﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا تَدَایَنتُم بِدَیۡنٍ إِلَىٰۤ أَجَلࣲ مُّسَمࣰّى فَٱكۡتُبُوهُۚ وَلۡیَكۡتُب بَّیۡنَكُمۡ كَاتِبُۢ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَلَا یَأۡبَ كَاتِبٌ أَن یَكۡتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُۚ فَلۡیَكۡتُبۡ وَلۡیُمۡلِلِ ٱلَّذِی عَلَیۡهِ ٱلۡحَقُّ وَلۡیَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُۥ وَلَا یَبۡخَسۡ مِنۡهُ شَیۡـࣰٔاۚ فَإِن كَانَ ٱلَّذِی عَلَیۡهِ ٱلۡحَقُّ سَفِیهًا أَوۡ ضَعِیفًا أَوۡ لَا یَسۡتَطِیعُ أَن یُمِلَّ هُوَ فَلۡیُمۡلِلۡ وَلِیُّهُۥ بِٱلۡعَدۡلِۚ وَٱسۡتَشۡهِدُوا۟ شَهِیدَیۡنِ مِن رِّجَالِكُمۡۖ فَإِن لَّمۡ یَكُونَا رَجُلَیۡنِ فَرَجُلࣱ وَٱمۡرَأَتَانِ مِمَّن تَرۡضَوۡنَ مِنَ ٱلشُّهَدَاۤءِ أَن تَضِلَّ إِحۡدَىٰهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحۡدَىٰهُمَا ٱلۡأُخۡرَىٰۚ وَلَا یَأۡبَ ٱلشُّهَدَاۤءُ إِذَا مَا دُعُوا۟ۚ وَلَا تَسۡـَٔمُوۤا۟ أَن تَكۡتُبُوهُ صَغِیرًا أَوۡ كَبِیرًا إِلَىٰۤ أَجَلِهِۦۚ ذَ ٰلِكُمۡ أَقۡسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقۡوَمُ لِلشَّهَـٰدَةِ وَأَدۡنَىٰۤ أَلَّا تَرۡتَابُوۤا۟ إِلَّاۤ أَن تَكُونَ تِجَـٰرَةً حَاضِرَةࣰ تُدِیرُونَهَا بَیۡنَكُمۡ فَلَیۡسَ عَلَیۡكُمۡ جُنَاحٌ أَلَّا تَكۡتُبُوهَاۗ وَأَشۡهِدُوۤا۟ إِذَا تَبَایَعۡتُمۡۚ وَلَا یُضَاۤرَّ كَاتِبࣱ وَلَا شَهِیدࣱۚ وَإِن تَفۡعَلُوا۟ فَإِنَّهُۥ فُسُوقُۢ بِكُمۡۗ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۖ وَیُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمࣱ﴾ [البقرة ٢٨٢]
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى فاكْتُبُوهُ ولْيَكْتُبْ بَيْنَكم كاتِبٌ بِالعَدْلِ ولا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ ولْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ ولْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ولا يَبْخَسْ مِنهُ شَيْئًا فَإنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهًا أوْ ضَعِيفًا أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلَّ هو فَلْيُمْلِلْ ولَيُّهُ بِالعَدْلِ﴾ .
لَمّا اهْتَمَّ القُرْآنُ بِنِظامِ أحْوالِ المُسْلِمِينَ في أمْوالِهِمْ فابْتَدَأ بِما بِهِ قِوامُ عامَّتِهِمْ مِن مُواساةِ الفَقِيرِ وإغاثَةِ المَلْهُوفِ، ووَضُحَ ذَلِكَ بِما فِيهِ عِبْرَةٌ لِلْمُعْتَبِرِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ التَّحْذِيرَ مِن مُضايَقَةِ المُحْتاجِينَ إلى المُواساةِ مُضايَقَةَ الرِّبا مَعَ ما في تِلْكَ المُعامَلاتِ مِنَ المَفاسِدِ، ثَلَّثَ بِبَيانِ التَّوَثُّقاتِ المالِيَّةِ مِنَ الإشْهادِ، وما يَقُومُ مَقامَهُ وهو الرَّهْنُ والِائْتِمانُ، وإنَّ تَحْدِيدَ التَّوَثُّقِ في المُعامَلاتِ مِن أعْظَمِ وسائِلِ بَثِّ الثِّقَةِ بَيْنَ المُتَعامِلِينَ، وذَلِكَ مِن شَأْنِهِ تَكْثِيرُ عُقُودِ المُعامَلاتِ ودَوْرانِ دُولابِ التَّمَوُّلِ.
والجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ، والمُناسَبَةُ في الِانْتِقالِ ظاهِرَةٌ عَقِبَ الكَلامِ عَلى غُرَماءَ أهْلِ الرِّبا.
والتَّدايُنُ مِن أعْظَمِ أسْبابِ رَواجِ المُعامَلاتِ لِأنَّ المُقْتَدِرَ عَلى تَنْمِيَةِ المالِ قَدْ يَعُوزُهُ المالُ فَيَضْطَرُّ إلى التَّدايُنِ لِيُظْهِرَ مَواهِبَهُ في التِّجارَةِ أوِ الصِّناعَةِ أوِ الزِّراعَةِ، ولِأنَّ المُتَرَفِّهَ قَدْ يَنْضُبُ المالُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ولَهُ قِبَلٌ بِهِ بَعْدَ حِينٍ، فَإذا لَمْ يَتَدايَنِ اخْتَلَّ نِظامُ مالِهِ، فَشَرَعَ اللَّهُ تَعالى لِلنّاسِ بَقاءَ التَّدايُنِ المُتَعارَفِ بَيْنَهم كَيْلا يَظُنُّوا أنَّ تَحْرِيمَ الرِّبا والرُّجُوعَ بِالمُتَعامِلِينَ إلى رُءُوسِ أمْوالِهِمْ إبْطالٌ لِلتَّدايُنِ كُلِّهِ، وأفادَ ذَلِكَ التَّشْرِيعَ بِوَضْعِهِ في تَشْرِيعٍ آخَرَ مُكَمِّلٍ لَهُ وهو التَّوَثُّقُ لَهُ بِالكِتابَةِ والإشْهادِ.
والخِطابُ مُوَجَّهٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أيْ لِمَجْمُوعِهِمْ، والمَقْصُودُ مِنهُ خُصُوصُ المُتَدايِنِينَ، والأخَصُّ بِالخِطابِ هو المَدِينُ لِأنَّ مِن حَقٍّ عَلَيْهِ أنْ يَجْعَلَ دائِنَهُ مُطْمَئِنَّ البالِ عَلى مالِهِ، فَعَلى المُسْتَقْرِضِ أنْ يَطْلُبَ الكِتابَةَ وإنْ لَمْ يَسْألْها الدّائِنُ، ويُؤْخَذْ هَذا مِمّا حَكاهُ اللَّهُ في سُورَةِ القَصَصِ عَنْ مُوسى وشُعَيْبٍ، إذِ اسْتَأْجَرَ شُعَيْبٌ مُوسى، فَلَمّا تَراوَضا عَلى الإجارَةِ وتَعْيِينِ أجَلِها قالَ مُوسى
﴿واللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وكِيلٌ﴾ [القصص: ٢٨] فَذَلِكَ إشْهادٌ عَلى نَفْسِهِ لِمُؤاجِرِهِ دُونَ أنْ يَسْألَهُ شُعَيْبٌ ذَلِكَ.
والتَّدايُنُ تَفاعَلٌ، وأُطْلِقَ هُنا مَعَ أنَّ الفِعْلَ صادِرٌ مِن جِهَةٍ واحِدَةٍ وهي جِهَةُ المُسَلِّفِ، لِأنَّكَ تَقُولُ دانَ مِنهُ فَدانَهُ، فالمُفاعَلَةُ مَنظُورٌ فِيها إلى المُخاطَبِينَ وهم مَجْمُوعُ الأُمَّةِ، لِأنَّ في المَجْمُوعِ دائِنًا ومَدِينًا فَصارَ المَجْمُوعُ مُشْتَمِلًا عَلى جانِبَيْنِ، ولَكَ أنْ تَجْعَلَ المُفاعَلَةَ عَلى غَيْرِ بابِها كَما تَقُولُ تَدايَنْتُ مِن زِيدٍ.
وزِيادَةُ قَيْدِ ”بِدَيْنٍ“ إمّا لِمُجَرَّدِ الإطْنابِ، كَما يَقُولُونَ: رَأيْتُهُ بِعَيْنِي ولَمْسَتُهُ بِيَدِي، وإمّا لِيَكُونَ مَعادًا لِلضَّمِيرِ في قَوْلِهِ (
﴿فاكْتُبُوهُ﴾) ولَوْلا ذِكْرُهُ لَقالَ: فاكْتُبُوا الدَّيْنَ فَلَمْ. يَكُنِ النَّظْمُ بِذَلِكَ الحَسَنَ، ولِأنَّهُ أبْيَنُ لِتَنْوِيعِ الدَّيْنِ إلى مُؤَجَّلٍ وحالٍّ، قالَهُ في الكَشّافِ.
وقالَ الطِّيبِيُّ عَنْ صاحِبِ الفَرائِدِ: يُمْكِنُ أنْ يُظَنَّ اسْتِعْمالُ التَّدايُنِ مَجازًا في الوَعْدِ كَقَوْلِ رُؤْبَةَ:
دايَنْتُ أرْوى والدُّيُونُ تُقْضى فَمَطَلَتْ بَعْضًا وأدَّتْ بَعْضا
فَذَكَرَ قَوْلَهُ: (بِدَيْنٍ) دَفْعًا لِتَوَهُّمِ المَجازِ، والدَّيْنُ في كَلامِ العَرَبِ العِوَضُ المُؤَخَّرُ. قالَ شاعِرُهم:
وعَدَتْنا بِدِرْهَمَيْنا طِلاءً ∗∗∗ وشِواءً مُعَجَّلًا غَيْرَ دَيْنِ
وقَوْلُهُ:
﴿إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾ طَلَبُ تَعْيِينِ الآجالِ لِلدُّيُونِ لِئَلّا يَقَعُوا في الخُصُوماتِ والتَّداعِي في المُراداتِ، فَأُدْمِجَ تَشْرِيعُ التَّأْجِيلِ في أثْناءِ تَشْرِيعِ التَّسْجِيلِ.
والأجَلُ مُدَّةٌ مِنَ الزَّمانِ مَحْدُودَةُ النِّهايَةِ مَجْعُولَةٌ ظَرْفًا لِعَمَلٍ غَيْرِ مَطْلُوبٍ فِيهِ المُبادَرَةُ، لِرَغْبَةِ تَمامِ ذَلِكَ العَمَلِ عِنْدَ انْتِهاءِ تِلْكَ المُدَّةِ أوْ في أثْنائِها.
والأجَلُ اسْمٌ ولَيْسَ بِمَصْدَرٍ، والمَصْدَرُ التَّأْجِيلُ، وهو إعْطاءُ الأجَلِ، ولِما فِيهِ مِن مَعْنى التَّوْسِعَةِ في العَمَلِ أُطْلِقَ الأجَلُ عَلى التَّأْخِيرِ، وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى: فَإذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ وقَوْلِهِ:
﴿حَتّى يَبْلُغَ الكِتابُ أجَلَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٥] .
والمُسَمّى حَقِيقَتُهُ المُمَيَّزُ بِاسْمٍ يُمَيِّزُهُ عَمّا يُشابِهُهُ في جِنْسِهِ أوْ نَوْعِهِ، فَمِنهُ أسْماءُ الأعْلامِ وأسْماءُ الأجْناسِ، والمُسَمّى هُنا مُسْتَعارٌ لِلْمُعَيَّنِ المَحْدُودِ، وإنَّما يُقْصَدُ تَحْدِيدُهُ بِنِهايَةٍ مِنَ الأزْمانِ المَعْلُومَةِ عِنْدَ النّاسِ، فَشُبِّهَ ذَلِكَ بِالتَّحْدِيدِ بِوَضْعِ الِاسْمِ بِجامِعِ التَّعْيِينِ، إذْ لا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ عَنْ أمْثالِهِ إلّا بِذَلِكَ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ لَفْظُ التَّسْمِيَةِ، ومِنهُ قَوْلُ الفُقَهاءِ: المَهْرُ المُسَمّى، فالمَعْنى أجَلٌ مُعَيَّنٌ بِنِهايَتِهِ، والدَّيْنُ لا يَكُونُ إلّا إلى أجَلٍ، فالمَقْصُودُ مِن وصْفِ الدَّيْنِ بِهَذا الوَصْفِ، هو وصْفُ أجَلٍ مُسَمًّى إدْماجًا لِلْأمْرِ بِتَعْيِينِ الأجَلِ.
وقَوْلُهُ:
﴿بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾ يَعُمُّ كُلَّ دَيْنٍ: مِن قَرْضٍ أوْ مِن بَيْعٍ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّها نَزَلَتْ في السَّلَمِ - يَعْنِي بَيْعَ الثِّمارِ ونَحْوِها مِنَ المِثْلِيّاتِ في ذِمَّةِ البائِعِ إذا كانَ ذا ذِمَّةٍ إلى أجَلٍ - وكانَ السَّلَمُ مِن مُعامَلاتِ أهْلِ المَدِينَةِ، ومَعْنى كَلامِهِ أنَّ بَيْعَ السَّلَمِ سَبَبُ نُزُولِ الآيَةِ، ومِنَ المُقَرَّرِ في الأُصُولِ أنَّ السَّبَبَ الخاصَّ لا يُخَصِّصُ العُمُومَ.
