﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن یَتَّخِذُ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَندَادࣰا یُحِبُّونَهُمۡ كَحُبِّ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَشَدُّ حُبࣰّا لِّلَّهِۗ وَلَوۡ یَرَى ٱلَّذِینَ ظَلَمُوۤا۟ إِذۡ یَرَوۡنَ ٱلۡعَذَابَ أَنَّ ٱلۡقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِیعࣰا وَأَنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعَذَابِ﴾ [البقرة ١٦٥]
﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَتَّخِذُ مَن دُونِ اللَّهِ أنْدادًا يُحِبُّونَهم كَحُبِّ اللَّهِ والَّذِينَ آمَنُوا أشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾عَطْفٌ عَلى
﴿إنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [البقرة: ١٦٤] إلَخْ لِأنَّ تِلْكَ الجُمْلَةَ تَضَمَّنَتْ أنَّ قَوْمًا يَعْقِلُونَ اسْتَدَلُّوا بِخَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ وما عُطِفَ عَلَيْهِ عَلى أنَّ اللَّهَ واحِدٌ فَوَحَّدُوهُ، فَناسَبَ أنْ يَعْطِفَ عَلَيْهِ شَأْنَ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا لِذَلِكَ فاتَّخَذُوا لِأنْفُسِهِمْ شُرَكاءَ مَعَ قِيامِ تِلْكَ الدَّلائِلِ الواضِحَةِ، فَهَؤُلاءُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَن دُونِ اللَّهِ هُمُ المُتَحَدَّثُ عَنْهم آنِفًا بِقَوْلِهِ تَعالى
﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وماتُوا وهم كُفّارٌ﴾ [البقرة: ١٦١] الآياتِ.
وقَوْلُهُ مِنَ النّاسِ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وقَدْ ذَكَرْنا وجْهَ الإخْبارِ بِهِ وفائِدَةَ تَقْدِيمهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى
﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللَّهِ وبِاليَوْمِ الآخِرِ وما هم بِمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٨]، وعَطْفُهُ عَلى ذِكْرِ دَلائِلِ الوَحْدانِيَّةِ وتَقْدِيمُ الخَبَرِ وكَوْنُ الخَبَرِ مِنَ النّاسِ مُؤْذِنٌ بِأنَّهُ تَعَجُّبٌ مِن شَأْنِهِمْ.
و”مَن“ في قَوْلِهِ مَن يَتَّخِذُ ماصَدَقُها فَرِيقٌ لا فَرْدٌ بِدَلِيلِ عَوْدِ الضَّمِيرِ في قَوْلِهِ
﴿يُحِبُّونَهم كَحُبِّ اللَّهِ﴾ .
والمُرادُ بِالأنْدادِ الأمْثالُ في الأُلُوهِيَّةِ والعِبادَةِ، وقَدْ مَضى الكَلامُ عَلى النِّدِّ بِكَسْرِ النُّونِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى
﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أنْدادًا وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٢] . وقَوْلُهُ مِن دُونِ اللَّهِ مَعْناهُ مَعَ اللَّهِ لِأنَّ ”دُونَ“ تُؤْذِنُ بِالحَيْلُولَةِ بِمَعْنى وراءَ فَإذا قالُوا اتَّخَذَهُ دُونَ اللَّهِ فالمَعْنى أنَّهُ أفْرَدَهُ وأعْرَضَ عَنِ اللَّهِ، وإذا قالُوا: اتَّخَذَهُ مِن دُونِ اللَّهِ فالمَعْنى أنَّهُ جَعَلَهُ بَعْضَ حائِلٍ عَنِ اللَّهِ أيْ أشْرَكَهُ مَعَ اللَّهِ لِأنَّ الإشْراكَ يَسْتَلْزِمُ الإعْراضَ عَنِ اللَّهِ في أوْقاتِ الشُّغْلِ بِعِبادَةِ ذَلِكَ الشَّرِيكِ.
وقَوْلُهُ مِن دُونِ اللَّهِ حالٌ مِن ضَمِيرِ يَتَّخِذُ، وقَوْلُهُ يُحِبُّونَهم بَدَلٌ مَن يَتَّخِذُ بَدَلُ اشْتِمالٍ، لِأنَّ الِاتِّخاذَ يَشْتَمِلُ عَلى المَحَبَّةِ والعِبادَةِ ويَجُوزُ كَوْنُهُ صِفَةً لِمَن، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ صِفَةً لِـ أنْدادًا لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ لِأنَّ فِيهِ إيهامَ الضَّمائِرِ لِاحْتِمالِ أنْ يُفْهَمَ أنَّ المُحِبَّ هُمُ الأنْدادُ يُحِبُّونَ الَّذِينَ اتَّخَذُوهم، والأظْهَرُ أنْ يَكُونَ حالًا مِن مَن تَفْظِيعًا لِحالِهِمْ في هَذا الِاتِّخاذِ وهو اتِّخاذُ أنْدادٍ سَوَّوْها بِاللَّهِ تَعالى في مَحَبَّتِها والِاعْتِقادِ فِيها.
