعُ فاعِلًا سادًّا مَسَدَّ خَبَرِ المُبْتَدَأِ وجَوابُ مِثْلِ هَذا الِاسْتِفْهامِ لَمّا كانَ واحِدًا مِن أمْرَيْنِ كانَ الإخْبارُ بِاسْتِوائِهِما عِنْدَ المُخْبِرِ مُشِيرًا إلى أمْرَيْنِ مُتَساوِيَيْنِ ولِأجْلِ كَوْنِ الأصْلِ في خَبَرِهِ الإفْرادُ كانَ الفِعْلُ بَعْدَ سَواءٍ مُؤَوَّلًا بِمَصْدَرٍ ووَجْهُ الأبْلَغِيَّةِ فِيهِ أنَّ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ لِخَفاءِ الِاسْتِواءِ بَيْنَهُما حَتّى لَيَسْألَ السّائِلُونَ: أفَعَلَ فُلانٌ كَذا وكَذا فَيُقالُ إنَّ الأمْرَيْنِ سَواءٌ في عَدَمِ الِاكْتِراثِ بِهِما وعَدَمِ تَطَلُّبِ الجَوابِ عَلى الِاسْتِفْهامِ مِن أحَدِهِما فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمُ أأنْذَرْتَهُمُ﴾ مُشِيرًا إلى أنَّ النّاسَ لِتَعَجُّبِهِمْ في دَوامِ الكُفّارِ عَلى كُفْرِهِمْ مَعَ ما جاءَهم مِنَ الآياتِ بِحَيْثُ يَسْألُ السّائِلُونَ أأنْذَرَهُمُ النَّبِيُّ أمْ لَمْ يُنْذِرْهم مُتَيَقِّنِينَ أنَّهُ لَوْ أنْذَرَهم لَما تَرَدَّدُوا في الإيمانِ فَقِيلَ: إنَّهم سَواءٌ عَلَيْهِمْ جَوابُ تَساؤُلِ النّاسِ عَنْ إحْدى الأمْرَيْنِ، وبِهَذا انْتَفى جَمِيعُ التَّكَلُّفاتِ الَّتِي فَرَضَها النُّحاةُ هُنا ونَبْرَأُ مِمّا ورَدَ عَلَيْها مِنَ الأبْحاثِ كَكَوْنِ الهَمْزَةِ خارِجَةً عَنْ مَعْنى الِاسْتِفْهامِ، وكَيْفَ يَصِحُّ عَمَلَ ما بَعْدَ الِاسْتِفْهامِ فِيما قَبْلَهُ إذا أُعْرِبَ سَواءٌ خَبَرًا والفِعْلُ بَعْدَ الهَمْزَةِ مُبْتَدَأً مُجَرَّدًا عَنِ الزَّمانِ، وكَكَوْنِ الفِعْلِ مُرادًا مِنهُ مُجَرَّدُ الحَدَثِ، وكَدَعْوى كَوْنِ الهَمْزَةِ في التَّسْوِيَةِ مَجازًا بِعَلاقَةِ (p-٢٥١)اللُّزُومِ، وكَوْنِ (أمْ) بِمَعْنى الواوِ لِيَكُونَ الكَلامُ لِشَيْئَيْنِ لا لِأحَدِ شَيْئَيْنِ ونَحْوُ ذَلِكَ، ولا نَحْتاجُ إلى تَكَلُّفِ الجَوابِ عَنِ الإيرادِ الَّذِي أُورِدَ عَلى جَعْلِ الهَمْزَةِ بِمَعْنى سَواءٍ إذْ يُؤَوَّلُ إلى مَعْنى اسْتَوى الإنْذارُ وعَدَمُهُ عِنْدَهم سَواءٌ فَيَكُونُ تَكْرارًا خالِيًا مِنَ الفائِدَةِ فَيُجابُ بِما نُقِلَ عَنْ صاحِبِ الكَشّافِ أنَّهُ قالَ مَعْناهُ أنَّ الإنْذارَ وعَدَمَهُ المُسْتَوِيَيْنِ في عِلْمِ المُخاطَبِ هُما مُسْتَوِيانِ في عَدَمِ النَّفْعِ، فاخْتَلَفَتْ جِهَةُ المُساواةِ كَما نَقَلَهُ التَّفْتَزانِيُّ في شَرْحِ الكَشّافِ.