والأمْرُ في (فاكْتُبُوهُ) قِيلَ: لِلِاسْتِحْبابِ، وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ ومالِكٍ وأبِي حَنِيفَةَ والشّافِعِيِّ وأحْمَدَ، وعَلَيْهِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ:
﴿فَإنْ أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا﴾ [البقرة: ٢٨٣] تَكْمِيلًا لِمَعْنى الِاسْتِحْبابِ. وقِيلَ: الأمْرُ لِلْوُجُوبِ، قالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ والشَّعْبِيُّ وعَطاءٌ والنَّخَعِيُّ، ورُوِيَ عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، وهو قَوْلُ داوُدَ، واخْتارَهُ الطَّبَرِيُّ، ولَعَلَّ القائِلِينَ بِوُجُوبِ الإشْهادِ الآتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾ قائِلُونَ بِوُجُوبِ الكِتابَةِ، وعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ:
﴿فَإنْ أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا﴾ [البقرة: ٢٨٣] تَخْصِيصٌ لِعُمُومِ أزْمِنَةِ الوُجُوبِ لِأنَّ الأمْرَ لِلتَّكْرارِ، لاسِيَّما مَعَ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ، وسَمّاهُ الأقْدَمُونَ في عِباراتِهِمْ نَسْخًا.
والقَصْدُ مِنَ الأمْرِ بِالكِتابَةِ التَّوَثُّقُ لِلْحُقُوقِ وقَطْعُ أسْبابِ الخُصُوماتِ، وتَنْظِيمُ مُعامَلاتِ الأُمَّةِ، وإمْكانُ الِاطِّلاعِ عَلى العُقُودِ الفاسِدَةِ، والأرْجَحُ أنَّ الأمْرَ لِلْوُجُوبِ فَإنَّهُ الأصْلُ في الأمْرِ، وقَدْ تَأكَّدَ بِهَذِهِ المُؤَكِّداتِ، وأنَّ قَوْلَهُ:
﴿فَإنْ أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا﴾ [البقرة: ٢٨٣] الآيَةَ. رُخْصَةٌ خاصَّةٌ بِحالَةِ الِائْتِمانِ بَيْنَ المُتَعاقِدَيْنَ كَما سَيَأْتِي - فَإنَّ حالَةَ الِائْتِمانِ حالَةٌ سالِمَةٌ مِن تَطَرُّقِ التَّناكُرِ والخِصامِ - لِأنَّ اللَّهَ تَعالى أرادَ مِنَ الأُمَّةِ قَطْعَ أسْبابِ التَّهارُجِ والفَوْضى، فَأوْجَبَ عَلَيْهِمُ التَّوْثِيقَ في مَقاماتِ المُشاحَنَةِ، لِئَلّا يَتَساهَلُوا ابْتِداءً ثُمَّ يُفْضُوا إلى المُنازَعَةِ في العاقِبَةِ، ويَظْهَرُ لِي أنَّ في الوُجُوبِ نَفْيًا لِلْحَرَجِ عَنِ الدّائِنِ إذا طَلَبَ مِن مَدِينِهِ الكَتْبَ حَتّى لا يَعُدَّ المَدِينُ ذَلِكَ مِن سُوءِ الظَّنِّ بِهِ، فَإنَّ في القَوانِينِ مَعْذِرَةً لِلْمُتَعامِلَيْنِ.
وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الصَّحِيحُ عَدَمُ الوُجُوبِ لِأنَّ لِلْمَرْءَ أنْ يَهَبَ هَذا الحَقَّ ويَتْرُكَهُ بِإجْماعٍ، فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يَكْتُبَهُ، وإنَّما هو نَدْبٌ لِلِاحْتِياطِ، وهَذا كَلامٌ قَدْ يَرُوجُ في بادِئِ الرَّأْيِ ولَكِنَّهُ مَرْدُودٌ بِأنَّ مَقامَ التَّوَثُّقِ غَيْرُ مُقامِ التَّبَرُّعِ.
ومَقْصِدُ الشَّرِيعَةِ تَنْبِيهُ أصْحابِ الحُقُوقِ حَتّى لا يَتَساهَلُوا ثُمَّ يَنْدَمُوا ولَيْسَ المَقْصُودُ إبْطالَ ائْتِمانِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، كَما أنَّ مِن مَقاصِدِها دَفْعَ مُوجِدَةِ الغَرِيمِ مِن تَوَثُّقِ دائِنِهِ إذا عَلِمَ أنَّهُ بِأمْرٍ مِنَ اللَّهِ ومِن مَقاصِدِها قَطْعُ أسْبابِ الخِصامِ.
وقَوْلُهُ:
﴿فاكْتُبُوهُ﴾ يَشْمَلُ حالَتَيْنِ: الأُولى: حالَةُ كِتابَةِ المُتَدايِنَيْنِ بِخَطَّيْهِما، أوْ خَطِّ أحَدِهِما ويُسَلِّمُهُ لِلْآخَرِ إذا كانا يُحْسِنانِ الكِتابَةَ مَعًا، لِأنَّ جَهْلَ أحَدِهِما بِها يَنْفِي ثِقَتَهُ بِكِتابَةِ الآخَرِ.
والثّانِيَةُ: حالَةُ كِتابَةِ ثالِثٍ يَتَوَسَّطُ بَيْنَهُما، فَيَكْتُبُ ما تَعاقَدا عَلَيْهِ ويَشْهَدُ عَلَيْهِ شاهِدانِ ويُسَلِّمُهُ بِيَدِ صاحِبِ الحَقِّ إذا كانا لا يُحْسِنانِ الكِتابَةَ أوْ أحَدُهُما، وهَذِهِ غالِبُ أحْوالِ العَرَبِ عِنْدَ نُزُولِ الآيَةِ، فَكانَتِ الأُمِّيَّةُ بَيْنَهم فاشِيَّةً، وإنَّما كانَتِ الكِتابَةُ في الأنْبارِ والحِيرَةِ وبَعْضِ جِهاتِ اليَمَنِ وفِيمَن يَتَعَلَّمُها قَلِيلًا مِن مَكَّةَ والمَدِينَةِ.
وقَوْلُهُ:
﴿ولْيَكْتُبْ بَيْنَكم كاتِبٌ بِالعَدْلِ﴾ أمْرٌ لِلْمُتَدايِنَيْنِ بِأنْ يُوَسِّطُوا كاتِبًا يَكْتُبُ بَيْنَهم لِأنَّ غالِبَ حالِهِمْ جَهْلُ الكِتابَةِ.
فِعْلُ الأمْرِ بِهِ إلى الكاتِبِ مُبالَغَةٌ في أمْرِ المُتَعاقِدَيْنَ بِالِاسْتِكْتابِ، والعَرَبُ تَعْمِدُ إلى المَقْصُودِ فَتُنْزِلُهُ مَنزِلَةَ الوَسِيلَةِ مُبالَغَةً في حُصُولِهِ؛ كَقَوْلِهِمْ في الأمْرِ: لِيَكُنْ ولَدُكَ مُهَذَّبًا، وفي النَّهْيِ: لا تَنْسَ ما أوْصَيْتُكَ، ولا أعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذا.
فَمُتَعَلِّقُ فِعْلِ الطَّلَبِ هو ظَرْفُ (بَيْنَكم) ولَيْسَ هَذا أمْرًا لِلْكاتِبِ، وأمّا أمْرُ الكاتِبِ فَهو قَوْلُهُ:
﴿ولا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ﴾ .
وقَوْلُهُ: ”بِالعَدْلِ“، أيْ: بِالحَقِّ، ولَيْسَ العَدْلُ هُنا بِمَعْنى العَدالَةِ الَّتِي يُوصَفُ بِها الشّاهِدُ فَيُقالُ: رَجُلٌ عَدْلٌ، لِأنَّ وُجُودَ الباءِ يَصْرِفُ عَنْ ذَلِكَ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ الآتِي:
﴿فَلْيُمْلِلْ ولِيُّهُ بِالعَدْلِ﴾ .
ولِذَلِكَ قَصَرَ المُفَسِّرُونَ قَوْلَهُ: (فاكْتُبُوهُ) عَلى أنْ يَكْتُبَهُ كاتِبٌ غَيْرُ المُتَدايِنَيْنِ لِأنَّهُ الغالِبُ، ولِتَعْقِيبِهِ بِقَوْلِهِ:
﴿ولْيَكْتُبْ بَيْنَكم كاتِبٌ بِالعَدْلِ﴾ فَإنَّهُ كالبَيانِ لِكَيْفِيَّةِ (فاكْتُبُوهُ) . عَلى أنَّ كِتابَةَ المُتَعاقِدَيْنَ إنْ كانا يُحْسِنانِها تُؤْخَذُ بِلَحْنِ الخِطابِ أوْ فَحْواهُ.
ولِذَلِكَ كانَتِ الآيَةُ حُجَّةً عِنْدَ جُمْهُورِ العُلَماءِ لِصِحَّةِ الِاحْتِجاجِ بِالخَطِّ، فَإنَّ اسْتِكْتابَ الكاتِبِ إنَّما يَنْفَعُ بِقِراءَةِ خَطِّهِ.
وقَوْلُهُ:
﴿ولا يَأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ﴾ نَهْيٌ لِمَن تُطْلَبُ مِنهُ الكِتابَةُ بَيْنَ المُتَدايِنَيْنِ عَنِ الِامْتِناعِ مِنها إذا دُعِيَ إلَيْها، فَهَذا حُكْمٌ آخَرُ ولَيْسَ تَأْكِيدًا لِقَوْلِهِ
﴿ولْيَكْتُبْ بَيْنَكم كاتِبٌ بِالعَدْلِ﴾ لِما عَلِمْتَ آنِفًا مِن كَوْنِ ذَلِكَ حُكْمًا مُوَجَّهًا لِلْمُتَدايِنَيْنِ، وهَذا النَّهْيُ قَدِ اخْتُلِفَ في مُقْتَضاهُ فَقِيلَ نَهْيُ تَحْرِيمٍ، فالَّذِي يُدْعى لِأنْ يَكْتُبَ بَيْنَ المُتَدايِنَيْنِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الِامْتِناعُ، وعَلَيْهِ فالإجابَةُ لِلْكِتابَةِ فَرْضُ عَيْنٍ، وهو قَوْلُ الرَّبِيعِ ومُجاهِدٍ وعَطاءٍ والطَّبَرِيِّ وهو الَّذِي لا يَنْبَغِي أنْ يُعْدَلَ عَنْهُ، وقِيلَ: إنَّما تَجِبُ الإجابَةُ وُجُوبًا عَيْنِيًّا إذا لَمْ يَكُنْ في المَوْضِعِ إلّا كاتِبٌ واحِدٌ، فَإنْ كانَ غَيْرُهُ فَهو واجِبٌ عَلى الكِفايَةِ وهو قَوْلُ الحَسَنِ، ومَعْناهُ أنَّهُ مَوْكُولٌ إلى دِيانَتِهِمْ لِأنَّهم إذا تَمالَئُوا عَلى الِامْتِناعِ أثِمُوا جَمِيعًا، ولَوْ قِيلَ: إنَّهُ واجِبٌ عَلى الكِفايَةِ عَلى مَن يَعْرِفُ الكِتابَةَ مِن أهْلِ مَكانِ المُتَدايِنَيْنِ، وإنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِ طالِبِ التَّوَثُّقِ أحَدَهم لَكانَ وجِيهًا، والأحَقُّ بِطَلَبِ التَّوَثُّقِ هو المُسْتَقْرِضُ كَما تَقَدَّمَ آنِفًا.
وقِيلَ: إنَّما يَجِبُ عَلى الكاتِبِ في حالِ فَراغِهِ، قالَهُ السُّدِّيُّ، وقِيلَ: هو مَنسُوخٌ بِقَوْلِهِ:
﴿ولا يُضارَّ كاتِبٌ ولا شَهِيدٌ﴾ وهو قَوْلُ الضَّحّاكِ، ورُوِيَ عَنْ عَطاءٍ، وفي هَذا نَظَرٌ لِأنَّ الحُضُورَ لِلْكِتابَةِ بَيْنَ المُتَدايِنَيْنِ لَيْسَ مِنَ الإضْرارِ إلّا في أحْوالٍ نادِرَةٍ كَبُعْدِ مَكانِ المُتَدايِنَيْنِ مِن مَكانِ الكاتِبِ، وعَنِ الشَّعْبِيِّ وابْنِ جُرَيْجٍ وابْنِ زَيْدٍ أنَّهُ مَنسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعالى بَعْدَ هَذا:
﴿فَإنْ أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣] وسَيَأْتِي لَنا إبْطالُ ذَلِكَ.
وعَلى هَذا الخِلافِ يُخْتَلَفُ في جَوازِ الأجْرِ عَلى الكِتابَةِ بَيْنَ المُتَدايِنَيْنِ، لِأنَّها إنْ كانَتْ واجِبَةً فَلا أجْرَ عَلَيْها، وإلّا فالأجْرُ جائِزٌ.
ويُلْحَقُ بِالتَّدايُنِ جَمِيعُ المُعامَلاتِ الَّتِي يُطْلَبُ فِيها التَّوَثُّقُ بِالكِتابَةِ والإشْهادِ، وسَيَأْتِي الكَلامُ عَلى حُكْمِ أداءِ الشَّهادَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿ولا يُضارَّ كاتِبٌ ولا شَهِيدٌ﴾ .
وقَوْلُهُ:
﴿كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ﴾ أيْ: كِتابَةً تُشابِهُ الَّذِي عَلَّمَهُ اللَّهُ أنْ يَكْتُبَها والمُرادُ بِالمُشابَهَةِ المُطابَقَةُ لا المُقارَنَةُ، فَهي مِثْلُ قَوْلِهِ
﴿فَإنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنتُمْ بِهِ﴾ [البقرة: ١٣٧] فالكافُ في مَوْضِعِ المَفْعُولِ المُطْلَقِ؛ لِأنَّها صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ و(ما) مَوْصُولَةٌ.