والمُرادُ بِالأنْدادِ هُنا وفي مَواقِعِهِ مِنَ القُرْآنِ، الأصْنامُ لا الرُّؤَساءُ كَما قِيلَ، وعادَ عَلَيْهِمْ ضَمِيرُ جَماعَةِ العُقَلاءِ المَنصُوبُ في قَوْلِهِ يُحِبُّونَهم لِأنَّ الأصْنامَ لَمّا اعْتَقَدُوا أُلُوهِيَّتَها فَقَدْ صارَتْ جَدِيرَةً بِضَمِيرِ العُقَلاءِ عَلى أنَّ ذَلِكَ مُسْتَعْمَلٌ في العَرَبِيَّةِ ولَوْ بِدُونِ هَذا التَّأْوِيلِ، والمَحَبَّةُ هُنا مُسْتَعْمَلَةٌ في مَعْناها الحَقِيقِيِّ وهو مَيْلُ النَّفْسِ إلى الحُسْنِ عِنْدَها بِمُعايَنَةٍ أوْ سَماعٍ أوْ حُصُولِ نَفْعٍ مُحَقَّقٍ أوْ مَوْهُومٍ لِعَدَمِ انْحِصارِ المَحَبَّةِ في مَيْلِ النَّفْسِ إلى المَرْئِيّاتِ خِلافًا لِبَعْضِ أهْلِ اللُّغَةِ، فَإنَّ المَيْلَ إلى الخُلُقِ - بِضَمِّ الخاءِ - الحَسَنِ وإلى الفِعْلِ الحَسَنِ والكَمالِ، مَحَبَّةٌ أشَدُّ مِن مَحَبَّةِ مَحاسِنِ الذّاتِ فَتَشْتَرِكُ هَذِهِ المَعانِي في إطْلاقِ اسْمِ المَحَبَّةِ عَلَيْها بِاعْتِبارِ الحاصِلِ في النَّفْسِ وقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ سَبَبِ حُصُولِهِ.
فالتَّحْقِيقُ أنَّ الحُبَّ يَتَعَلَّقُ بِذِكْرِ المَرْءِ وحُصُولِ النَّفْعِ مِنهُ وحُسْنِ السُّمْعَةِ وإنْ لَمْ يَرَهْ فَنَحْنُ نُحِبُّ اللَّهَ لِما نَعْلَمُهُ مِن صِفاتِ كَمالِهِ ولِما يَصِلُنا مِن نِعْمَتِهِ وفَضْلِهِ ورَحْمَتِهِ، ونُحِبُّ رَسُولَهُ لِما نَعْلَمُ مِن كَمالِهِ ولِما وصَلَ إلَيْنا عَلى يَدَيْهِ ولِما نَعْلَمُ مِن حِرْصِهِ عَلى هَدْيِنا ونَجاتِنا، ونُحِبُّ أجْدادَنا، ونُحِبُّ أسْلافَنا مِن عُلَماءِ الإسْلامِ، ونُحِبُّ الحُكَماءَ والمُصْلِحِينَ مِنَ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ، ولِلَّهِ دَرُّ أبِي مَدْيَنَ في هَذا المَعْنى:
وكَمْ مِن مُحِبٍّ قَدْ أحَبَّ وما رَأى وعِشْقُ الفَتى بِالسَّمْعِ مَرْتَبَةٌ أُخْرى
وبِضِدِّ ذَلِكَ كُلِّهِ تَكُونُ الكَراهِيَةُ، ومِنَ النّاسِ مَن زَعَمَ أنَّ تَعَلُّقَ المَحَبَّةِ بِاللَّهِ مَجازٌ مُرْسَلٌ في الطّاعَةِ والتَّعْظِيمِ بِعَلاقَةِ اللُّزُومِ لِأنَّ طاعَةَ المُحِبِّ لِلْمَحْبُوبِ لازِمٌ عُرْفِيٌّ لَها قالَ الجَعْدِيُّ:
لَوْ كانَ حُبُّكَ صادِقًا لَأطَعْتَهُ ∗∗∗ إنَّ المُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطِيعُ
أوْ مَجازٌ بِالحَذْفِ، والتَّقْدِيرُ: يُحِبُّونَ ثَوابَ اللَّهِ أوْ نِعْمَتَهُ لِأنَّ المَحَبَّةَ لا تَتَعَلَّقُ بِذاتِ اللَّهِ، إمّا لِأنَّها مِن أنْواعِ الإرادَةِ والإرادَةُ لا تَتَعَلَّقُ إلّا بِالجائِزاتِ وهو رَأْيُ بَعْضِ المُتَكَلِّمِينَ، وإمّا لِأنَّها طَلَبُ المُلائِمِ.
واللَّذَّةُ لا تَحْصُلُ بِغَيْرِ المَحْسُوساتِ وكِلا الدَّلِيلَيْنِ ظاهِرُ الوَهَنِ كَما بَيَّنَهُ الفَخْرُ، وعَلى هَذا التَّفْضِيلِ بَيْنَ إطْلاقِ المَحَبَّةِ هُنا يَكُونُ التَّشْبِيهُ راجِعًا إلى التَّسْوِيَةِ في القُوَّةِ ومِنهم مَن جَعَلَ مَحَبَّةَ اللَّهِ تَعالى مَجازًا وجَعَلَها في قَوْلِهِ يُحِبُّونَهم أيْضًا مَجازًا وعَلى ذَلِكَ دُرِجَ في الكَشّافِ وكانَ وجْهُهُ أنَّ الأصْلَ في تَشْبِيهِ اسْمٍ بِمِثْلِهِ أنْ يَكُونَ تَشْبِيهَ فَرْدٍ مِنَ الحَقِيقَةِ بِآخَرَ مِنها. وقَدْ عَلِمْتَ أنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ.
وقَوْلُهُ كَحُبِّ اللَّهِ مُفِيدٌ لِمُساواةِ الحُبَّيْنِ، لِأنَّ أصْلَ التَّشْبِيهِ المُساواةُ وإضافَةُ حُبٍّ إلى اسْمِ الجَلالَةِ مِنَ الإضافَةِ إلى المَفْعُولِ فَهو بِمَنزِلَةِ الفِعْلِ المَبْنِيِّ إلى المَجْهُولِ.
فالفاعِلُ المَحْذُوفُ حُذِفَ هُنا لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ أيْ كَيْفَما قَدَّرْتَ حُبَّ مُحِبٍّ لِلَّهِ فَحُبُّ هَؤُلاءِ أنْدادَهم مُساوٍ لِذَلِكَ الحُبِّ، ووَجْهُ هَذا التَّعْمِيمِ أنَّ أحْوالَ المُشْرِكِينَ مُخْتَلِفَةٌ، فَمِنهم مَن يَعْبُدُ الأنْدادَ مِنَ الأصْنامِ أوِ الجِنَّ أوِ الكَواكِبِ ويَعْتَرِفُ بِوُجُودِ اللَّهِ ويُسَوِّي بَيْنَ الأنْدادِ وبَيْنَهُ، ويُسَمِّيهِمْ شُرَكاءَ أوْ أبْناءَ لِلَّهِ تَعالى، ومِنهم مَن يَجْعَلُ لِلَّهِ تَعالى الإلَهِيَّةَ الكُبْرى ويَجْعَلُ الأنْدادَ شُفَعاءَ إلَيْهِ، ومِنهم مَن يَقْتَصِرُ عَلى عِبادَةِ الأنْدادِ ويَنْسى اللَّهَ تَعالى. قالَ تَعالى
﴿نَسُوا اللَّهَ فَأنْساهم أنْفُسَهُمْ﴾ [الحشر: ١٩]، ومِن هَؤُلاءِ صابِئَةُ العَرَبِ الَّذِينَ عَبَدُوا الكَواكِبَ، ولِلَّهِ تَعالى مُحِبُّونَ مِن غَيْرِ هَؤُلاءِ ومِن بَعْضِ هَؤُلاءِ، فَمَحَبَّةُ هَؤُلاءِ أنْدادَهم مُساوِيَةٌ لِمَحَبَّةِ مُحِبِّي اللَّهِ إيّاهُ أيْ مُساوِيَةٌ في التَّفْكِيرِ في نُفُوسِ المُحِبِّينَ مِنَ الفَرِيقَيْنِ فَيَصِحُّ أنْ تُقَدِّرَ يُحِبُّونَهم كَما يَجِبُ أنْ يُحَبَّ اللَّهُ أوْ يُحِبُّونَهم كَحُبِّ المُوَحِّدِينَ لِلَّهِ إيّاهُ أوْ يُحِبُّونَهم كَحُبِّهِمُ اللَّهَ، وقَدْ سَلَكَ كُلَّ صُورَةٍ مِن هَذِهِ التَّقادِيرِ طائِفَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ، والتَّحْقِيقُ أنَّ المُقَدَّرَ هو القَدْرُ المُشْتَرَكُ وهو ما قَدَّرْناهُ في أوَّلِ الكَلامِ.