ويَتَعَيَّنُ إعْرابُ سَواءٍ في مِثْلِهِ مُبْتَدَأً والخَبَرُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهامُ تَقْدِيرُهُ جَوابُ هَذا الِاسْتِفْهامِ فَسَواءٌ في الآيَةِ مُبْتَدَأٌ ثانٍ والجُمْلَةُ خَبَرٌ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ودَعْ عَنْكَ كُلَّ ما خاضَ فِيهِ الكاتِبُونَ عَلى الكَشّافِ، وحَرْفُ (عَلى) الَّذِي يُلازِمُ كَلِمَةَ سَواءً غالِبًا هو لِلِاسْتِعْلاءِ المَجازِيِّ المُرادِ بِهِ التَّمَكُّنُ أيْ إنَّ هَذا الِاسْتِواءَ مُتَمَكِّنٌ مِنهم لا يَزُولُ عَنْ نُفُوسِهِمْ ولِذَلِكَ قَدْ يَجِيءُ بَعْضُ الظُّرُوفِ في مَوْضِعِ عَلى مَعَ كَلِمَةِ سَواءٍ مِثْلَ عِنْدَ، ولَدى، قالَ أبُو الشَّغْبِ العَبْسِيُّ:
لا تَعْذِلِي في جُنْدُجٍ إنَّ جُنْدُجًاوَلَيْثَ كَفِرَّيْنٍ لَدَيَّ سَواءُ وسَيَأْتِي تَحْقِيقٌ لِنَظِيرِ هَذا التَّرْكِيبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ الأعْرافِ ﴿سَواءٌ عَلَيْكم أدَعَوْتُمُوهم أمْ أنْتُمْ صامِتُونَ﴾ [الأعراف: ١٩٣]، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ﴿أأنْذَرْتَهُمْ﴾ بِهَمْزَتَيْنِ أوَّلُهُما مُحَقَّقَةٌ والثّانِيَةُ مُسَهَّلَةٌ. وقَرَأ قالُونُ عَنْ نافِعٍ ووِرَشٍ عَنْهُ في رِوايَةِ البَغْدادِيِّينَ وأبُو عَمْرٍو وأبُو جَعْفَرٍ كَذَلِكَ مَعَ إدْخالِ ألِفٍ بَيْنَ الهَمْزَتَيْنِ، وكِلْتا القِراءَتَيْنِ لُغَةٌ حِجازِيَّةٌ. وقَرَأهُ حَمْزَةُ وعاصِمٌ والكِسائِيُّ بِتَحْقِيقِ الهَمْزَتَيْنِ وهي لُغَةُ تَمِيمٍ. ورَوى أهْلُ مِصْرَ عَنْ ورْشٍ إبْدالَ الهَمْزَةِ الثّانِيَةِ ألِفًا. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وهو لَحْنٌ، وهَذا يُضَعِّفُ رِوايَةَ المِصْرِيِّينَ عَنْ ورْشٍ، وهَذا اخْتِلافٌ في كَيْفِيَّةِ الأداءِ فَلا يُنافِي التَّواتُرَ.