ومَعْنى ”ما عَلَّمَهُ اللَّهُ“ أنَّهُ يَكْتُبُ ما يَعْتَقِدُهُ ولا يُجْحِفُ أوْ يُوارِبُ، لِأنَّ اللَّهَ ما عَلَّمَ إلّا الحَقَّ وهو المُسْتَقِرُّ في فِطْرَةِ الإنْسانِ، وإنَّما يَنْصَرِفُ النّاسُ عَنْهُ بِالهَوى فَيُبَدِّلُونَ ويُغَيِّرُونَ ولَيْسَ ذَلِكَ التَّبْدِيلُ بِالَّذِي عَلَّمَهُمُ اللَّهُ تَعالى، وهَذا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيءِ ﷺ:
«واسْتَفْتِ نَفْسَكَ وإنْ أفْتاكَ النّاسُ» .
ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الكافُ لِمُقابَلَةِ الشَّيْءِ بِمُكافِئِهِ والعِوَضِ بِمُعَوِّضِهِ، أيْ أنْ يَكْتُبَ كِتابَةً تُكافِئُ تَعْلِيمَ اللَّهِ إيّاهُ الكِتابَةَ، بِأنْ يَنْفَعَ النّاسَ بِها شُكْرًا عَلى تَيْسِيرِ اللَّهِ لَهُ أسْبابَ عِلْمِها، وإنَّما يَحْصُلُ هَذا الشُّكْرُ بِأنْ يَكْتُبَ ما فِيهِ حِفْظُ الحَقِّ ولا يُقَصِّرُ ولا يُدَلِّسُ، ويَنْشَأُ عَنْ هَذا المَعْنى مِنَ التَّشْبِيهِ مَعْنى التَّعْلِيلِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿وأحْسِنْ كَما أحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ﴾ [القصص: ٧٧] وقَوْلِهِ:
﴿واذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٨] .
والكافُ عَلى هَذا إمّا نائِبَةٌ عَنِ المَفْعُولِ المُطْلَقِ أوْ صِفَةٌ لِمَفْعُولٍ بِهِ مَحْذُوفٍ عَلى تَأْوِيلِ مَصْدَرِ فِعْلِ أنْ يَكْتُبَ بِالمَكْتُوبِ، و”ما“ عَلى هَذا الوَجْهِ مَصْدَرِيَّةٌ، وعَلى كِلا الوَجْهَيْنِ فَهو مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ”أنْ يَكْتُبَ“ وجَوَّزَ صاحِبُ الكَشّافِ تَعْلِيقَهُ بِقَوْلِهِ ”فَلْيَكْتُبْ“ فَهو وجْهٌ في تَفْسِيرِ الآيَةِ.
وقَوْلُهُ: ”فَلْيَكْتُبْ“ تَفْرِيعٌ عَلى قَوْلِهِ:
﴿ولا يَأْبَ كاتِبٌ﴾ وهو تَصْرِيحٌ بِمُقْتَضى النَّهْيِ وتَكْرِيرٌ لِلْأمْرِ في قَوْلِهِ: (فاكْتُبُوهُ) فَهو يُفِيدُ تَأْكِيدَ الأمْرِ وتَأْكِيدَ النَّهْيِ أيْضًا، وإنَّما أُعِيدَ لِيُرَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
﴿ولْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ﴾ لِبُعْدِ الأمْرِ الأوَّلِ بِما ولِيَهُ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ”اتَّخَذُوهُ“ بَعْدَ قَوْلِهِ:
﴿واتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِن بَعْدِهِ مِن حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا﴾ [الأعراف: ١٤٨] الآيَةَ.
وقَوْلُهُ:
﴿ولْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ﴾ أمَلَّ وأمْلى لُغَتانِ: فالأُولى لُغَةُ أهْلِ الحِجازِ وبَنِي أسَدٍ والثّانِيَةُ لُغَةُ تَمِيمٍ، وقَدْ جاءَ القُرْآنُ بِهِما قالَ تَعالى:
﴿ولْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ﴾ وقالَ:
﴿فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وأصِيلًا﴾ [الفرقان: ٥] قالُوا: والأصْلُ هو أمْلَلَ ثُمَّ أُبْدِلَتِ اللّامُ ياءً لِأنَّها أخَفُّ، أيْ عَكْسُ ما فَعَلُوا في قَوْلِهِمْ: تَقَضّى البازِيُّ، إذْ أصْلُهُ: تَقَضَّضَ.
ومَعْنى اللَّفْظَيْنِ أنْ يُلْقِيَ كَلامًا عَلى سامِعِهِ لِيَكْتُبَهُ عَنْهُ، هَكَذا فَسَّرَهُ في اللِّسانِ والقامُوسِ، وهو قُصُورٌ في التَّفْسِيرِ أحْسَبُ أنَّهُ نَشَأ عَنْ حَصْرِ نَظَرِهِمْ في هَذِهِ الآيَةِ الوارِدَةِ في غَرَضِ الكِتابَةِ، وإلّا فَإنَّ قَوْلَهُ تَعالى في سُورَةِ الفُرْقانِ
﴿فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وأصِيلًا﴾ [الفرقان: ٥] تَشْهَدُ بِأنَّ الإمْلاءَ والإمْلالَ يَكُونانِ لِغَرَضِ الكِتابَةِ ولِغَرَضِ الرِّوايَةِ والنَّقْلِ كَما في آيَةِ الفُرْقانِ، ولِغَرَضِ الحِفْظِ كَما يُقالُ مَلَّ المُؤَدِّبُ عَلى الصَّبِيِّ لِلْحِفْظِ، وهي طَرِيقَةُ تَحْفِيظِ العُمْيانِ، فَتَحْرِيرُ العِبارَةِ أنْ يُفَسَّرَ هَذانِ اللَّفْظانِ بِإلْقاءِ كَلامٍ لِيُكْتَبَ عَنْهُ أوْ لِيُرْوى أوْ لِيُحْفَظَ، و(الحَقُّ) هُنا: ما حَقَّ أيْ ثَبَتَ لِلدّائِنِ.
وفِي هَذا الأمْرِ عِبْرَةٌ لِلشُّهُودِ فَإنَّ مِنهم مَن يَكْتُبُونَ في شُرُوطِ الحُبْسِ ونَحْوِهِ ما لَمْ يُمْلِلْهُ عَلَيْهِمُ المَشْهُودُ عَلَيْهِ إلّا إذا كانَ قَدْ فَوَّضَ إلى الشّاهِدِ الإحاطَةَ بِما فِيهِ تَوَثُّقُهُ لِحَقِّهِ أوْ أوْقَفَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ عَقْدِهِ عَلى السَّدارَةِ.
والضَّمِيرانِ في قَوْلِهِ: ”ولْيَتَّقِ“ وقَوْلِهِ:
﴿ولا يَبْخَسْ مِنهُ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَعُودا إلى الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ؛ لِأنَّهُ أقْرَبُ مَذْكُورٍ مِنَ الضَّمِيرَيْنِ، أيْ: لا يُنْقِصْ رَبَّ الدَّيْنِ شَيْئًا حِينَ الإمْلاءِ، قالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وهو عَلى هَذا أمْرٌ لِلْمَدِينِ بِأنْ يُقِرَّ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ ولا يَغْبِنَ الدّائِنَ، وعِنْدِي أنَّ هَذا بَعِيدٌ إذْ لا فائِدَةَ بِهَذِهِ الوِصايَةِ، فَلَوْ أخْفى المَدِينُ شَيْئًا أوْ غَبَنَ لَأنْكَرَ عَلَيْهِ رَبُّ الدَّيْنِ لِأنَّ الكِتابَةَ يَحْضُرُها كِلاهُما لِقَوْلِهِ تَعالى:
﴿ولْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ﴾ ويُحْتَمَلُ أنْ يَعُودَ الضَّمِيرانِ إلى (كاتِبٌ) بِقَرِينَةِ أنَّ هَذا النَّهْيَ أشَدُّ تَعَلُّقًا بِالكاتِبِ، فَإنَّهُ الَّذِي قَدْ يَغْفُلُ عَنْ بَعْضِ ما وقَعَ إمْلاؤُهُ عَلَيْهِ.
والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ (مِنهُ) عائِدٌ إلى الحَقِّ وهو حَقٌّ لِكِلا المُتَدايِنَيْنِ، فَإذا بَخَسَ مِنهُ شَيْئًا أضَرَّ بِأحَدِهِما لا مَحالَةَ، وهَذا إيجازٌ بَدِيعٌ.
والبَخْسُ فَسَرَّهُ أهْلُ اللُّغَةِ بِالنَّقْصِ ويَظْهَرُ أنَّهُ أخَصُّ مِنَ النَّقْصِ، فَهو نَقْصٌ بِإخْفاءٍ، وأقْرَبُ الألْفاظِ إلى مَعْناهُ الغَبْنُ، قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ في الأحْكامِ في سُورَةِ الأعْرافِ: البَخْسُ في لِسانِ العَرَبِ هو النَّقْصُ بِالتَّعْيِيبِ والتَّزْهِيدِ، أوِ المُخادَعَةُ عَنِ القِيمَةِ، أوِ الِاحْتِيالُ في التَّزَيُّدِ في الكَيْلِ، أوِ النُّقْصانُ مِنهُ، أيْ: عَنْ غَفْلَةِ صاحِبِ الحَقِّ، وهَذا هو المُناسِبُ في مَعْنى الآيَةِ؛ لِأنَّ المُرادَ النَّهْيُ عَنِ النَّقْصِ مِنَ الحَقِّ عَنْ غَفْلَةٍ مِن صاحِبِهِ، ولِذَلِكَ نُهِيَ الشّاهِدُ أوِ المَدِينُ أوِ الدّائِنُ، وسَيَجِيءُ في سُورَةِ الأعْرافِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿ولا تَبْخَسُوا النّاسَ أشْياءَهُمْ﴾ [الأعراف: ٨٥] .
وقَوْلُهُ:
﴿فَإنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهًا أوْ ضَعِيفًا﴾ السَّفِيهُ هو مُخْتَلُّ العَقْلِ، وتَقَدَّمَ بَيانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النّاسِ﴾ [البقرة: ١٤٢] .
والضَّعِيفُ الصَّغِيرُ، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿ولَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ﴾ [البقرة: ٢٦٦] .
والَّذِي
﴿لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلَّ﴾ هو العاجِزُ كَمَن بِهِ بَكَمٌ وعَمًى وصَمَمٌ جَمِيعًا.
ووَجْهُ تَأْكِيدِ الضَّمِيرِ المُسْتَتِرِ في فِعْلِ ”يُمِلَّ“ بِالضَّمِيرِ البارِزِ هو التَّمْهِيدُ لِقَوْلِهِ
﴿فَلْيُمْلِلْ ولِيُّهُ﴾ لِئَلّا يَتَوَهَّمَ النّاسُ أنَّ عَجْزَهُ يُسْقِطُ عَنْهُ واجِبَ الإشْهادِ عَلَيْهِ بِما يَسْتَدِينُهُ، وكانَ الأوْلِياءُ قَبْلَ الإسْلامِ وفي صَدْرِهِ كُبَراءَ القَرابَةِ، والوَلِيُّ مَن لَهُ ولايَةٌ عَلى السَّفِيهِ والضَّعِيفِ ومَن لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُمِلَّ كالأبِ والوَصِيِّ وعُرَفاءِ القَبِيلَةِ، وفي حَدِيثِ وفْدِ هَوازِنَ: قالَ لَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«لِيَرْفَعْ إلَيَّ عُرَفاؤُكم أمْرَكم» وكانَ ذَلِكَ في صَدْرِ الإسْلامِ وفي الحُقُوقِ القِبْلِيَّةِ.
ومَعْنى ”بِالعَدْلِ“ أيْ بِالحَقِّ، وهَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ إقْرارَ الوَصِيِّ والمُقَدَّمِ في حَقِّ المُوَلّى عَلَيْهِ ماضٍ إذا ظَهَرَ سَبَبُهُ، وإنَّما لَمْ يَعْمَلْ بِهِ المُتَأخِّرُونَ مِنَ الفُقَهاءِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ خَشْيَةَ التَّواطُؤِ عَلى إضاعَةِ أمْوالِ الضُّعَفاءِ.
* * *﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكم فَإنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامْرَأتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أنْ تَضِلَّ إحْداهُما فَتُذَكِّرَ إحْداهُما الأُخْرى﴾ .
عَطْفٌ عَلى ”فاكْتُبُوهُ“ وهو غَيْرُهُ ولَيْسَ بَيانًا لَهُ إذْ لَوْ كانَ بَيانًا لَما اقْتَرَنَ بِالواوِ، فالمَأْمُورُ بِهِ المُتَدايِنُونَ شَيْئانِ: الكِتابَةُ والإشْهادُ عَلَيْها، والمَقْصُودُ مِنَ الكِتابَةِ ضَبْطُ صِيغَةِ التَّعاقُدِ وشُرُوطِهِ، وتَذَكُّرُ ذَلِكَ خَشْيَةَ النِّسْيانِ، ومِن أجْلِ ذَلِكَ سَمّاها الفُقَهاءُ ذُكْرَ الحَقِّ، وتُسَمّى عَقْدًا. قالَ الحارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
حَذَرَ الجَوْرِ والتَّطاخِي وهَلْ يَنْ قُضُ ما في المَهارِقِ الأهْواءُ
قالَ تَعالى:
﴿وإنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ ولَمْ تَجِدُوا كاتِبًا فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ﴾ [البقرة: ٢٨٣] فَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَ فُقْدانِ الكاتِبِ وبَيْنَ الرَّهْنِ دَرَجَةً وهي الشَّهادَةُ بِلا كِتابَةٍ، لِأنَّ قَوْلَهُ:
﴿ولَمْ تَجِدُوا كاتِبًا﴾ [البقرة: ٢٨٣] صارَ في مَعْنى: ولَمْ تَجِدُوا شَهادَةً، ولِأجْلِ هَذا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الكاتِبُ أحَدَ الشّاهِدَيْنِ، وإنَّما جَعَلَ القُرْآنُ كاتِبًا وشاهِدَيْنِ لِنُدْرَةِ الجَمْعِ بَيْنَ مَعْرِفَةِ الكِتابَةِ وأهْلِيَّةِ الشَّهادَةِ.