واعْلَمْ أنَّ المُرادَ إنْكارُ مَحَبَّتِهِمُ الأنْدادَ مِن أصْلِها لا إنْكارَ تَسْوِيَتِها بِحُبِّ اللَّهِ تَعالى، وإنَّما قُيِّدَتْ بِمُماثَلَةِ مَحَبَّةِ اللَّهِ لِتَشْوِيهِها ولِلنِّداءِ عَلى انْحِطاطِ عُقُولِ أصْحابِها، وفِيهِ إيقاظٌ لِعُيُونِ مُعْظَمِ المُشْرِكِينَ وهُمُ الَّذِينَ زَعَمُوا أنَّ الأصْنامَ شُفَعاءُ لَهم كَما كَثُرَتْ حِكايَةُ ذَلِكَ عَنْهم في القُرْآنِ، فَنُبِّهُوا إلى أنَّهم سَوَّوْا بَيْنَ مَحَبَّةِ التّابِعِ ومَحَبَّةِ المَتْبُوعِ، ومَحَبَّةِ المَخْلُوقِ ومَحَبَّةِ الخالِقِ لَعَلَّهم يَسْتَفِيقُونَ فَإذا ذَهَبُوا يَبْحَثُونَ عَمّا تَسْتَحِقُّهُ الأصْنامُ مِنَ المَحَبَّةِ وتَطَلَّبُوا أسْبابَ المَحَبَّةِ وجَدُوها مَفْقُودَةً كَما قالَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ
﴿يا أبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ ولا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ [مريم: ٤٢] مَعَ ما في هَذا الحالِ مِن زِيادَةِ مُوجِبِ الإنْكارِ.
وقَوْلُهُ
﴿والَّذِينَ آمَنُوا أشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ أيْ أشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِن مَحَبَّةِ أصْحابِ الأنْدادِ أنْدادَهم، عَلى ما بَلَغُوا مِنَ التَّصَلُّبِ فِيها، ومِن مَحَبَّةِ بَعْضِهِمْ لِلَّهِ مِمَّنْ يَعْتَرِفُ بِاللَّهِ مَعَ الأنْدادِ، لِأنَّ مَحَبَّةَ جَمِيعِ هَؤُلاءِ المُحِبِّينَ وإنْ بَلَغُوا ما بَلَغُوا مِنَ التَّصَلُّبِ في مَحْبُوبِيهِمْ لَمّا كانَتْ مَحَبَّةً مُجَرَّدَةً عَنِ الحُجَّةِ لا تَبْلُغُ مَبْلَغَ أصْحابِ الِاعْتِقادِ الصَّمِيمِ المَعْضُودِ بِالبُرْهانِ، ولِأنَّ إيمانَهم بِهِمْ لِأغْراضٍ عاجِلَةٍ كَقَضاءِ الحاجاتِ ودَفْعِ المُلِمّاتِ، بِخِلافِ حُبِّ المُؤْمِنِينَ لِلَّهِ فَإنَّهُ حُبٌّ لِذاتِهِ وكَوْنِهِ أهْلًا لِلْحُبِّ، ثُمَّ يَتْبَعُ ذَلِكَ أغْراضٌ أعْظَمُها الأغْراضُ الآجِلَةُ لِرَفْعِ الدَّرَجاتِ وتَزْكِيَةِ النَّفْسِ.
والمَقْصُودُ تَنْقِيصُ المُشْرِكِينَ حَتّى في إيمانِهِمْ بِآلِهَتِهِمْ فَكَثِيرًا ما كانُوا يُعْرِضُونَ عَنْها إذا لَمْ يَجِدُوا مِنها ما أمَّلُوهُ.
فَمَوْرِدُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ المَحَبَّتَيْنِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْها التَّشْبِيهُ مُخالِفٌ لِمَوْرِدِ التَّفْضِيلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُ التَّفْضِيلِ هُنا، لِأنَّ التَّسْوِيَةَ ناظِرَةٌ إلى فَرْطِ المَحَبَّةِ وقْتَ خُطُورِها، والتَّفْضِيلُ ناظِرٌ إلى رُسُوخِ المَحَبَّةِ وعَدَمِ نُزُولِها، وهَذا مَأْخُوذٌ مِن كَلامِ الكَشّافِ ومُصَرَّحٌ بِهِ في كَلامِ البَيْضاوِيِّ مَعَ زِيادَةِ تَحْرِيرِهِ، وهَذا يُغْنِيكَ عَنِ احْتِمالاتٍ وتَمَحُّلاتٍ عَرَضَتْ هُنا لِبَعْضِ المُفَسِّرِينَ وبَعْضِ شُرّاحِ الكَشّافِ.
ورُوِيَ أنَّ امْرَأ القَيْسِ لَمّا أرادَ قِتالَ بَنِي أسَدٍ حِينَ قَتَلُوا أباهُ حُجْرًا مَلِكَهم مَرَّ عَلى ذِي الخُلَصَةِ الصَّنَمِ الَّذِي كانَ بِتَبالَةَ بَيْنَ مَكَّةَ واليَمَنِ فاسْتَقْسَمَ بِالأزْلامِ الَّتِي كانَتْ عِنْدَ الصَّنَمِ فَخَرَجَ لَهُ القَدَحُ النّاهِي ثَلاثَ مَرّاتٍ فَكَسَرَ تِلْكَ القِداحَ ورَمى بِها وجْهَ الصَّنَمِ وشَتَمَهُ وأنْشَدَ:
لَوْ كُنْتَ يا ذا الخُلَصِ المُوتُورا
مِثْلِي وكانَ شَيْخُكَ المَقْبُورا ∗∗∗ لَمْ تَنْهَ عَنْ قَتْلِ العُداةِ زُورا
ثُمَّ قَصَدَ بَنِي أسَدٍ فَظَفِرَ بِهِمْ.
ورُوِيَ أنَّ رَجُلًا مِن بَنِي مَلْكانَ جاءَ إلى سَعْدٍ الصَّنَمِ بِساحِلِ جُدَّةَ وكانَ مَعَهُ إبِلٌ فَنَفَرَتْ إبِلُهُ لَمّا رَأتِ الصَّنَمَ فَغَضِبَ المَلْكانِيُّ عَلى الصَّنَمِ ورَماهُ بِحَجَرٍ وقالَ:
أتَيْنا إلى سَعْدٍ لِيَجْمَعَ شَمْلَنا ∗∗∗ فَشَتَّتَنا سَعْدٌ فَما نَحْنُ مِن سَعْدِ
وهَلْ سَعِدٌ إلّا صَخْرَةٌ بِتَنَوْفَةٍ ∗∗∗ مِنَ الأرْضِ لا تَدْعُو لِغَيٍّ ولا رُشْدِ
وإنَّما جِيءَ بِأفْعَلِ التَّفْضِيلِ بِواسِطَةِ كَلِمَةِ أشَدُّ قالَ التَّفْتَزانِيُّ: آثَرَ أشَدُّ حُبًّا عَلى ”أحَبُّ“ لِأنَّ أحَبَّ شاعَ في تَفْضِيلِ المَحْبُوبِ عَلى مَحْبُوبٍ آخَرَ تَقُولُ: هو أحَبُّ إلَيَّ، وفي القُرْآنِ
﴿قُلْ إنْ كانَ آباؤُكم وأبْناؤُكم وإخْوانُكم وأزْواجُكم وعَشِيرَتُكم وأمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها ومَساكِنُ تَرْضَوْنَها أحَبَّ إلَيْكم مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ [التوبة: ٢٤] إلَخْ.
يَعْنِي أنَّ فِعْلَ أحَبَّ هو الشّائِعُ وفِعْلَ حُبَّ قَلِيلٌ، فَلِذَلِكَ خَصُّوا في الِاسْتِعْمالِ كُلًّا بِمَواقِعَ نَفْيًا لِلَّبْسِ فَقالُوا: أحَبَّ وهو مُحِبٌّ وأشَدُّ حُبًّا، وقالُوا: حَبِيبٌ مِن حَبَّ وأحَبُّ إلَيَّ مِن حَبَّ أيْضًا.
* * *﴿ولَوْ تَرى الَّذِينَ ظَلَمُوا إذْ يَرَوْنَ العَذابَ أنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وأنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العَذابِ﴾عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ
﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَتَّخِذُ﴾ وذَلِكَ أنَّ قَوْلَهُ ذَلِكَ لَمّا كانَ شَرْحًا لِحالِ ضَلالِهِمُ الفَظِيعِ في الدُّنْيا مِنَ اتِّخاذِ الأنْدادِ لِلَّهِ مَعَ ظُهُورِ أدِلَّةِ وحْدانِيَّتِهِ، حَتّى كانَ قَوْلُهُ ومِنَ النّاسِ مُؤْذِنًا بِالتَّعْجِيبِ مِن حالِهِمْ كَما قَدَّمْنا، وزِيدَ في شَناعَتِهِ أنَّهُمُ اتَّخَذُوا لِلَّهِ أنْدادًا وأحَبُّوها كَحُبِّهِ، ناسَبَ أنْ يَنْتَقِلَ مِن ذَلِكَ، أيْ ذَكَرَ عاقِبَتَهم مِن هَذا الصَّنِيعِ ووَصَفَ فَظاعَةَ حالِهِمْ في الآخِرَةِ كَما فَظَّعَ حالَهم في الدُّنْيا.
قَرَأ نافِعٌ وابْنُ عامِرٍ ويَعْقُوبُ ) ولَوْ تَرى ( بِتاءٍ فَوْقِيَّةٍ وهو خِطابٌ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ يَعُمُّ كُلَّ مَن يَسْمَعُ هَذا الخِطابَ، وذَلِكَ لِتَناهِي حالِهِمْ في الفَظاعَةِ والسُّوءِ، حَتّى لَوْ حَضَرَها النّاسُ لَظَهَرَتْ لِجَمِيعِهِمْ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الخِطابُ لِلنَّبِيءِ ﷺ فالَّذِينَ ظَلَمُوا مَفْعُولُ تَرى عَلى المَعْنَيَيْنِ، وإذْ ظَرْفُ زَمانٍ، والرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ في الأوَّلِ والثّانِي لِتَعَلُّقِها في المَوْضِعَيْنِ بِالمَرْئِيّاتِ، ولِأنَّ ذَلِكَ مَوْرِدُ المَعْنى، إلّا أنَّ وقْتَ الرُّؤْيَتَيْنِ مُخْتَلِفٌ، إذِ المَعْنى: لَوْ تَراهُمُ الآنَ حِينَ يَرَوْنَ العَذابَ يَوْمَ القِيامَةِ، أيْ لَوْ تَرى الآنَ حالَهم، وقَرَأ الجُمْهُورُ
﴿يَرى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ بِالتَّحْتِيَّةِ، فَيَكُونُ الَّذِينَ ظَلَمُوا فاعِلَ يَرى والمَعْنى أيْضًا لَوْ يَرَوْنَ الآنَ، وحُذِفَ مَفْعُولُ يَرى لِدَلالَةِ المُقامِ، وتَقْدِيرُهُ: لَوْ يَرَوْنَ عَذابَهم أوْ لَوْ يَرَوْنَ أنْفُسَهم أوْ يَكُونُ إذِ اسْمًا غَيْرَ ظَرْفٍ؛ أيْ لَوْ يَنْظُرُونَ الآنَ ذَلِكَ الوَقْتَ فَيَكُونُ بَدَلَ اشْتِمالٍ مِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
والَّذِينَ ظَلَمُوا هُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَن دُونِ اللَّهِ أنْدادًا، فَهو مِنَ الإظْهارِ في مُقامِ الإضْمارِ لِيَكُونَ شامِلًا لِهَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ وغَيْرِهِمْ، وجَعَلَ اتِّخاذَهُمُ الأنْدادَ ظُلْمًا لِأنَّهُ اعْتِداءٌ عَلى عِدَّةِ حُقُوقٍ. فَقَدِ اعْتَدَوْا عَلى حَقِّ اللَّهِ تَعالى مِن وُجُوبِ تَوْحِيدِهِ، واعْتَدَوْا عَلى مَن جَعَلُوهم أنْدادًا لِلَّهِ عَلى العُقَلاءِ مِنهم مِثْلِ المَلائِكَةِوَعِيسى، ومِثْلِ ودٍّ وسُواعٍ ويَغُوثَ ويَعُوقَ ونَسْرٍ، فَقَدْ ورَدَ في الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّهم كانُوا رِجالًا صالِحِينَ مِن قَوْمِ نُوحٍ فَلَمّا ماتُوا اتَّخَذَ قَوْمُهم لَهم تَماثِيلَ ثُمَّ عَبَدُوها، ومِثْلِ اللّاتِ يَزْعُمُ العَرَبُ أنَّهُ رَجُلٌ كانَ يَلِتُّ السَّوِيقَ لِلْحَجِيجِ وأنَّ أصْلَهُ اللّاتُّ بِتَشْدِيدِ التّاءِ، فَبِذَلِكَ ظَلَمُوهم إذْ كانُوا سَبَبًا لِهَوْلٍ يَحْصُلُ لَهم مِنَ السُّؤالِ يَوْمَ القِيامَةِ كَما قالَ اللَّهُ تَعالى وإذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ أأنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتَّخِذُونِي وأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ وقالَ
﴿ويَوْمَ يَحْشُرُهم جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أهَؤُلاءِ إيّاكم كانُوا يَعْبُدُونَ﴾ [سبإ: ٤٠] الآيَةَ، وقالَ
﴿ويَوْمَ نَحْشُرُهم وما يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أأنْتُمْ أضْلَلْتُمْ عِبادِي هَؤُلاءِ أمْ هم ضَلُّوا السَّبِيلَ﴾ [الفرقان: ١٧] الآيَةَ، وظَلَمُوا أنْفُسَهم في ذَلِكَ بِتَعْرِيضِها لِلسُّخْرِيَةِ في الدُّنْيا ولِلْعَذابِ في الآخِرَةِ وظَلَمُوا أعْقابَهم وقَوْمَهُمُ الَّذِينَ يَتْبَعُونَهم في هَذا الضَّلالِ فَتَمْضِي عَلَيْهِ العُصُورُ والأجْيالُ، ولِذَلِكَ حَذَفَ مَفْعُولَ ظَلَمُوا لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ، ولَكَ أنْ تَجْعَلَ ظَلَمُوا بِمَعْنى أشْرَكُوا كَما هو الشّائِعُ في القُرْآنِ قالَ تَعالى عَنْ لُقْمانَ
﴿إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣] وعَلَيْهِ فالفِعْلُ مُنَزَّلٌ مَنزِلَةَ اللّازِمِ لِأنَّهُ صارَ كاللَّقَبِ.
وجُمْلَةُ
﴿والَّذِينَ آمَنُوا أشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ مُعْتَرِضَةٌ والغَرَضُ مِنها التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الَّذِينَ آمَنُوا بِأنَّ حُبَّهم لِلَّهِ صارَ أشَدَّ مِن حُبِّهِمُ الأنْدادَ الَّتِي كانُوا يَعْبُدُونَها، وهَذا كَقَوْلِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ لِلنَّبِيءِ ﷺ:
«لَأنْتَ أحَبُّ إلَيَّ مِن نَفْسَيِ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيَّ» .
وتَرْكِيبُ ”ولَوْ تَرى“ وما أشْبَهَهُ نَحْوُ ”لَوْ رَأيْتَ“ مِنَ التَّراكِيبِ الَّتِي جَرَتْ مَجْرى المَثَلِ فَبُنِيَتْ عَلى الِاخْتِصارِ، وقَدْ تَكَرَّرَ وُقُوعُها في القُرْآنِ.
وجَوابُ ”لَوْ“ مَحْذُوفٌ لِقَصْدِ التَّفْخِيمِ وتَهْوِيلِ الأمْرِ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ في تَصْوِيرِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ، ونَظِيرُهُ
﴿ولَوْ تَرى إذِ الظّالِمُونَ في غَمَراتِ المَوْتِ﴾ [الأنعام: ٩٣] ﴿ولَوْ تَرى إذْ وُقِفُوا عَلى النّارِ﴾ [الأنعام: ٢٧] ﴿ولَوْ أنَّ قُرْءانًا سُيِّرَتْ بِهِ الجِبالُ﴾ [الرعد: ٣١]، قالَ المَرْزُوقِيُّ عِنْدَ قَوْلِ الشَّمَيْذَرِ الحارِثِيِّ:
وقَدْ ساءَنِي ما جَرَّتِ الحَرْبُ بَيْنَنا بَنِي عَمِّنا لَوْ كانَ أمْرًا مُدانِيا
: حَذْفُ الجَوابِ في مِثْلِ هاتِهِ المَواضِعِ أبْلَغُ وأدَلُّ عَلى المُرادِ بِدَلِيلِ أنَّ السَّيِّدَ إذا قالَ لِعَبْدِهِ: لَئِنْ قُمْتُ إلَيْكَ ثُمَّ سَكَتَ تَزاحَمَ عَلى العَبْدِ مِنَ الظُّنُونِ المُعْتَرِضَةِ لِلتَّوَعُّدِ ما لا يَتَزاحَمُ لَوْ نَصَّ عَلى ضَرْبٍ مِنَ العَذابِ، والتَّقْدِيرُ عَلى قِراءَةِ نافِعٍ وابْنِ عامِرٍ: لَرَأيْتَ أمْرًا عَظِيمًا، وعَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ: لَرَأوْا أمْرًا عَظِيمًا.
وقَوْلُهُ أنَّ القُوَّةَ قَرَأهُ الجُمْهُورُ بِفَتْحِ هَمْزَةِ ”أنَّ“ وهو بَدَلُ اشْتِمالٍ مِنَ ”العَذابِ“ أوْ مِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا فَإنَّ ذَلِكَ العَذابَ مِن أحْوالِهِمْ، ولا يَضُرُّ الفَصْلُ بَيْنَ المُبْدَلِ مِنهُ والبَدَلِ لِطُولِ البَدَلِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَلى حَذْفِ لامِ التَّعْلِيلِ، والتَّقْدِيرُ: لِأنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا والتَّعْلِيلُ بِمَضْمُونِ الجَوابِ المُقَدَّرِ أيْ لَرَأيْتَ ما هو هائِلٌ لِأنَّهُ عَذابُ اللَّهِ ولِلَّهِ القُوَّةُ جَمِيعًا.
وجَمِيعًا اسْتُعْمِلَ في الكَثْرَةِ فَقُوَّةُ غَيْرِهِ كالعَدَمِ، وهَذا كاسْتِعْمالِ ألْفاظِ الكَثْرَةِ في مَعْنى القُوَّةِ وألْفاظِ القِلَّةِ في مَعْنى الوَهَنِ كَما في قَوْلِ تَأبَّطَ شَرًّا:
قَلِيلُ التَّشَكِّي لِلْمُلِمِّ يُصِيبُهُ ∗∗∗ كَثِيرُ الهَوى شَتّى النَّوى والمَسالِكِ
أرادَ شَدِيدَ الغَرامِ.
وقَرَأهُ أبُو جَعْفَرٍ ويَعْقُوبُ ) إنَّ القُوَّةَ ( عَلى الِاسْتِئْنافِ البَيانِيِّ كَأنَّ سائِلًا قالَ: ماذا أرى وما هَذا التَّهْوِيلُ ؟ فَقِيلَ: إنَّ القُوَّةَ ولا يَصِحُّ كَوْنُها حِينَئِذٍ لِلتَّعْلِيلِ الَّتِي تُغْنِي غَناءَ الفاءِ كَما هي في قَوْلِ بَشّارٍ:
إنَّ ذاكَ النَّجاحَ في التَّبْكِيرِ
لِأنَّ ذَلِكَ يَكُونُ في مَواقِعِ احْتِياجِ ما قَبْلَها لِلتَّعْلِيلِ حَتّى تَكُونَ صَرِيحَةً فِيهِ.
وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وحْدَهُ ”إذْ يُرَوْنَ العَذابَ“ بِضَمِّ الياءِ أيْ إذْ يُرِيهِمُ اللَّهُ العَذابَ في مَعْنى قَوْلِهِ
﴿وكَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أعْمالَهُمْ﴾ [البقرة: ١٦٧] وانْتَصَبَ جَمِيعًا عَلى التَّوْكِيدِ لِقَوْلِهِ القُوَّةَ أيْ جَمِيعَ جِنْسِ القُوَّةِ ثابِتٌ لِلَّهِ، وهو مُبالَغَةٌ لِعَدَمِ الِاعْتِدادِ بِقُوَّةِ غَيْرِهِ فَمَفادُ جَمِيعٍ هُنا مَفادُ لامِ الِاسْتِغْراقِ في قَوْلِهِ الحَمْدُ لِلَّهِ.
وقَدْ جاءَ لَوْ في مِثْلِ هَذا التَّرْكِيبِ بِشَرْطِ مُضارِعٍ ووَقَعَ في كَلامِ الجُمْهُورِ مِنَ النُّحاةِ أنَّ ”لَوْ“ لِلشَّرْطِ في الماضِي وأنَّ المُضارِعَ إذا وقَعَ شَرْطًا لَها يُصْرَفُ إلى مَعْنى الماضِي إذا أُرِيدَ اسْتِحْضارُ حالَةٍ ماضِيَةٍ، وأمّا إذا كانَ المُضارِعُ بَعْدَها مُتَعَيِّنًا لِلْمُسْتَقْبَلِ فَأوَّلَهُ الجُمْهُورُ بِالماضِي في جَمِيعِ مَواقِعِهِ وتَكَلَّفُوا في كَثِيرٍ مِنها كَما وقَعَ لِصاحِبِ المِفْتاحِ، وذَهَبَ المُبَرِّدُ وبَعْضُ الكُوفِيِّينَ إلى أنَّ ”لَوْ“ حَرْفٌ بِمَعْنى إنَّ لِمُجَرَّدِ التَّعْلِيقِ لا لِلِامْتِناعِ، وذَهَبَ ابْنُ مالِكٍ في التَّسْهِيلِ والخُلاصَةِ إلى أنَّ ذَلِكَ جائِزٌ لَكِنَّهُ قَلِيلٌ وهو يُرِيدُ القِلَّةَ النِّسْبِيَّةَ لِوُقُوعِ الماضِي وإلّا فَهو وارِدٌ في القُرْآنِ وفَصِيحِ العَرَبِيَّةِ.
والتَّحْقِيقُ أنَّ الِامْتِناعَ الَّذِي تُفِيدُهُ لَوْ مُتَفاوِتُ المَعْنى ومَرْجِعُهُ إلى أنَّ شَرْطَها وجَوابَها مَفْرُوضانِ فَرْضًا وغَيْرُ مَقْصُودٍ حُصُولُ الشَّرْطِ، فَقَدْ يَكُونُ مُمْكِنَ الحُصُولِ وقَدْ يَكُونُ مُتَعَذِّرًا، ولِذَلِكَ كانَ الأوْلى أنْ يُعَبِّرَ بِالِانْتِفاءِ دُونَ الِامْتِناعِ لِأنَّ الِامْتِناعَ يُوهِمُ أنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنِ الحُصُولِ فَأمّا الِانْتِفاءُ فَأعَمُّ، وأنَّ كَوْنَ الفِعْلِ بَعْدَها ماضِيًا أوْ مُضارِعًا لَيْسَ لِمُراعاةِ مِقْدارِ الِامْتِناعِ ولَكِنَّ ذَلِكَ لِمَقاصِدَ أُخْرى مُخْتَلِفَةٍ بِاخْتِلافِ مَفادِ الفِعْلَيْنِ في مَواقِعِها في الشُّرُوطِ وغَيْرِها، إذْ كَثِيرًا ما يُرادُ تَعْلِيقُ الشَّرْطِ بِلَوْ في المُسْتَقْبَلِ نَحْوُ قَوْلِ تَوْبَةَ:
ولَوْ تَلْتَقِي أصْداؤُنا بَعْدَ مَوْتِنا ∗∗∗ ومِن بَيْنِ رَمْسَيْنا مِنَ الأرْضِ سَبْسَبُ
لَظَلَّ صَدى صَوْتِي وإنْ كُنْتُ رِمَّةً ∗∗∗ لِصَوْتِ صَدى لَيْلى يَهَشُّ ويَطْرَبُ
فَإنَّهُ صَرِيحٌ في المُسْتَقْبَلِ ومِثْلُهُ هَذِهِ الآيَةُ.