* * *
﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾
الأظْهَرُ أنَّ هاتِهِ الجُمْلَةَ مَسُوقَةٌ لِتَقْرِيرِ مَعْنى الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها وهي ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمُ أأنْذَرْتَهُمْ﴾ إلَخْ فَلَكَ أنْ تَجْعَلَها خَبَرًا ثانِيًا عَنْ ”إنَّ“ واسْتِفادَةُ التَّأْكِيدِ مِنَ السِّياقِ ولَكَ (p-٢٥٢)أنْ تَجْعَلَها تَأْكِيدًا وعَلى الوَجْهَيْنِ فَقَدْ فُصِّلَتْ إمّا جَوازًا عَلى الأوَّلِ وإمّا وُجُوبًا عَلى الثّانِي، وقَدْ فَرَضُوا في إعْرابِها وُجُوهًا أُخَرَ لا نُكْثِرُ بِها لِضَعْفِها، وقَدْ جَوَّزَ في الكَشّافِ جَعْلَ جُمْلَةِ ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمُ أأنْذَرْتَهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾ اعْتِراضًا لِجُمْلَةِ ﴿لا يُؤْمِنُونَ﴾ وهو مَرْجُوحٌ لَمْ يَرْتَضِهِ السَّعْدُ والسَّيِّدُ، إذْ لَيْسَ مَحَلَّ الإخْبارِ هو لا يُؤْمِنُونَ إنَّما المُهِمُّ أنْ يُخْبِرَ عَنْهم بِاسْتِواءِ الإنْذارِ وعَدَمِهِ عِنْدَهم، فَإنَّ في ذَلِكَ نِداءً عَلى مُكابَرَتِهِمْ وغَباوَتِهِمْ، وعُذْرًا لِلنَّبِيِّ ﷺ في الحِرْصِ عَلى إيمانِهِمْ، وتَسْجِيلًا بِأنَّ مَن لَمْ يَفْتَحْ سَمْعَهُ وقَلْبَهُ لِتَلَقِّي الحَقِّ والرَّشادِ لا يَنْفَعُ فِيهِ حِرْصٌ ولا ارْتِيادٌ، وهَذا وإنْ كانَ يَحْصُلُ عَلى تَقْدِيرِهِ جَعْلَ ”لا يُؤْمِنُونَ“ خَبَرًا إلّا أنَّ المَقْصُودَ مِنَ الكَلامِ هو الأوْلى بِالإخْبارِ، ولِأنَّهُ يَصِيرُ الخَبَرُ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ إذْ يَصِيرُ بِمَثابَةِ أنْ يُقالَ إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لا يُؤْمِنُونَ، فَقَدْ عُلِمَ أنَّهم كَفَرُوا فَعَدَمُ إيمانِهِمْ حاصِلٌ، وإنْ كانَ المُرادُ مِن لا يُؤْمِنُونَ اسْتِمْرارُ الكُفْرِ في المُسْتَقْبَلِ إلّا أنَّهُ خَبَرٌ غَرِيبٌ بِخِلافِ ما إذا جُعِلَ تَفْسِيرًا لِلْخَبَرِ.
وقَدِ احْتَجَّ بِهاتِهِ الآيَةِ الَّذِينَ قالُوا بِوُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِما لا يُطاقُ احْتِجاجًا عَلى الجُمْلَةِ إذْ مَسْألَةُ التَّكْلِيفِ بِما لا يُطاقُ بَقِيَتْ زَمانًا غَيْرَ مُحَرَّرَةٍ، وكانَ كُلُّ مَن لاحَ لَهُ فِيها دَلِيلٌ اسْتَدَلَّ بِهِ، وكانَ التَّعْبِيرُ عَنْها بِعِباراتٍ فَمِنهم مَن يُعَنْوِنُها التَّكْلِيفَ بِالمُحالِ، ومِنهم مَن يُعَبِّرُ بِالتَّكْلِيفِ بِما لَيْسَ بِمَقْدُورٍ، ومِنهم مَن يُعَبِّرُ بِالتَّكْلِيفِ بِما لا يُطاقُ، ثُمَّ إنَّهم يَنْظُرُونَ مَرَّةً لِلِاسْتِحالَةِ الذّاتِيَّةِ العَقْلِيَّةِ، ومَرَّةً لِلذّاتِيَّةِ العادِيَّةِ، ومَرَّةً لِلْعَرَضِيَّةِ، ومَرَّةً لِلْمَشَقَّةِ القَوِيَّةِ المُحْرِجَةِ لِلْمُكَلَّفِ فَيَخْلِطُونَها بِما لا يُطاقُ ولَقَدْ أفْصَحَ أبُو حامِدٍ الإسْفَرايِينِيُّ وأبُو حامِدٍ الغَزالِيُّ وأضْرابُهُما عَمّا يَرْفَعُ القِناعَ عَنْ وجْهِ المَسْألَةِ فَصارَتْ لا تُحَيِّرُ أفْهامًا وانْقَلَبَ قَتادُها ثُمامًا. وذَلِكَ أنَّ المُحالَ مِنهُ مُحالٌ لِذاتِهِ عَقْلًا كَجَمْعِ النَّقِيضَيْنِ ومِنهُ مُحالٌ عادَةً كَصُعُودِ السَّماءِ ومِنهُ ما فِيهِ حَرَجٌ وإعْناتٌ كَذَبْحِ المَرْءِ ولَدَهُ ووُقُوفِ الواحِدِ لِعَشَرَةٍ مِن أقْرانِهِ، ومِنهُ مَحالٌ عَرَضَتْ لَهُ الِاسْتِحالَةُ بِالنَّظَرِ إلى شَيْءٍ آخَرَ كَإيمانِ مَن عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَ إيمانِهِ وحَجِّ مَن عَلِمَ اللَّهُ أنَّهُ لا يَحُجُّ، وكُلَّ هاتِهِ أُطْلِقَ عَلَيْها ما لا يُطاقُ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ﴾ [البقرة: ٢٨٦] إذِ المُرادُ ما يَشُقُّ مَشَقَّةً عَظِيمَةً، وأُطْلِقَ عَلَيْها المُحالُ حَقِيقَةً ومُطابَقَةً في بَعْضِها والتِزامًا في البَعْضِ، ومَجازًا في البَعْضِ، وأُطْلِقَ عَلَيْها عَدَمُ المَقْدُورِ كَذَلِكَ، كَما أُطْلِقَ الجَوازُ عَلى الإمْكانِ، وعَلى الإمْكانِ لِلْحِكْمَةِ، وعَلى الوُقُوعِ.
فَنَشَأ مِن تَفاوُتِ هاتِهِ الأقْسامِ (p-٢٥٣)واخْتِلافِ هاتِهِ الإطْلاقاتِ مَقالاتٌ مَلَأتِ الفَضاءَ.
وكانَتْ لِلْمُخالِفِينَ كَحَجَرِ المَضاءِ، فَلَمّا قَيَّضَ اللَّهُ أعْلامًا نَفَوْا ما شاكَها، وفَتَحُوا أغْلاقَها، تَبَيَّنَ أنَّ الجَوازَ الإمْكانِيَّ في الجَمِيعِ ثابِتٌ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى يَفْعَلُ ما يَشاءُ لَوْ شاءَ، لا يُخالِفُ في ذَلِكَ مُسْلِمٌ. وثَبَتَ أنَّ الجَوازَ المُلائِمَ لِلْحِكْمَةِ مُنْتَفٍ عِنْدَنا وعِنْدَ المُعْتَزِلَةِ وإنِ اخْتَلَفْنا في تَفْسِيرِ الحِكْمَةِ لِاتِّفاقِ الكُلِّ عَلى أنَّ فائِدَةَ التَّكْلِيفِ تَنْعَدِمُ إذا كانَ المُكَلَّفُ بِهِ مُتَعَذَّرَ الوُقُوعِ.