”واسْتَشْهِدُوا“ بِمَعْنى أشْهِدُوا، فالسِّينُ والتّاءُ فِيهِ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ، ولَكَ أنْ تَجْعَلَهُما لِلطَّلَبِ أيِ اطْلُبُوا شَهادَةَ شاهِدَيْنِ، فَيَكُونُ تَكْلِيفًا بِالسَّعْيِ لِلْإشْهادِ وهو التَّكْلِيفُ المُتَعَلِّقُ بِصاحِبِ الحَقِّ، ويَكُونُ قَوْلُهُ
﴿ولا يَأْبَ الشُّهَداءُ إذا ما دُعُوا﴾ تَكْلِيفًا لِمَن يَطْلُبُ مِنهُ صاحِبُ الحَقِّ أنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِما ألّا يَمْتَنِعَ.
والشَّهادَةُ حَقِيقَتُها الحُضُورُ والمُشاهَدَةُ والمُرادُ بِها هُنا حُضُورٌ خاصٌّ، وهو حُضُورٌ لِأجْلِ الِاطِّلاعِ عَلى التَّدايُنِ، وهَذا إطْلاقٌ مَعْرُوفٌ لِلشَّهادَةِ عَلى حُضُورٍ لِمُشاهَدَةِ تَعاقُدٍ بَيْنَ مُتَعاقِدَيْنِ أوْ لِسَماعِ عَقْدٍ مِن عاقِدٍ واحِدٍ مِثْلِ الطَّلاقِ والحُبْسِ، وتُطْلَقُ الشَّهادَةُ أيْضًا عَلى الخَبَرِ الَّذِي يُخْبِرُ بِهِ صاحِبُهُ عَنْ أمْرٍ حَصَلَ لِقَصْدِ الِاحْتِجاجِ بِهِ لِمَن يَزْعُمُهُ، والِاحْتِجاجُ بِهِ عَلى مَن يُنْكِرُهُ، وهَذا هو الوارِدُ في قَوْلِهِ:
﴿ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ﴾ [النور: ٤] .
وجَعَلَ المَأْمُورَ بِهِ طَلَبَ الإشْهادِ لِأنَّهُ الَّذِي في قُدْرَةِ المُكَلَّفِ، وقَدْ فَهِمَ السّامِعُ أنَّ الغَرَضَ مِن طَلَبِ الإشْهادِ حُصُولُهُ، ولِهَذا أمَرَ المُسْتَشْهَدَ - بِفَتْحِ الهاءِ - بَعْدَ ذَلِكَ بِالِامْتِثالِ فَقالَ:
﴿ولا يَأْبَ الشُّهَداءُ إذا ما دُعُوا﴾ .
والأمْرُ في قَوْلِهِ:
﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِجالِكُمْ﴾ قِيلَ: لِلْوُجُوبِ، وهو قَوْلُ جُمْهُورِ السَّلَفِ، وقِيلَ: لِلنَّدْبِ، وهو قَوْلُ جُمْهُورِ الفُقَهاءِ المُتَأخِّرِينَ: مالِكٍ وأبِي حَنِيفَةَ والشّافِعِيِّ وأحْمَدَ وسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿وأشْهِدُوا إذا تَبايَعْتُمْ﴾ .
وقَوْلُهُ مِن رِجالِكم أيْ مِن رِجالِ المُسْلِمِينَ، فَحَصَلَ بِهِ شَرْطانِ: أنَّهم رِجالٌ، وأنَّهم مِمَّنْ يَشْمَلُهُمُ الضَّمِيرُ.
وضَمِيرُ جَماعَةِ المُخاطَبِينَ مُرادٌ بِهِ المُسْلِمُونَ لِقَوْلِهِ في طالِعَةِ هَذِهِ الأحْكامِ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا.
وأمّا الصَّبِيُّ فَلَمْ يَعْتَبِرْهُ الشَّرْعُ لِضَعْفِ عَقْلِهِ عَنِ الإحاطَةِ بِمَواقِعِ الِاسْتِشْهادِ ومَداخِلِ التُّهَمِ.
والرَّجُلُ في أصْلِ اللُّغَةِ يُفِيدُ وصْفَ الذُّكُورَةِ فَخَرَجَتِ الإناثُ، ويُفِيدُ البُلُوغَ فَخَرَجَ الصِّبْيانُ، والضَّمِيرُ المُضافُ إلَيْهِ أفادَ وصْفَ الإسْلامِ، فَأمّا الأُنْثى فَيُذْكَرُ حُكْمُها بَعْدَ هَذا، وأمّا الكافِرُ فَلِأنَّ اخْتِلافَ الدِّينِ يُوجِبُ التَّباعُدَ في الأحْوالِ والمُعاشَراتِ والآدابِ فَلا تُمْكِنُ الإحاطَةُ بِأحْوالِ العُدُولِ والمُرْتابِينَ مِنَ الفَرِيقَيْنِ، كَيْفَ وقَدِ اشْتُرِطَ في تَزْكِيَةِ المُسْلِمِينَ شِدَّةُ المُخالَطَةِ، ولِأنَّهُ قَدْ عُرِفَ مِن غالِبِ أهْلِ المِلَلِ اسْتِخْفافُ المُخالِفِ في الدِّينِ بِحُقُوقِ مُخالِفِهِ، وذَلِكَ مِن تَخْلِيطِ الحُقُوقِ والجَهْلِ بِواجِباتِ الدِّينِ الإسْلامِيِّ، فَإنَّ الأدْيانَ السّالِفَةَ لَمْ تَتَعَرَّضْ لِاحْتِرامِ حُقُوقِ المُخالِفِينَ، فَتَوَهَّمَ أتْباعُهم دَحْضَها، وقَدْ حَكى اللَّهُ عَنْهم أنَّهم قالُوا:
﴿لَيْسَ عَلَيْنا في الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ [آل عمران: ٧٥]، وهَذِهِ نُصُوصُ التَّوْراةِ في مَواضِعَ كَثِيرَةٍ تَنْهى عَنْ أشْياءَ أوْ تَأْمُرُ بِأشْياءَ وتَخُصُّها بِبَنِي إسْرائِيلَ، وتُسَوِّغُ مُخالَفَةَ ذَلِكَ مَعَ الغَرِيبِ، ولَمْ نَرَ في دِينٍ مِنَ الأدْيانِ التَّصْرِيحَ بِالتَّسْوِيَةِ في الحُقُوقِ سِوى دِينِ الإسْلامِ، فَكَيْفَ نَعْتَدُّ بِشَهادَةِ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَرَوْنَ المُسْلِمِينَ مارِقِينَ عَنْ دِينِ الحَقِّ مُناوِئِينَ لَهم، ويَرْمُونَ بِذَلِكَ نَبِيئَهم فَمَن دُونَهُ، فَماذا يُرْجى مِن هَؤُلاءِ أنْ يَقُولُوا الحَقَّ لَهم أوْ عَلَيْهِمْ، والنَّصْرانِيَّةُ تابِعَةٌ لِأحْكامِ التَّوْراةِ، عَلى أنَّ تَجافِيَ أهْلِ الأدْيانِ أمْرٌ كانَ كالجِبِلِّيِّ فَهَذا الإسْلامُ مَعَ أمْرِهِ المُسْلِمِينَ بِالعَدْلِ مَعَ أهْلِ الذِّمَّةِ لا نَرى مِنهُمُ امْتِثالًا فِيما يَأْمُرُهم بِهِ في شَأْنِهِمْ.
وفِي القُرْآنِ إيماءٌ إلى هَذِهِ العِلَّةِ ذَلِكَ بِأنَّهم قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا في الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وفي البُخارِيِّ، في حَدِيثِ أبِي قِلابَةَ في مَجْلِسِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، وما رُوِيَ
«عَنْ سَهْلِ بْنِ أبِي حَثْمَةَ الأنْصارِيِّ، أنَّ نَفَرًا مِن قَوْمِهِ ذَهَبُوا إلى خَيْبَرَ فَتَفَرَّقُوا بِها، فَوَجَدُوا أحَدَهم قَتِيلًا، فَقالوُا لِلَّذِينَ وُجِدَ فِيهِمُ القَتِيلُ: أنْتُمْ قَتَلْتُمْ صاحِبَنا، قالُوا: ما قَتَلْنا، فانْطَلَقُوا إلى النَّبِيءِ ﷺ فَشَكَوْا إلَيْهِ فَقالَ لَهم: تَأْتُونَ بِالبَيِّنَةِ عَلى مَن قَتَلَهُ. قالُوا: ما لَنا بَيِّنَةٌ. قالَ: فَتَحْلِفُ لَكم يَهُودُ خَمْسِينَ يَمِينًا. قالُوا: ما يُبالُونَ أنْ يَقْتُلُونا أجْمَعِينَ ثُمَّ يَحْلِفُونَ. فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ يُبْطِلَ دَمَهُ ووَداهُ مِن مالِ الصَّدَقَةِ. فَقَدْ أقَرَّ النَّبِيءُ ﷺ قَوْلَ الأنْصارِ في اليَهُودِ، إنَّهم ما يُبالُونَ أنْ يَقْتُلُوا كُلَّ القَوْمِ ثُمَّ يَحْلِفُونَ» .
فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ اعْتَدَّتِ الشَّرِيعَةُ بِيَمِينِ المُدَّعى عَلَيْهِ مِنَ الكُفّارِ، قُلْتُ: اعْتَدَّتْ بِها لِأنَّها أقْصى ما يُمْكِنُ في دَفْعِ الدَّعْوى، فَرَأتْها الشَّرِيعَةُ خَيْرًا مِن إهْمالِ الدَّعْوى مِن أصْلِها.
ولِأجْلِ هَذا اتَّفَقَ عُلَماءُ الإسْلامِ عَلى عَدَمِ قَبُولِ شَهادَةِ أهْلِ الكِتابِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ في غَيْرِ الوَصِيَّةِ في السَّفَرِ، واخْتَلَفُوا في الإشْهادِ عَلى الوَصِيَّةِ في السَّفَرِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وأبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ وشُرَيْحٌ بِقَبُولِ شَهادَةِ غَيْرِ المُسْلِمِينَ في الوَصِيَّةِ في السَّفَرِ، وقَضى بِهِ أبُو مُوسى الأشْعَرِيُّ مُدَّةَ قَضائِهِ في الكُوفَةِ، وهو قَوْلُ أحْمَدَ وسُفْيانَ الثَّوْرِيِّ وجَماعَةٍ مِنَ العُلَماءِ، وقالَ الجُمْهُورُ: لا تَجُوزُ شَهادَةُ غَيْرِ المُسْلِمِينَ ورَأوْا أنَّ ما في آيَةِ الوَصِيَّةِ مَنسُوخٌ، وهو قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ ومالِكٍ وأبِي حَنِيفَةَ والشّافِعِيِّ، واخْتَلَفُوا في شَهادَةِ بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ عِنْدَ قاضِي المُسْلِمِينَ فَأجازَها أبُو حَنِيفَةَ ناظِرًا في ذَلِكَ إلى انْتِفاءِ تُهْمَةِ تَساهُلِهِمْ بِحُقُوقِ المُسْلِمِينَ، وخالَفَهُمُ الجُمْهُورُ، والوَجْهُ أنَّهُ يَتَعَذَّرُ لِقاضِي المُسْلِمِينَ مَعْرِفَةُ أمانَةِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ وصِدْقِ أخْبارِهِمْ كَما قَدَّمْناهُ آنِفًا.
وظاهِرُ الآيَةِ قَبُولُ شَهادَةِ العَبْدِ العَدْلِ وهو قَوْلُ شُرَيْحٍ وعُثْمانَ البَتِّيِّ وأحْمَدَ وإسْحاقَ وأبِي ثَوْرٍ، وعَنْ مُجاهِدٍ المُرادُ الأحْرارُ، وهو قَوْلُ مالِكٍ وأبِي حَنِيفَةَ والشّافِعِيِّ، والَّذِي يَظْهَرُ لِي أنَّ تَخْصِيصَ العَبِيدِ مِن عُمُومِ الآيَةِ بِالعُرْفِ وبِالقِياسِ؛ أمّا العُرْفُ فَلِأنَّ غالِبَ اسْتِعْمالِ لَفْظِ الرَّجُلِ والرِّجالِ ألّا يَرِدَ مُطْلَقًا إلّا مُرادًا بِهِ الأحْرارُ، يَقُولُونَ: رِجالُ القَبِيلَةِ ورِجالُ الحَيِّ: قالَ مَحْكانُ التَّمِيمِيُّ:
يا رَبَّةَ البَيْتِ قُومِي غَيْرَ صاغِرَةٍ ∗∗∗ ضُمِّي إلَيْكِ رِجالَ الحَيِّ والغُرَبا
وأمّا القِياسُ فَلِعَدَمِ الِاعْتِدادِ بِهِمْ في المُجْتَمَعِ لِأنَّ حالَةَ الرِّقِّ تَقْطَعُهم عَنْ غَيْرِ شُئُونِ مالِكِيهِمْ فَلا يَضْبِطُونَ أحْوالَ المُعامَلاتِ غالِبًا؛ ولِأنَّهم يَنْشَؤُونَ عَلى عَدَمِ العِنايَةِ بِالمُرُوءَةِ، فَتَرْكُ اعْتِبارِ شَهادَةِ العَبْدِ مَعْلُولٌ لِلْمَظِنَّةِ، وفي النَّفْسِ عَدَمُ انْثِلاجٍ لِهَذا التَّعْلِيلِ.
واشْتُرِطَ العَدَدُ في الشّاهِدِ ولَمْ يُكْتَفَ بِشَهادَةِ عَدْلٍ واحِدٍ لِأنَّ الشَّهادَةَ لَمّا تَعَلَّقَتْ بِحَقٍّ مُعَيَّنٍ لِمُعَيَّنٍ اتُّهِمَ الشّاهِدُ بِاحْتِمالِ أنْ يَتَوَسَّلَ إلَيْهِ الظّالِمُ الطّالِبُ لِحَقٍّ مَزْعُومٍ فَيَحْمِلَهُ عَلى تَحْرِيفِ الشَّهادَةِ، فاحْتِيجَ إلى حَيْطَةٍ تَدْفَعُ التُّهْمَةَ فاشْتُرَطَ فِيهِ الإسْلامُ وكَفى بِهِ وازِعًا والعَدالَةُ لِأنَّها تَزَعُ مِن حَيْثُ الدِّينُ والمُرُوءَةُ، وزِيدَ انْضِمامُ ثانٍ إلَيْهِ لِاسْتِبْعادِ أنْ يَتَواطَأ كِلا الشّاهِدَيْنِ عَلى الزُّورِ، فَثَبَتَ بِهَذِهِ الآيَةِ أنَّ التَّعَدُّدَ شَرْطٌ في الشَّهادَةِ مِن حَيْثُ هي، بِخِلافِ الرِّوايَةِ لِانْتِفاءِ التُّهْمَةِ فِيها إذْ لا تَتَعَلَّقُ بِحَقٍّ مُعَيَّنٍ، ولِهَذا لَوْ رَوى راوٍ حَدِيثًا هو حُجَّةٌ في قَضِيَّةٍ لِلرّاوِي فِيها حَقٌّ لَما قُبِلَتْ رِوايَتُهُ، وقَدْ كَلَّفَ عُمَرُ أبا مُوسى الأشْعَرِيَّ أنْ يَأْتِيَ بِشاهِدٍ مَعَهُ عَلى أنَّ رَسُولَ اللَّهِ قالَ:
«إذا اسْتَأْذَنَ أحَدُكُمَ ثَلاثًا ولَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ» إذْ كانَ ذَلِكَ في ادِّعاءِ أبِي مُوسى أنَّهُ لَمّا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ عُمَرُ في الثّالِثَةِ رَجَعَ، فَشَهِدَ لَهُ أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ في مَلَأٍ مِنَ الأنْصارِ.
والعَدَدُ هو اثْنانِ في المُعامَلاتِ المالِيَّةِ كَما هُنا.
وقَوْلُهُ:
﴿فَإنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ﴾ أيْ لَمْ يَكُنِ الشّاهِدانِ رَجُلَيْنِ، أيْ بِحَيْثُ لَمْ يَحْضُرِ المُعامَلَةَ رَجُلانِ بَلْ حَضَرَ رَجُلٌ واحِدٌ، ”فَرَجُلٌ وامْرَأتانِ“ يَشْهَدانِ، فَقَوْلُهُ
﴿فَرَجُلٌ وامْرَأتانِ﴾ جَوابُ الشَّرْطِ، وهو جُزْءُ جُمْلَةٍ حُذِفَ خَبَرُها لِأنَّ المُقَدَّرَ أنْسَبُ بِالخَبَرِيَّةِ، ودَلِيلُ المَحْذُوفِ قَوْلُهُ:
﴿واسْتَشْهِدُوا﴾ وقَدْ فُهِمَ المَحْذُوفُ فَكَيْفَما قَدَّرْتَهُ ساغَ لَكَ.
وجِيءَ في الآيَةِ بَـ (كانَ) النّاقِصَةِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِن أنْ يُقالَ: فَإنْ لَمْ يَكُنْ رَجُلانِ. لِئَلّا يُتَوَهَّمَ مِنهُ أنَّ شَهادَةَ المَرْأتَيْنِ لا تُقْبَلُ إلّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّجُلَيْنِ كَما تَوَهَّمَهُ قَوْمٌ، وهو خِلافُ قَوْلِ الجُمْهُورِ؛ لِأنَّ مَقْصُودَ الشّارِعِ التَّوْسِعَةُ عَلى المُتَعامِلِينَ، وفِيهِ مَرْمًى آخَرُ وهو تَعْوِيدُهم بِإدْخالِ المَرْأةِ في شُئُونِ الحَياةِ إذْ كانَتْ في الجاهِلِيَّةِ لا تَشْتَرِكُ في هَذِهِ الشُّئُونِ فَجَعَلَ اللَّهُ المَرْأتَيْنِ مَقامَ الرَّجُلِ الواحِدِ وعَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
﴿أنْ تَضِلَّ إحْداهُما فَتُذَكِّرَ إحْداهُما الأُخْرى﴾ وهَذِهِ حَيْطَةٌ أُخْرى مِن تَحْرِيفِ الشَّهادَةِ وهي خَشْيَةُ الِاشْتِباهِ والنِّسْيانِ لِأنَّ المَرْأةَ أعَفُّ مِنَ الرَّجُلِ بِأصْلِ الجِبِلَّةِ بِحَسَبِ الغالِبِ، والضَّلالُ هُنا بِمَعْنى النِّسْيانِ.
وقَوْلُهُ:
﴿أنْ تَضِلَّ﴾ قَرَأهُ الجُمْهُورُ بِفَتْحِ هَمْزَةِ ”أنْ“ عَلى أنَّهُ مَحْذُوفٌ مِنهُ لامُ التَّعْلِيلِ كَما هو الغالِبُ في الكَلامِ العَرَبِيِّ مَعَ ”أنْ“ والتَّعْلِيلُ في هَذا الكَلامِ يَنْصَرِفُ إلى ما يُحْتاجُ فِيهِ إلى أنْ يُعَلَّلَ لِقَصْدِ إقْناعِ المُكَلَّفِينَ، إذْ لا نَجِدُ في هَذِهِ الجُمْلَةِ حُكْمًا قَدْ لا تَطْمَئِنُّ إلَيْهِ النُّفُوسُ إلّا جَعْلَ عِوَضِ الرَّجُلِ الواحِدِ بِامْرَأتَيْنِ اثْنَتَيْنِ فَصُرِّحَ بِتَعْلِيلِهِ، واللّامُ المُقَدَّرَةُ قَبْلَ ”أنْ“ مُتَعَلِّقَةٌ بِالخَبَرِ المَحْذُوفِ في جُمْلَةِ جَوابِ الشَّرْطِ؛ إذِ التَّقْدِيرُ: فَرَجُلٌ وامْرَأتانِ يَشْهَدانِ، أوْ: فَلْيَشْهَدْ رَجُلٌ وامْرَأتانِ، وقَرَءُوهُ بِنَصْبِ ”فَتُذَكِّرَ“ عَطْفًا عَلى
﴿أنْ تَضِلَّ﴾، وقَرَأهُ حَمْزَةُ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ عَلى اعْتِبارِ ”إنْ“ شَرْطِيَّةً و”تَضِلَّ“ فِعْلَ الشَّرْطِ، وبِرَفْعِ ”تُذَكِّرُ“ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ بَعْدَ الفاءِ؛ لِأنَّ الفاءَ تُؤْذِنُ بِأنَّ ما بَعْدَها غَيْرُ مَجْزُومٍ والتَّقْدِيرُ فَهي تُذَكِّرُها الأُخْرى عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى:
﴿ومَن عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنهُ﴾ [المائدة: ٩٥] .
ولَمّا كانَ ”أنْ تَضِلَّ“ في مَعْنى لِضَلالِ إحْداهُما. صارَتِ العِلَّةُ في الظّاهِرِ هي الضَّلالَ، ولَيْسَ كَذَلِكَ، بَلِ العِلَّةُ ما يَتَرَتَّبُ عَلى الضَّلالِ مِن إضاعَةِ المَشْهُودِ بِهِ، فَتَفَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
﴿فَتُذَكِّرَ إحْداهُما الأُخْرى﴾ لِأنَّ (فَتُذَكِّرَ) مَعْطُوفٌ عَلى ”تَضِلَّ“ بِفاءِ التَّعْقِيبِ فَهو مِن تَكْمِلَتِهِ، والعِبْرَةُ بِآخِرِ الكَلامِ كَما قَدَّمْناهُ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿أيَوَدُّ أحَدُكم أنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وأعْنابٍ﴾ [البقرة: ٢٦٦] ونَظِيرُهُ كَما في الكَشّافِ أنْ تَقُولَ: أعْدَدْتُ الخَشَبَةَ أنْ يَمِيلَ الحائِطُ فَأُدَعِّمَهُ، وأعْدَدْتُ السِّلاحَ أنْ يَجِيءَ عَدُوٌّ فَأدْفَعَهُ، وفي هَذا الِاسْتِعْمالِ عُدُولٌ عَنِ الظّاهِرِ وهو أنْ يُقالَ: أنْ تُذَكِّرَ إحْداهُما الأُخْرى عِنْدَ نِسْيانِها. ووَجَّهَهُ صاحِبُ الكَشّافِ بِأنَّ فِيهِ دَلالَةً عَلى الِاهْتِمامِ بِشَأْنِ التَّذْكِيرِ حَتّى صارَ المُتَكَلِّمُ يُعَلِّلُ بِأسْبابِهِ المُفْضِيَةِ إلَيْهِ لِأجْلِ تَحْصِيلِهِ، وادَّعى ابْنُ الحاجِبِ في أمالِيهِ عَلى هَذِهِ الآيَةِ بِالقاهِرَةِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وسِتِّمِائَةٍ: أنَّ مِن شَأْنِ لُغَةِ العَرَبِ إذا ذَكَرُوا عِلَّةً - وكانَ لِلْعِلَّةِ عِلَّةٌ - قَدَّمُوا ذِكْرَ عِلَّةِ العِلَّةِ وجَعَلُوا العِلَّةَ مَعْطُوفَةً عَلَيْها بِالفاءِ لِتَحْصُلَ الدَّلالاتانِ مَعًا بِعِبارَةٍ واحِدَةٍ، ومَثَّلُهُ بِالمِثالِ الَّذِي مَثَّلَ بِهِ الكَشّافُ، وظاهِرُ كَلامِهِ أنَّ ذَلِكَ مُلْتَزَمٌ ولَمْ أرَهُ لِغَيْرِهِ.
والَّذِي أراهُ أنَّ سَبَبَ العُدُولِ في مِثْلِهِ أنَّ العِلَّةَ تارَةً تَكُونُ بَسِيطَةً كَقَوْلِكَ: فَعَلْتُ كَذا إكْرامًا لَكَ، وتارَةً تَكُونُ مُرَكَّبَةً مِن دَفْعِ ضُرٍّ وجَلْبِ نَفْعٍ بِدَفْعِهِ، فَهُنالِكَ يَأْتِي المُتَكَلِّمُ في تَعْلِيلِهِ بِما يَدُلُّ عَلى الأمْرَيْنِ في صُورَةِ عِلَّةٍ واحِدَةٍ إيجازًا في الكَلامِ كَما في الآيَةِ والمِثالَيْنِ، لِأنَّ المَقْصُودَ مِنَ التَّعَدُّدِ خَشْيَةَ حُصُولِ النِّسْيانِ لِلْمَرْأةِ المُنْفَرِدَةِ، فَلِذا أُخِذَ بِقَوْلِها حَقُّ المَشْهُودِ عَلَيْهِ وقُصِدَ تَذْكِيرُ المَرْأةِ الثّانِيَةِ إيّاها، وهَذا أحْسَنُ مِمّا ذَكَرَهُ صاحِبُ الكَشّافِ.
وفِي قَوْلِهِ:
﴿فَتُذَكِّرَ إحْداهُما الأُخْرى﴾ إظْهارٌ في مَقامِ الإضْمارِ لِأنَّ مُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ يَقُولَ: فَتُذَكِّرَها الأُخْرى، وذَلِكَ أنَّ الإحْدى والأُخْرى وصْفانِ مُبْهَمانِ لا يَتَعَيَّنُ شَخْصُ المَقْصُودِ بِهِما، فَكَيْفَما وضَعْتَهُما في مَوْضِعَيِ الفاعِلِ والمَفْعُولِ كانَ المَعْنى واحِدًا، فَلَوْ أضْمَرَ لِلْإحْدى ضَمِيرَ المَفْعُولِ لَكانَ المَعادُ واضِحًا سَواءٌ كانَ قَوْلُهُ (إحْداهُما) - المُظْهَرُ - فاعِلًا أوْ مَفْعُولًا بِهِ، فَلا يُظَنُّ أنْ كَوْنَ لَفْظِ (إحْداهُما) المُظْهَرِ في الآيَةِ فاعِلًا يُنافِي كَوْنَهُ إظْهارًا في مَقامِ الإضْمارِ لِأنَّهُ لَوْ أُضْمِرَ لَكانَ الضَّمِيرُ مَفْعُولًا، والمَفْعُولُ غَيْرَ الفاعِلِ، كَما قَدْ ظَنَّهُ التَّفْتازانِيُّ لِأنَّ المَنظُورَ إلَيْهِ في اعْتِبارِ الإظْهارِ في مَقامِ الإضْمارِ هو تَأتِّي الإضْمارِ مَعَ اتِّحادِ المَعْنى، وهو مَوْجُودٌ في الآيَةِ كَما لا يَخْفى.
ثُمَّ نُكْتَةُ الإظْهارِ هُنا قَدْ تَحَيَّرَتْ فِيها أفْكارُ المُفَسِّرِينَ ولَمْ يَتَعَرَّضْ لَها المُتَقَدِّمُونَ، قالَ التَّفْتازانِيُّ في شَرْحِ الكَشّافِ: ومِمّا يَنْبَغِي أنْ يُتَعَرَّضَ لَهُ: وجْهُ تَكْرِيرِ لَفْظِ ”إحْداهُما“، ولا خَفاءَ في أنَّهُ لَيْسَ مِن وضْعِ المُظْهَرِ مَوْضِعَ المُضْمَرِ إذْ لَيْسَتِ المُذَكِّرَةُ هي النّاسِيَةَ إلّا أنْ يُجْعَلَ (إحْداهُما) الثّانِيَةُ في مَوْقِعِ المَفْعُولِ، ولا يَجُوزُ ذَلِكَ لِتَقْدِيمِ المَفْعُولِ في مَوْضِعِ الإلْباسِ، ويَصِحُّ أنْ يُقالَ: فَتُذَكِّرَها الأُخْرى، فَلا بُدَّ لِلْعُدُولِ مِن نُكْتَةٍ، وقالَ العِصامُ في حاشِيَةِ البَيْضاوِيِّ: نُكْتَةُ التَّكْرِيرِ أنَّهُ كانَ أصْلُ التَّرْكِيبِ: أنْ تُذَكِّرَ إحْداهُما الأُخْرى إنْ ضَلَّتْ، فَلَمّا قُدِّمَ (إنْ ضَلَّتْ) وأُبْرِزَ في مَعْرِضِ العِلَّةِ لَمْ يَصِحَّ الإضْمارُ، أيْ لِعَدَمِ تَقَدُّمِ المَعادِ، ولَمْ يَصِحَّ: أنْ تَضِلَّ الأُخْرى. لِأنَّهُ لا يَحْسُنُ قَبْلَ ذِكْرِ (إحْداهُما) أيْ لِأنَّ (الأُخْرى) لا يَكُونُ وصْفًا إلّا في مُقابَلَةِ وصْفِ مُقابِلٍ مَذْكُورٍ، فَأُبْدِلَ بِـ (إحْداهُما) أيْ أُبْدِلَ مَوْقِعُ لَفْظِ (الأُخْرى) بِلَفْظِ (إحْداهُما) ولَمْ يُغَيَّرْ ما هو أصْلُ العِلَّةِ عَنْ هَيْئَتِهِ؛ لِأنَّهُ كانَ لَمْ يُقَدَّمْ عَلَيْهِ
﴿أنْ تَضِلَّ إحْداهُما﴾ يَعْنِي فَهَذا وجْهُ الإظْهارِ.
وقالَ الخَفاجِيُّ في حاشِيَةِ التَّفْسِيرِ: قالُوا: إنَّ النُّكْتَةَ الإبْهامُ؛ لِأنَّ كُلَّ واحِدَةٍ مِنَ المَرْأتَيْنِ يَجُوزُ عَلَيْها ما يَجُوزُ عَلى صاحِبَتِها مِنَ الضَّلالِ والتَّذْكِيرِ، فَدَخَلَ الكَلامُ في مَعْنى العُمُومِ، يَعْنِي أنَّهُ أظْهَرَ لِئَلّا يُتَوَهَّمَ أنَّ إحْدى المَرْأتَيْنِ لا تَكُونُ إلّا مُذَكِّرَةً الأُخْرى، فَلا تَكُونُ شاهِدَةً بِالأصالَةِ، وأصْلُ هَذا الجَوابِ لِشِهابِ الدِّينِ الغَزْنَوِيِّ عَصْرِيِّ الخَفاجِيِّ عَنْ سُؤالٍ وجَّهَهُ إلَيْهِ الخَفاجِيُّ وهَذا السُّؤالُ:
يا رَأْسَ أهْلِ العُلُومِ السّادَةِ البَرَرَهْ ∗∗∗ ومَن نَداهُ عَلى كُلِّ الوَرى نَشَرَهْ
ما سِرُّ تَكْرارِ إحْدى دُونَ تُذْكِرُها ∗∗∗ في آيَةٍ لِذَوِي الأشْهادِ في البَقَرَهْ
وظاهِرُ الحالِ إيجازُ الضَّمِيرِ عَلى ∗∗∗ تَكْرارِ إحْداهُما لَوْ أنَّهُ ذَكَرَهْ
وحَمْلُ الإحْدى عَلى نَفْسِ الشَّهادَةِ في ∗∗∗ أُولاهُما لَيْسَ مَرْضِيًّا لَدى المَهَرَهْ
فَغُصْ بِفِكْرِكَ لِاسْتِخْراجِ جَوْهَرِهِ ∗∗∗ مِن بَحْرِ عِلْمِكَ ثُمَّ ابْعَثْ لَنا دُرَرَهْ
فَأجابَ الغَزْنَوِيُّ:
يا مَن فَوائِدُهُ بِالعِلْمِ مُنْتَشِرَهْ ∗∗∗ ومَن فَضائِلُهُ في الكَوْنِ مُشْتَهِرَهْ
تَضِلَّ إحْداهُما فالقَوْلُ مُحْتَمِلٌ ∗∗∗ كِلَيْهِما فَهْيَ لِلْإظْهارِ مُفْتَقِرَهْ
ولَوْ أتى بِضَمِيرٍ كانَ مُقْتَضِيًا ∗∗∗ تَعْيِينَ واحِدَةٍ لِلْحُكْمِ مُعْتَبَرَهْ
ومَن رَدَدْتُمْ عَلَيْهِ الحَلَّ فَهْوَ كَما ∗∗∗ أشَرْتُمُ لَيْسَ مَرْضِيًّا لِمَن سَبَرَهْ
هَذا الَّذِي سَمَحَ الذِّهْنُ الكَلِيلُ بِهِ ∗∗∗ واللَّهُ أعْلَمُ في الفَحْوى بِما ذَكَرَهْ
وقَدْ أشارَ السُّؤالُ والجَوابُ إلى رَدٍّ عَلى جَوابٍ لِأبِي القاسِمِ المَغْرِبِيِّ في تَفْسِيرِهِ إذْ جَعَلَ (إحْداهُما) الأوَّلَ مُرادًا بِهِ إحْدى الشَّهادَتَيْنِ، وجَعَلَ (تَضِلَّ) بِمَعْنى تَتْلَفُ بِالنِّسْيانِ، وجَعَلَ (إحْداهُما) الثّانِيَ مُرادًا بِهِ إحْدى المَرْأتَيْنِ، ولَمّا اخْتَلَفَ المَدْلُولُ لَمْ يَبْقَ إظْهارٌ في مَقامِ الإضْمارِ، وهو تَكَلُّفٌ وتَشْتِيتٌ لِلضَّمائِرِ لا دَلِيلَ عَلَيْهِ، فَيُنَزَّهُ تَخْرِيجُ كَلامِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وهو الَّذِي عَناهُ الغَزْنَوِيُّ بِقَوْلِهِ: ومَن رَدَدْتُمْ عَلَيْهِ الحَلَّ. . . إلخ.
والَّذِي أراهُ أنَّ هَذا الإظْهارَ في مَقامِ الإضْمارِ لِنُكْتَةٍ هي قَصْدُ اسْتِقْلالِ الجُمْلَةِ بِمَدْلُولِها كَيْلا تَحْتاجَ إلى كَلامٍ آخَرَ فِيهِ مَعادُ الضَّمِيرِ لَوْ أُضْمِرَ، وذَلِكَ يُرَشِّحُ الجُمْلَةَ لِأنْ تَجْرِيَ مَجْرى المَثَلِ، وكَأنَّ المُرادَ هُنا الإيماءُ إلى أنَّ كِلْتا الجُمْلَتَيْنِ عِلَّةٌ لِمَشْرُوعِيَّةِ تَعَدُّدِ المَرْأةِ في الشَّهادَةِ، فالمَرْأةُ مُعَرَّضَةٌ لِتَطَرُّقِ النِّسْيانِ إلَيْها وقِلَّةِ ضَبْطِ ما يَهُمُّ ضَبْطُهُ، والتَّعَدُّدُ مَظِنَّةٌ لِاخْتِلافِ مَوادِّ النَّقْصِ والخَلَلِ، فَعَسى ألّا تَنْسى إحْداهُما ما نَسِيَتْهُ الأُخْرى فَقَوْلُهُ: ”أنْ تَضِلَّ“، تَعْلِيلٌ لِعَدَمِ الِاكْتِفاءِ بِالواحِدَةِ، وقَوْلُهُ:
﴿فَتُذَكِّرَ إحْداهُما الأُخْرى﴾ تَعْلِيلٌ لِإشْهادِ امْرَأةٍ ثانِيَةٍ حَتّى لا تَبْطُلَ شَهادَةُ الأُولى مِن أصْلِها.
* * *﴿ولا يَأْبَ الشُّهَداءُ إذا ما دُعُوا﴾ .
عُطِفَ ”لا يَأْبَ“ عَلى
﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ﴾ لِأنَّهُ لَمّا أمَرَ المُتَعاقِدَيْنِ بِاسْتِشْهادِ شاهِدَيْنِ نَهى مَن يُطْلَبُ إشْهادُهُ عَنْ أنْ يَأْبى لِيَتِمَّ المَطْلُوبُ وهو الإشْهادُ.
وإنَّما جِيءَ في خِطابِ المُتَعاقِدَيْنِ بِصِيغَةِ الأمْرِ وجِيءَ في خِطابِ الشُّهَداءِ بِصِيغَةِ النَّهْيِ اهْتِمامًا بِما فِيهِ التَّفْرِيطُ، فَإنَّ المُتَعاقِدَيْنِ يُظَنُّ بِهِما إهْمالُ الإشْهادِ فَأُمِرا بِهِ، والشُّهُودُ يُظَنُّ بِهِمُ الِامْتِناعُ فَنُهُوا عَنْهُ، وكُلٌّ يَسْتَلْزِمُ ضِدَّهُ.
وتَسْمِيَةُ المَدْعُوِّينَ شُهَداءَ بِاعْتِبارِ الأوَّلِ القَرِيبِ، وهو المُشارَفَةُ، وكَأنَّ في ذَلِكَ نُكْتَةً عَظِيمَةً، وهي الإيماءُ إلى أنَّهم بِمُجَرَّدِ دَعْوَتِهِمْ إلى الإشْهادِ، قَدْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِمُ الإجابَةُ، فَصارُوا شُهَداءَ.
وحُذِفَ مَعْمُولُ ”دُعُوا“ إمّا لِظُهُورِهِ مِن قَوْلِهِ - قَبْلَهُ -
﴿واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ﴾ أيْ إذا ما دُعُوا إلى الشَّهادَةِ أيِ التَّحَمُّلِ، وهَذا قَوْلُ قَتادَةَ والرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمانَ، ونُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، فالنَّهْيُ عَنِ الإبايَةِ عِنْدَ الدُّعاءِ إلى الشَّهادَةِ حاصِلٌ بِالأوْلى، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حَذْفُ المَعْمُولِ لِقَصْدِ العُمُومِ، أيْ: إذا ما دُعُوا لِلتَّحَمُّلِ والأداءِ مَعًا. قالَهُ الحَسَنُ، وابْنُ عَبّاسٍ وقالَ مُجاهِدٌ: إذا ما دُعُوا إلى الأداءِ خاصَّةً، ولَعَلَّ الَّذِي حَمَلَهُ عَلى ذَلِكَ هو قَوْلُهُ ”الشُّهَداءُ“ لِأنَّهم لا يَكُونُونَ شُهَداءَ حَقِيقَةً إلّا بَعْدَ التَّحَمُّلِ ويُبْعِدُهُ أنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ بَعْدَ هَذا:
﴿ولا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ﴾ [البقرة: ٢٨٣] وذَلِكَ نَهْيٌ عَنِ الإبايَةِ عِنْدَ الدَّعْوَةِ لِلْأداءِ.
والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ حَذْفَ المُتَعَلِّقِ بِفِعْلِ ”دُعُوا“ لِإفادَةِ شُمُولِ ما يُدْعَونَ لِأجْلِهِ في التَّعاقُدِ: مِن تَحَمُّلٍ عِنْدَ قَصْدِ الشَّهادَةِ، ومِن أداءٍ عِنْدَ الِاحْتِياجِ إلى البَيِّنَةِ، قالَ ابْنُ الحاجِبِ: والتَّحَمُّلُ حَيْثُ يُفْتَقَرُ إلَيْهِ فَرْضُ كِفايَةٍ والأداءُ مِن نَحْوِ البَرِيدَيْنِ - إنْ كانا اثْنَيْنِ - فَرْضُ عَيْنٍ، ولا تَحِلُّ إحالَتُهُ عَلى اليَمِينِ.
والقَوْلُ في مُقْتَضى النَّهْيِ هُنا كالقَوْلِ في قَوْلِهِ:
﴿ولا يَأْبَ كاتِبٌ﴾ ويَظْهَرُ أنَّ التَّحَمُّلَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ مِنَ الإمامِ، أوْ بِما يُعَيِّنُهُ، وكانَ الشَّأْنُ أنْ يَكُونَ فَرْضَ عَيْنٍ إلّا لِضَرُورَةٍ فَيَنْتَقِلُ المُتَعاقِدانِ الآخَرانِ، وأمّا الأداءُ فَفَرْضُ عَيْنٍ إنْ كانَ لا مَضَرَّةَ فِيهِ عَلى الشّاهِدِ في بَدَنِهِ أوْ مالِهِ، وعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ الأداءُ فَرْضُ كِفايَةٍ إلّا إذا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ بِأنْ لا يُوجَدَ بَدَلُهُ. وإنَّما يَجِبُ بِشَرْطِ عَدالَةِ القاضِي وقُرْبِ المَكانِ بِأنْ يَرْجِعَ الشّاهِدُ إلى مَنزِلِهِ في يَوْمِهِ، وعِلْمِهِ بِأنَّهُ تُقْبَلُ شَهادَتُهُ وطَلَبِ المُدَّعِي. وفي هَذِهِ التَّعْلِيقاتِ رَدٌّ بِالشَّهادَةِ إلى مُخْتَلِفِ اجْتِهاداتِ الشُّهُودِ، وذَلِكَ بابٌ مِنَ التَّأْوِيلاتِ لا يَنْبَغِي فَتْحُهُ.
قالَ القُرْطُبِيُّ: يُؤْخَذُ مِن هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ يَجُوزُ لِلْإمامِ أنْ يُقِيمَ لِلنّاسِ شُهُودًا، ويَجْعَلَ لَهم كِفايَتَهم مِن بَيْتِ المالِ، فَلا يَكُونُ لَهم شُغْلٌ إلّا تَحَمُّلُ حُقُوقِ النّاسِ حِفْظًا لَها، قُلْتُ: وقَدْ أحْسَنَ قُضاةُ تُونُسَ المُتَقَدِّمُونَ وأُمَراؤُها، في تَعْيِينِ شُهُودٍ مُنْتَصِبِينَ لِلشَّهادَةِ بَيْنَ النّاسِ، يُؤْخَذُونَ مِمَّنْ يَقْبَلُهُمُ القُضاةُ ويَعْرِفُونَهم بِالعَدالَةِ، وكَذَلِكَ كانَ الأمْرُ في الأنْدَلُسِ، وذَلِكَ مِن حُسْنِ النَّظَرِ لِلْأُمَّةِ، ولَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُتَّبَعًا في بِلادِ المَشْرِقِ، بَلْ كانُوا يَكْتَفُونَ بِشُهْرَةِ عَدالَةِ بَعْضِ الفُقَهاءِ وضَبْطِهِمْ لِلشُّرُوطِ وكَتْبِ الوَثائِقِ فَيَعْتَمِدُهُمُ القُضاةُ، ويَكِلُونَ إلَيْهِمْ ما يَجْرِي في النَّوازِلِ مِن كِتابَةِ الدَّعْوى والأحْكامِ، وكانَ مِمّا يُعَدُّ في تَرْجَمَةِ بَعْضِ العُلَماءِ أنْ يُقالَ: كانَ مَقْبُولًا عِنْدَ القاضِي فُلانٍ.
(
﴿ولا تَسْأمُوا أنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أوْ كَبِيرًا إلى أجَلِهِ﴾) تَعْمِيمٌ في أكْوانِ أوْ أحْوالِ الدُّيُونِ المَأْمُورِ بِكِتابَتِها، فالصَّغِيرُ والكَبِيرُ هُنا مَجازانِ في الحَقِيرِ والجَلِيلِ. والمُعامَلاتُ الصَّغِيرَةُ أكْثَرُ مِنَ الكَبِيرَةِ، فَلِذَلِكَ نُهُوا عَنِ السَّآمَةِ هُنا، والسَّآمَةُ: المَلَلُ مِن تَكْرِيرِ فِعْلٍ ما.
والخِطابُ لِلْمُتَدايِنَيْنِ أصالَةً، ويَسْتَتْبِعُ ذَلِكَ خِطابَ الكاتِبِ؛ لِأنَّ المُتَدايِنَيْنِ إذا دَعَواهُ لِلْكِتابَةِ وجَبَ عَلَيْهِ أنْ يَكْتُبَ.
والنَّهْيُ عَنْها نَهْيٌ عَنْ أثَرِهِ، وهو تَرْكُ الكِتابَةِ لِأنَّ السَّآمَةَ تَحْصُلُ لِلنَّفْسِ مِن غَيْرِ اخْتِيارٍ، فَلا يُنْهى عَنْها في ذاتِها، وقِيلَ السَّآمَةُ هُنا كِنايَةٌ عَنِ الكَسَلِ والتَّهاوُنِ، وانْتَصَبَ (
﴿صَغِيرًا أوْ كَبِيرًا﴾) عَلى الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ المَنصُوبِ بِـ (
﴿تَكْتُبُوهُ﴾) أوْ عَلى حَذْفِ (كانَ) مَعَ اسْمِها. وتَقْدِيمُ الصَّغِيرِ عَلى الكَبِيرِ هُنا، مَعَ أنَّ مُقْتَضى الظّاهِرِ العَكْسُ كَتَقْدِيمِ السِّنَةِ عَلى النَّوْمِ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ﴾ [البقرة: ٢٥٥] لِأنَّهُ قَصَدَ هُنا إلى التَّنْصِيصِ عَلى العُمُومِ لِدَفْعِ ما يَطْرَأُ مِنَ التَّوَهُّماتِ في قِلَّةِ الِاعْتِناءِ بِالصَّغِيرِ، وهو أكْثَرُ، أوِ اعْتِقادِ عَدَمِ وُجُوبِ كِتابَةِ الكَبِيرِ، لَوِ اقْتُصِرَ في اللَّفْظِ عَلى الصَّغِيرِ.
وجُمْلَةُ (
﴿إلى أجَلِهِ﴾) حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ المَنصُوبِ بِـ (
﴿تَكْتُبُوهُ﴾) أيْ مُغَيّى الدَّيْنِ إلى أجْلِهِ الَّذِي تَعاقَدا عَلَيْهِ، والمُرادُ التَّغْيِيَةُ في الكِتابَةِ.
* * *﴿ذَلِكم أقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وأقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وأدْنى ألّا تَرْتابُوا﴾ تَصْرِيحٌ بِالعِلَّةِ لِتَشْرِيعِ الأمْرِ بِالكِتابَةِ: بِأنَّ الكِتابَةَ فِيها زِيادَةُ التَّوَثُّقِ، وهو أقْسَطُ أيْ أشَدُّ قِسْطًا، أيْ عَدْلًا، لِأنَّهُ أحْفَظُ لِلْحَقِّ وأقَوْمُ لِلشَّهادَةِ، أيْ أعْوَنُ عَلى إقامَتِها، وأقْرَبُ إلى نَفْيِ الرِّيبَةِ والشَّكِّ، فَهَذِهِ ثَلاثُ عِلَلٍ، ويُسْتَخْرَجُ مِنها أنَّ المَقْصِدَ الشَّرْعِيَّ أنْ تَكُونَ الشَّهادَةُ في الحُقُوقِ بَيِّنَةً واضِحَةً، بَعِيدَةً عَنِ الِاحْتِمالاتِ والتَّوَهُّماتِ، واسْمُ الإشارَةِ عائِدٌ إلى جَمِيعِ ما تَقَدَّمَ بِاعْتِبارِ أنَّهُ مَذْكُورٌ، فَلِذَلِكَ أُشِيرَ إلَيْهِ بِاسْمِ إشارَةِ الواحِدِ.
وفِي الآيَةِ حُجَّةٌ لِجَوازِ تَعْلِيلِ الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِعِلَلٍ مُتَعَدِّدَةٍ وهَذا لا يَنْبَغِي الِاخْتِلافُ فِيهِ.
واشْتِقاقُ أقْسَطُ مِن: أقْسَطَ، بِمَعْنى: عَدَلَ، وهو رُباعِيٌّ، ولَيْسَ مِن: قَسَطَ؛ لِأنَّهُ بِمَعْنى جارَ، وكَذا اشْتِقاقُ ”أقْوَمَ“ مِن أقامَ الشَّهادَةَ: إذا أظْهَرَها. جارٍ عَلى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ بِجَوازِ صَوْغِ التَّفْضِيلِ والتَّعَجُّبِ مِنَ الرُّباعِيِّ المَهْمُوزِ، سَواءٌ كانَتِ الهَمْزَةُ لِلتَّعْدِيَةِ نَحْوَ أعْطى، أمْ لِغَيْرِ التَّعْدِيَةِ نَحْوَ أفْرَطَ، وجَوَّزَ صاحِبُ الكَشّافِ أنْ يَكُونَ ”أقْسَطُ“ مُشْتَقًّا مِن قاسِطٍ بِمَعْنى ذِي قِسْطٍ أيْ صِيغَةِ نَسَبٍ، وهو مُشْكِلٌ؛ إذْ لَيْسَ لِهَذِهِ الزِّنَةِ فِعْلٌ، واسْتُشْكِلَ أيْضًا بِأنَّ صَوْغَهُ مِنَ الجامِدِ أشَدُّ مِن صَوْغِهِ مِنَ الرُّباعِيِّ، والجَوابُ عِنْدِي أنَّ النَّسَبَ هُنا لَمّا كانَ إلى المَصْدَرِ شابَهَ المُشْتَقَّ؛ إذِ المَصْدَرُ أصْلُ الِاشْتِقاقِ، وأنْ يَكُونَ (أقْوَمُ) مُشْتَقًّا مِن: قامَ، الَّذِي هو مُحَوَّلٌ إلى وزْنِ فَعُلَ - بِضَمِّ العَيْنِ - الدّالِّ عَلى السَّجِيَّةِ الَّذِي يَجِيءُ مِنهُ (قَوِيمٌ) صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ.
* * *﴿إلّا أنْ تَكُونَ تِجارَةٌ حاضِرَةٌ تُدِيرُونَها بَيْنَكم فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ ألّا تَكْتُبُوها﴾ اسْتِثْناءٌ مِن عُمُومِ الأحْوالِ أوِ الأكْوانِ في قَوْلِهِ (صَغِيرًا أوْ كَبِيرًا) وهو اسْتِثْناءٌ قِيلَ: مُنْقَطِعٌ، لِأنَّ التِّجارَةَ الحاضِرَةَ لَيْسَتْ مِنَ الدَّيْنِ في شَيْءٍ، والتَّقْدِيرُ: إلّا كَوْنَ تِجارَةٍ حاضِرَةٍ.
والحاضِرَةُ: النّاجِزَةُ، الَّتِي لا تَأْخِيرَ فِيها، إذِ الحاضِرُ والعاجِلُ والنّاجِزُ، مُتَرادِفَةٌ، والدَّيْنُ والأجْلُ والنَّسِيئَةُ مُتَرادِفَةٌ.
وقَوْلُهُ: تُدِيرُونَها بَيْنَكم بَيانٌ لِجُمْلَةِ أنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً بَلِ البَيانُ في مِثْلِ هَذا أقْرَبُ مِنهُ في قَوْلِ الشّاعِرِ مِمّا أنْشَدَهُ ابْنُ الأعْرابِيِّ في نَوادِرِهِ، وقالَ العَيْنِيُّ: يُنْسَبُ إلى الفَرَزْدَقِ:
إلى اللَّهِ أشْكُو بِالمَدِينَةِ حاجَةً وبِالشّامِ أُخْرى كَيْفَ يَلْتَقِيانِ
إذْ جَعَلَ صاحِبُ الكَشّافِ ”كَيْفَ يَلْتَقِيانِ“ بَيانًا لِـ (حاجَةٍ وأُخْرى) أوْ تَجْعَلُ ”تُدِيرُونَها“ صِفَةً ثانِيَةً لِـ (تِجارَةً) في مَعْنى البَيانِ، ولَعَلَّ فائِدَةَ ذِكْرِهِ: الإيماءُ إلى تَعْلِيلِ الرُّخْصَةِ في تَرْكِ الكِتابَةِ، لِأنَّ إدارَتَها أغْنَتْ عَنِ الكِتابَةِ، وقِيلَ: الِاسْتِثْناءُ مُتَّصِلٌ، والمُرادُ بِالتِّجارَةِ الحاضِرَةِ: المُؤَجَّلَةُ إلى أجَلٍ قَرِيبٍ، فَهي مِن جُمْلَةِ الدُّيُونِ، رَخَّصَ فِيها تَرْكَ الكِتابَةِ بِها، وهَذا بَعِيدٌ.
وقَوْلُهُ:
﴿فَلَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ ألّا تَكْتُبُوها﴾ تَصْرِيحٌ بِمَفْهُومِ الِاسْتِثْناءِ، مَعَ ما في زِيادَةِ قَوْلِهِ (جُناحٌ) مِنَ الإشارَةِ إلى أنَّ هَذا الحُكْمَ رُخْصَةٌ، لِأنَّ رَفْعَ الجُناحِ مُؤْذِنٌ بِأنَّ الكِتابَةَ أوْلى وأحْسَنُ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ ”تِجارَةٌ“ بِالرَّفْعِ: عَلى أنَّ ”تَكُونَ“ تامَّةٌ، وقَرَأهُ عاصِمٌ بِالنَّصْبِ: عَلى أنَّ ”تَكُونَ“ ناقِصَةٌ، وأنَّ في فِعْلِ ”تَكُونَ“ ضَمِيرًا مُسْتَتِرًا عائِدًا عَلى ما يُفِيدُهُ خَبَرُ كانَ، أيْ إلّا أنْ تَكُونَ التِّجارَةُ تِجارَةً حاضِرَةً، كَما في قَوْلِ عَمْرِو بْنِ شاسٍ - أنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ -:
بَنِي أسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلاءَنا ∗∗∗ إذا كانَ يَوْمًا ذا كَواكِبَ أشْنَعا
تَقْدِيرُهُ: إذا كانَ اليَوْمُ يَوْمًا ذا كَواكِبَ.
وقَوْلُهُ: ”إلّا“ أصْلُهُ إنْ لا، فَرُسِمَ مُدْغَمًا.
* * *﴿وأشْهِدُوا إذا تَبايَعْتُمْ﴾ تَشْرِيعٌ لِلْإشْهادِ عِنْدَ البَيْعِ ولَوْ بِغَيْرِ دَيْنٍ إذا كانَ البَيْعُ غَيْرَ تِجارَةٍ حاضِرَةٍ، وهَذا إكْمالٌ لِصُوَرِ المُعامَلَةِ، فَإنَّها إمّا تَدايُنٌ، أوْ آيِلٌ إلَيْهِ كالبَيْعِ بِدَيْنٍ، وإمّا تَناجُزٌ في تِجارَةٍ وإمّا تَناجُزٌ في غَيْرِ تِجارَةٍ كَبَيْعِ العَقارِ والعُرُوضِ في غَيْرِ التَّجْرِ، وقِيلَ: المُرادُ بِـ (تَبايَعْتُمْ) التِّجارَةُ، فَتَكُونُ الرُّخْصَةُ في تَرْكِ الكِتابَةِ مَعَ بَقاءِ الإشْهادِ بِدُونِ كِتابَةٍ، وهَذا بَعِيدٌ جِدًّا، لِأنَّ الكِتابَةَ ما شُرِعَتْ إلّا لِأجْلِ الإشْهادِ والتَّوَثُّقِ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ”وأشْهِدُوا“ أمْرٌ: قِيلَ هو لِلْوُجُوبِ، وهَذا قَوْلُ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ، وابْنِ عُمَرَ، وأبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، وسَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ ومُجاهِدٍ، والضَّحّاكِ، وعَطاءٍ، وابْنِ جُرَيْجٍ، والنَّخَعِيِّ، وجابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وداوُدَ الظّاهِرِيِّ، والطَّبَرِيِّ، وقَدْ أشْهَدَ النَّبِيءُ ﷺ عَلى بَيْعِ عَبْدٍ باعَهُ لِلْعَدّاءِ بْنِ خالِدِ بْنِ هَوْذَةَ وكَتَبَ في ذَلِكَ:
«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَذا ما اشْتَرى العَدّاءُ بْنُ خالِدِ بْنِ هَوْذَةَ مِن مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ اشْتَرى مِنهُ عَبْدًا لا داءَ ولا غائِلَةَ ولا خِبْثَةَ، بَيْعَ المُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ»، وقِيلَ: هو لِلنَّدْبِ وذَهَبَ إلَيْهِ مِنَ السَّلَفِ الحَسَنُ، والشَّعْبِيُّ، وهو قَوْلُ مالِكٍ، وأبِي حَنِيفَةَ، والشّافِعِيِّ، وأحْمَدَ، وتَمَسَّكُوا بِالسُّنَّةِ:
«أنَّ النَّبِيءَ ﷺ باعَ ولَمْ يُشْهِدْ»، قالَهُ ابْنُ العَرَبِيِّ، وجَوابُهُ: أنَّ ذَلِكَ في مَواضِعِ الِائْتِمانِ وسَيَجِيءُ قَوْلُهُ تَعالى: فَإنْ أمِنَ بَعْضُكم بَعْضًا الآيَةَ وقَدْ تَقَدَّمَ ما لِابْنِ عَطِيَّةَ في تَوْجِيهِ عَدَمِ الوُجُوبِ ورَدُّنا لَهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ”
﴿فاكْتُبُوهُ﴾“ .
* * *﴿ولا يُضارَّ كاتِبٌ ولا شَهِيدٌ وإنْ تَفْعَلُوا فَإنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ .
نَهْيٌ عَنِ المُضارَّةِ وهي تَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ الكاتِبُ والشَّهِيدُ مَصْدَرًا لِلْإضْرارِ، أوْ أنْ يَكُونَ المَكْتُوبُ لَهُ والمَشْهُودُ لَهُ مَصْدَرًا لِلْإضْرارِ، لِأنَّ ”يُضارَّ“ يَحْتَمِلُ البِناءَ لِلْمَعْلُومِ ولِلْمَجْهُولِ، ولَعَلَّ اخْتِيارَ هَذِهِ المادَّةِ هُنا مَقْصُودٌ، لِاحْتِمالِها حُكْمَيْنِ، لِيَكُونَ الكَلامُ مُوَجَّهًا فَيُحْمَلُ عَلى كِلا مَعْنَيَيْهِ لِعَدَمِ تَنافِيهِما، وهَذا مِن وجْهِ الإعْجازِ.
والمُضارَّةُ: إدْخالُ الضَّرَرِ بِأنْ يُوقِعَ المُتَعاقِدانِ الشّاهِدَيْنِ والكاتِبَ في الحَرَجِ والخَسارَةِ، أوْ ما يَجُرُّ إلى الشَّهادَةِ، وقَدْ أخَذَ فُقَهاؤُنا مِن هاتِهِ الآيَةِ أحْكامًا كَثِيرَةً تَتَفَرَّعُ عَنِ الإضْرارِ، مِنها رُكُوبُ الشّاهِدِ مِنَ المَسافَةِ البَعِيدَةِ، ومِنها تَرْكُ اسْتِفْسارِهِ بَعْدَ المُدَّةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي هي مَظِنَّةُ النِّسْيانِ، ومِنها اسْتِفْسارُهُ اسْتِفْسارًا يُوقِعُهُ في الِاضْطِرابِ، ويُؤْخَذُ مِنها أنَّهُ يَنْبَغِي لِوُلاةِ الأُمُورِ جَعْلُ جانِبٍ مِن مالِ بَيْتِ المالِ لِدَفْعِ مَصارِيفِ انْتِقالِ الشُّهُودِ وإقامَتِهِمْ في غَيْرِ بَلَدِهِمْ وتَعْوِيضِ ما سَيَنالُهم مِن ذَلِكَ الِانْتِقالِ مِنَ الخَسائِرِ المالِيَّةِ في إضاعَةِ عائِلاتِهِمْ، إعانَةً عَلى إقامَةِ العَدْلِ بِقَدْرِ الطّاقَةِ والسَّعَةِ.
وقَوْلُهُ تَعالى:
﴿وإنْ تَفْعَلُوا فَإنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ﴾ حُذِفَ مَفْعُولُ ”تَفْعَلُوا“ وهو مَعْلُومٌ لِأنَّهُ الإضْرارُ المُسْتَفادُ مِن ”لا يُضارَّ“ مِثْلُ ”اعْدِلُوا هو أقْرَبُ“ والفُسُوقُ الإثْمُ العَظِيمُ قالَ تَعالى: بِئْسَ الِاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمانِ.
* * *﴿واتَّقُوا اللَّهَ ويُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ واللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ .
أمَرَ بِالتَّقْوى لِأنَّها مِلاكُ الخَيْرِ، وبِها يَكُونُ تَرْكُ الفُسُوقِ، وقَوْلُهُ:
﴿ويُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةِ الإسْلامِ الَّذِي أخْرَجَهم مِنَ الجَهالَةِ إلى العِلْمِ بِالشَّرِيعَةِ، ونِظامِ العالَمِ، وهو أكْبَرُ العُلُومِ وأنْفَعُها، ووَعْدٌ بِدَوامِ ذَلِكَ لِأنَّهُ جِيءَ فِيهِ بِالمُضارِعِ، وفي عَطْفِهِ عَلى الأمْرِ بِالتَّقْوى إيماءٌ إلى أنَّ التَّقْوى سَبَبُ إفاضَةِ العُلُومِ، حَتّى قِيلَ: إنَّ الواوَ فِيهِ لِلتَّعْلِيلِ أيْ: لِيُعَلِّمَكم، وجَعَلَهُ بَعْضُهم مِن مَعانِي الواوِ، ولَيْسَ بِصَحِيحٍ.
وإظْهارُ اسْمِ الجَلالَةِ في الجُمَلِ الثَّلاثِ لِقَصْدِ التَّنْوِيهِ بِكُلِّ جُمْلَةٍ مِنها حَتّى تَكُونَ مُسْتَقِلَّةَ الدَّلالَةِ، غَيْرَ مُحْتاجَةٍ إلى غَيْرِهِ المُشْتَمِلِ عَلى مَعادِ ضَمِيرِها، حَتّى إذا سَمِعَ السّامِعُ كُلَّ واحِدَةٍ مِنها حَصَلَ لَهُ عِلْمٌ مُسْتَقِلٌّ، وقَدْ لا يَسْمَعُ إحْداها فَلا يَضُرُّهُ ذَلِكَ في فَهْمِ أُخْراها، ونَظِيرُ هَذا الإظْهارِ قَوْلُ الحَماسِيِّ:
اللُّؤْمُ أكْرَمُ مِن وبْرٍ ووالِدِهِ واللُّؤْمُ أكْرَمُ مِن وبْرٍ وما ولَدا
واللُّؤْمُ داءٌ لِوَبْرٍ يُقْتَلُونَ بِهِ ∗∗∗ لا يُقْتَلُونَ بِداءٍ غَيْرِهِ أبَدًا
فَإنَّهُ لَمّا قَصَدَ التَّشْنِيعَ بِالقَبِيلَةِ ومَن ولَدَها، وما ولَدَتْهُ، أظْهَرَ اللُّؤْمَ في الجُمَلِ الثَّلاثِ ولَمّا كانَتِ الجُمْلَةُ الرّابِعَةُ كالتَّأْكِيدِ لِلثّالِثَةِ لَمْ يُظْهِرِ اسْمَ اللُّؤْمِ بِها، هَذا، ولِإظْهارِ اسْمِ الجَلالَةِ نُكْتَةٌ أُخْرى، وهي التَّهْوِيلُ، ولِلتَّكْرِيرِ مَواقِعُ يَحْسُنُ فِيها، ومَواقِعُ لا يَحْسُنُ فِيها، قالَ الشَّيْخُ في دَلائِلِ الإعْجازِ، في الخاتِمَةِ الَّتِي ذَكَرَ فِيها أنَّ الذَّوْقَ قَدْ يُدْرِكُ أشْياءَ لا يُهْتَدى لِأسْبابِها، وأنَّ بَعْضَ الأئِمَّةِ قَدْ يَعْرِضُ لَهُ الخَطَأُ في التَّأْوِيلِ: ومِن ذَلِكَ ما حُكِيَ عَنِ الصّاحِبِ أنَّهُ قالَ: كانَ الأُسْتاذُ ابْنُ العَمِيدِ يَخْتارُ مِن شِعْرِ ابْنِ الرُّومِيِّ ويُنَقِّطُ عَلى ما يَخْتارُهُ، قالَ الصّاحِبُ فَدَفَعَ إلَيَّ القَصِيدَةَ الَّتِي أوَّلُها:
أتَحْتَ ضُلُوعِي جَمْرَةٌ تَتَوَقَّدُ ∗∗∗ عَلى ما مَضى أمْ حَسْرَةٌ تَتَجَدَّدُ
وقالَ لِي تَأمَّلْها، فَتَأمَّلْتُها فَوَجَدْتُهُ قَدْ تَرَكَ خَيْرَ بَيْتٍ لَمْ يُنَقِّطْ عَلَيْهِ وهو قَوْلُهُ:
بِجَهْلٍ كَجَهْلِ السَّيْفِ والسَّيْفُ مُنْتَضًى ∗∗∗ وحِلْمٍ كَحِلْمِ السَّيْفِ والسَّيْفُ مُغْمَدُ
فَقُلْتُ: لِمَ تَرَكَ الأُسْتاذُ هَذا البَيْتَ ؟ فَقالَ: لَعَلَّ القَلَمَ تَجاوَزَهُ، ثُمَّ رَآنِي مِن بَعْدُ فاعْتَذَرَ بِعُذْرٍ كانَ شَرًّا مِن تَرْكِهِ، فَقالَ: إنَّما تَرَكْتُهُ لِأنَّهُ أعادَ السَّيْفَ أرْبَعَ مَرّاتٍ، قالَ الصّاحِبُ: لَوْ لَمْ يُعِدْهُ لَفَسَدَ البَيْتُ، قالَ الشَّيْخُ عَبْدُ القاهِرِ: والأمْرُ كَما قالَ الصّاحِبُ. ثُمَّ قالَ: قالَهُ أبُو يَعْقُوبَ: إنَّ الكِنايَةَ والتَّعْرِيضَ لا يَعْمَلانِ في العُقُولِ عَمَلَ الإفْصاحِ والتَّكْشِيفِ؛ لِأجْلِ ذَلِكَ كانَ لِإعادَةِ اللَّفْظِ في قَوْلِهِ تَعالى:
﴿وبِالحَقِّ أنْزَلْناهُ وبِالحَقِّ نَزَلَ﴾ [الإسراء: ١٠٥] وقَوْلِهِ:
﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ [الإخلاص: ١] عَمَلٌ لَوْلاهُ لَمْ يَكُنْ.
وقالَ الرّاغِبُ: قَدِ اسْتَكْرَهُوا التَّكْرِيرَ في قَوْلِهِ:
فَما لِلنَّوى جُذَّ النَّوى قُطِعَ النَّوى حَتّى قِيلَ: لَوْ سُلِّطَ بَعِيرٌ عَلى هَذا البَيْتِ لَرَعى ما فِيهِ مِنَ النَّوى، ثُمَّ قالَ: إنَّ التَّكْرِيرَ المُسْتَحْسَنَ هو تَكْرِيرٌ يَقَعُ عَلى طَرِيقِ التَّعْظِيمِ، أوِ التَّحْقِيرِ، في جُمَلٍ مُتَوالِياتٍ، كُلُّ جُمْلَةٍ مِنها مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِها، والمُسْتَقْبَحُ هو أنْ يَكُونَ التَّكْرِيرُ في جُمْلَةٍ واحِدَةٍ أوْ في جُمَلٍ في مَعْنًى، ولَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعْنى التَّعْظِيمِ والتَّحْقِيرِ، فالرّاغِبُ مُوافِقٌ لِلْأُسْتاذِ ابْنِ العَمِيدِ، وعَبْدُ القاهِرِ مُوافِقٌ لِلصّاحِبِ بْنِ عَبّادٍ، قالَ المَرْزُوقِيُّ في شَرْحِ الحَماسَةِ عِنْدَ قَوْلِ يَحْيى بْنِ زِيادٍ:
لَمّا رَأيْتُ الشَّيْبَ لاحَ بَياضُهُ ∗∗∗ بِمَفْرِقِ رَأْسِي قُلْتُ لِلشَّيْبِ مَرْحَبًا
كانَ الواجِبُ أنْ يَقُولَ: قُلْتُ لَهُ مَرْحَبًا. لَكِنَّهم يُكَرِّرُونَ الأعْلامَ وأسْماءَ الأجْناسِ كَثِيرًا والقَصْدُ بِالتَّكْرِيرِ التَّفْخِيمُ.
واعْلَمْ أنَّهُ لَيْسَ التَّكْرِيرُ بِمَقْصُورٍ عَلى التَّعْظِيمِ بَلْ مَقامُهُ كُلُّ مَقامٍ يُرادُ مِنهُ تَسْجِيلُ انْتِسابِ الفِعْلِ إلى صاحِبِ الِاسْمِ المُكَرَّرِ، كَما تَقَدَّمَ في بَيْتَيِ الحَماسَةِ:
اللُّؤْمُ أكْرَمُ مِن وبْرٍ
. . .
إلخ.
وقَدْ وقَعَ التَّكْرِيرُ مُتَعاقِبًا في قَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ:
﴿وإنَّ مِنهم لَفَرِيقًا يَلْوُونَ ألْسِنَتَهم بِالكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتابِ وما هو مِنَ الكِتابِ ويَقُولُونَ هو مِن عِنْدِ اللَّهِ وما هو مِن عِنْدِ اللَّهِ ويَقُولُونَ عَلى اللَّهِ الكَذِبَ وهم يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: ٧٨] .