وثَبَتَ أنَّ المُمْتَنِعَ لِتَعَلُّقِ العِلْمِ بِعَدَمِ وُقُوعِهِ مُكَلَّفٌ بِهِ جَوازًا ووُقُوعًا، وجُلُّ التَّكالِيفِ لا تَخْلُو مِن ذَلِكَ، وثَبَتَ ما هو أخَصُّ وهو رَفْعُ الحَرَجِ الخارِجِيِّ عَنِ الحَدِّ المُتَعارَفِ، تُفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ تَعالى لِقَوْلِهِ ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨] وقَوْلِهِ ﴿عَلِمَ أنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ﴾ [المزمل: ٢٠] أيْ لا تُطِيقُونَهُ كَما أشارَ إلَيْهِ ابْنُ العَرَبِيِّ في الأحْكامِ، هَذا مِلاكُ هاتِهِ المَسْألَةِ عَلى وجْهٍ يَلْتَئِمُ بِهِ مُتَناثِرُها، ويُسْتَأْنَسُ مُتَنافِرُها.
وبَقِيَ أنْ نُبَيِّنَ لَكم وجْهَ تَعَلُّقِ التَّكْلِيفِ بِمَن عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَ امْتِثالِهِ أوْ بِمَن أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى بِأنَّهُ لا يَمْتَثِلُ كَما في هاتِهِ الآيَةِ، وهي أخَصُّ مِن مَسْألَةِ العِلْمِ بِعَدَمِ الوُقُوعِ إذْ قَدِ انْضَمَّ الإخْبارُ إلى العِلْمِ كَما هو وجْهُ اسْتِدْلالِ المُسْتَدِلِّ بِها، فالجَوابُ أنَّ مَن عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَ فِعْلِهِ لَمْ يُكَلِّفْهُ بِخُصُوصِهِ ولا وجَّهَ لَهُ دَعْوَةً تَخُصُّهُ إذْ لَمْ يَثْبُتْ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ خَصَّ أفْرادًا بِالدَّعْوَةِ إلّا وقَدْ آمَنُوا كَما خَصَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ حِينَ جاءَهُ، بِقَوْلِهِ أما آنَ لَكَ يا ابْنَ الخَطّابِ أنْ تَقُولَ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وقَوْلِهِ لِأبِي سُفْيانَ يَوْمَ الفَتْحِ قَرِيبًا مِن تِلْكُمُ المَقالَةِ، وخَصَّ عَمَّهُ أبا طالِبٍ بِمِثْلِها، ولَمْ تَكُنْ يَوْمَئِذٍ قَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، فَلَمّا كانَتِ الدَّعْوَةُ عامَّةً وهم شَمِلَهُمُ العُمُومُ بَطُلَ الِاسْتِدْلالُ بِالآيَةِ وبِالدَّلِيلِ العَقْلِيِّ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا أنْ يُقالَ لِماذا لَمْ يُخَصَّصْ مَن عُلِمَ عَدَمُ امْتِثالِهِ مِن عُمُومِ الدَّعْوَةِ ؟ ودَفْعُ ذَلِكَ أنَّ تَخْصِيصَ هَؤُلاءِ يُطِيلُ الشَّرِيعَةَ ويُجَرِّئُ غَيْرَهم ويُضْعِفُ إقامَةَ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، ويُوهِمُ عَدَمَ عُمُومِ الرِّسالَةِ، عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى قَدِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ الفَصْلَ بَيْنَ ما في قَدَرِهِ وعِلْمِهِ، وبَيْنَ ما يَقْتَضِيهِ التَّشْرِيعُ والتَّكْلِيفُ، وسِرُّ الحِكْمَةِ في ذَلِكَ بَيَّناهُ في مَواضِعَ يَطُولُ الكَلامُ بِجَلْبِها ويَخْرُجُ مِن غَرَضِ التَّفْسِيرِ، وأحْسَبُ أنَّ تَفَطُّنَكم إلى مُجْمَلِهِ لَيْسَ بِعَسِيرٍ.
{"ayah":"إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ سَوَاۤءٌ عَلَیۡهِمۡ ءَأَنذَرۡتَهُمۡ أَمۡ لَمۡ تُنذِرۡهُمۡ لَا یُؤۡمِنُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق