الباحث القرآني
﴿ولَقَدْ صَرَّفْنا في هَذا القُرْآنِ لِلنّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وكانَ الإنْسانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ عُطِفَ عَلى الجُمَلِ السّابِقَةِ الَّتِي ضُرِبَتْ فِيها أمْثالٌ مِن قَوْلِهِ ﴿واضْرِبْ لَهم مَثَلًا رَجُلَيْنِ﴾ [الكهف: ٣٢] وقَوْلِهِ ﴿واضْرِبْ لَهم مَثَلَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ [الكهف: ٤٥]، ولَمّا كانَ في ذَلِكَ لَهم مَقْنَعٌ، وما لَهم مِنهُ مَدْفَعٌ عادَ إلى التَّنْوِيهِ بِهَدْيِ القُرْآنِ عَوْدًا ناظِرًا إلى قَوْلِهِ ﴿واتْلُ ما أُوحِيَ إلَيْكَ مِن كِتابِ رَبِّكَ﴾ [الكهف: ٢٧] وقَوْلِهِ ﴿وقُلِ الحَقُّ مِن رَبِّكم فَمَن شاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: ٢٩]، فَأشارَ لَهم أنَّ هَذِهِ الأمْثالَ الَّتِي قَرَعَتْ أسْماعَهم هي مِن جُمْلَةِ هَدْيِ القُرْآنِ الَّذِي تَبَرَّمُوا مِنهُ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى نَظِيرِ هَذِهِ الآيَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿ولَقَدْ صَرَّفْنا لِلنّاسِ في هَذا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأبى أكْثَرُ النّاسِ إلّا كُفُورًا﴾ [الإسراء: ٨٩] في سُورَةِ الإسْراءِ، سِوى أنَّهُ يُتَّجَهُ هُنا أنْ يُسْألَ: لِمَ قَدَّمَ في هَذِهِ الآيَةِ أحَدَ مُتَعَلِّقِي فِعْلِ التَّصْرِيفِ عَلى الآخَرِ ؟ إذْ قَدَّمَ هُنا قَوْلَهُ ”في هَذا القُرْآنِ“ عَلى قَوْلِهِ ”لِلنّاسِ“ عَكْسَ آيَةِ سُورَةِ الإسْراءِ، وهو ما أشَرْنا إلَيْهِ عِنْدَ الآيَةِ السّابِقَةِ مِن أنَّ ذِكْرَ القُرْآنِ أهَمُّ (p-٣٤٧)مِن ذِكْرِ النّاسِ بِالأصالَةِ، ولا مُقْتَضى لِلْعُدُولِ عَنْهُ هُنا بَلِ الأمْرُ بِالعَكْسِ؛ لِأنَّ الكَلامَ جارٍ في التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ القُرْآنِ، وأنَّهُ يَنْزِلُ بِالحَقِّ لا بِهَوى الأنْفُسِ.
والنّاسُ: اسْمٌ عامٌّ لِكُلِّ مَن يَبْلُغُهُ القُرْآنُ في سائِرِ العُصُورِ المُسْتَقْبَلَةِ، والمَقْصُودُ عَلى الخُصُوصِ المُشْرِكُونَ، كَما دَلَّ عَلَيْهِ جُمْلَةُ ﴿وكانَ الإنْسانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾، فَوِزانُهُ وِزانُ قَوْلِهِ ﴿ولَقَدْ صَرَّفْنا لِلنّاسِ في هَذا القُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأبى أكْثَرُ النّاسِ إلّا كُفُورًا﴾ [الإسراء: ٨٩]، وسَيَجِيءُ قَوْلُهُ ﴿ويُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الحَقَّ﴾ [الكهف: ٥٦]، وهَذا يُشْبِهُ العامَّ الوارِدَ عَلى سَبَبٍ خاصٍّ وقَرائِنَ خاصَّةٍ.
وجُمْلَةُ ﴿وكانَ الإنْسانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ تَذْيِيلٌ، وهو مُؤْذِنٌ بِكَلامٍ مَحْذُوفٍ عَلى وجْهِ الإيجازِ، والتَّقْدِيرُ: فَجادَلُوا فِيهِ وكانَ الإنْسانُ أكْثَرَ جَدَلًا، فَإنَّ الإنْسانَ اسْمٌ لِنَوْعِ بَنِي آدَمَ، وحَرْفُ (ألْ) فِيهِ لِتَعْرِيفِ الحَقِيقَةِ فَهو أوْسَعُ عُمُومًا مِن لَفْظِ النّاسِ، والمَعْنى: أنَّهم جادَلُوا، والجِدالُ: خُلُقٌ؛ مِنهُ ذَمِيمٌ يَصُدُّ عَنْهُ تَأْدِيبُ الإسْلامِ، ويَبْقى في خُلُقِ المُشْرِكِينَ، ومِنهُ مَحْمُودٌ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إبْراهِيمَ الرَّوْعُ وجاءَتْهُ البُشْرى يُجادِلُنا في قَوْمِ لُوطٍ إنَّ إبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أوّاهٌ مُنِيبٌ﴾ [هود: ٧٤]، فَأشارَ بِالثَّناءِ عَلى إبْراهِيمَ إلى أنَّ جِدالَهُ مَحْمُودٌ، ولَيْسَ المُرادُ بِالإنْسانِ الإنْسانَ الكافِرَ كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿يَقُولُ الإنْسانُ أإذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا﴾ [مريم: ٦٦] ولا المُرادُ بِالجَدَلِ الجَدَلَ بِالباطِلِ؛ لِأنَّ هَذا سَيَجِيءُ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿ويُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالباطِلِ﴾ [الكهف: ٥٦] الآيَةَ، فَقَوْلُهُ هُنا ﴿وكانَ الإنْسانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ ﴿ويُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالباطِلِ﴾ [الكهف: ٥٦] .
و(شَيْءٌ) اسْمٌ مُفْرَدٌ مُتَوَغِّلٌ في العُمُومِ، ولِذَلِكَ صَحَّتْ إضافَةُ اسْمِ التَّفْضِيلِ إلَيْهِ، أيْ أكْثَرُ الأشْياءِ، واسْمُ التَّفْضِيلِ هُنا مَسْلُوبُ المُفاضَلَةِ، مِثْلُ قَوْلِهِ ﴿رَبِّ السِّجْنُ أحَبُّ إلَيَّ مِمّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ﴾ [يوسف: ٣٣]، وإنَّما أُتِيَ بِصِيغَتِهِ لِقَصْدِ المُبالَغَةِ في شِدَّةِ جَدَلِ الإنْسانِ وجُنُوحِهِ إلى المُماراةِ والنِّزاعِ حَتّى فِيما تَرْكُ الجِدالِ في شَأْنِهِ أحْسَنُ، بِحَيْثُ إنَّ شِدَّةَ الوَصْفِ فِيهِ تُشْبِهُ تَفَوُّقَهُ في الوَصْفِ عَلى كُلِّ مَن يَعْرِضُ أنَّهُ مَوْصُوفٌ بِهِ.
(p-٣٤٨)وإنَّما أُلْجِئْنا إلى هَذا التَّأْوِيلِ في اسْمِ التَّفْضِيلِ لِظُهُورِ أنَّ غَيْرَ الإنْسانِ مِن أنْواعِ ما عَلى الأرْضِ لا يُتَصَوَّرُ مِنهُ الجَدَلُ، فالجَدَلُ خاصٌّ بِالإنْسانِ؛ لِأنَّهُ مِن شُعَبِ النُّطْقُ الَّذِي هو فَصْلُ حَقِيقَةِ الإنْسانِيَّةِ، أمّا المَلائِكَةُ فَجَدَلُهم مَحْمُودٌ، مِثْلُ قَوْلِهِمْ ﴿أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها﴾ [البقرة: ٣٠] إلى قَوْلِهِ ﴿ونُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: ٣٠]، وأمّا الشَّياطِينُ فَهم أكْثَرُ جَدَلًا مِنَ الإنْسانِ، ولَكِنْ لَمّا نَبا المَقامُ عَنْ إرادَتِهِمْ كانُوا غَيْرَ مُرادِينَ بِالتَّفْضِيلِ عَلَيْهِمْ في الجَدَلِ.
و”جَدَلًا“ تَمْيِيزٌ لِنِسْبَةِ الأكْثَرِيَّةِ إلى الإنْسانِ، والمَعْنى: وكانَ الإنْسانُ كَثِيرًا مِن جِهَةِ الجَدَلِ، أيْ كَثِيرًا جَدَلُهُ، ويَدُلُّ لِهَذا المَعْنى ما ثَبَتَ في الصَّحِيحِ عَنْ عَلِيٍّ: «أنَّ النَّبِيءَ ﷺ طَرَقَهُ وفاطِمَةَ لَيْلًا فَقالَ: ألا تُصَلِّيانِ ؟ فَقالَ عَلِيٌّ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّما أنْفُسُنا بِيَدِ اللَّهِ إنْ شاءَ أنْ يَبْعَثَنا بَعَثَنا، قالَ: فانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ حِينَ قُلْتُ لَهُ ذَلِكَ ولَمْ يَرْجِعْ إلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَضْرِبُ فَخِذَهُ ويَقُولُ ﴿وكانَ الإنْسانُ أكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا»﴾، يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنَّ الأوْلى بِعَلِيٍّ أنْ يَحْمَدَ إيقاظَ رَسُولِ اللَّهِ إيّاهُ لِيَقُومَ مِنَ اللَّيْلِ، وأنْ يَحْرِصَ عَلى تَكَرُّرِ ذَلِكَ، وأنْ يُسَرَّ بِما في كَلامِ رَسُولِ اللَّهِ مِن مَلامٍ، ولا يَسْتَدِلُّ بِما يُحَبِّذُ اسْتِمْرارَ نَوْمِهِ، فَذَلِكَ مَحَلُّ تَعَجُّبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن جَوابِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ولا يَحْسُنُ أنْ يُحْمَلَ التَّفْضِيلُ في الآيَةِ عَلى بابِهِ بِأنْ يُرادَ أنَّ الإنْسانَ أكْثَرُ جَدَلًا مِنَ الشَّياطِينِ والجِنِّ مِمّا يَجُوزُ عَلى حَقِيقَتِهِ الجَدَلُ؛ لِأنَّهُ مَحْمَلٌ لا يُرادُ مِثْلُهُ في مِثْلِ هَذا، ومَن أنْبَأنا أنَّ لِلشَّياطِينِ والجِنِّ مَقْدِرَةً عَلى الجَدَلِ ؟
والجَدَلُ: المُنازَعَةُ بِمُعاوَضَةِ القَوْلِ، أيْ هو الكَلامُ الَّذِي يُحاوِلُ بِهِ إبْطالَ ما في كَلامِ المُخاطَبِ مِن رَأْيٍ أوْ عَزْمٍ عَلَيْهِ: بِالحُجَّةِ أوْ بِالإقْناعِ أوْ بِالباطِلِ، قالَ تَعالى ﴿ولا تُجادِلُوا أهْلَ الكِتابِ إلّا بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [العنكبوت: ٤٦]، وقالَ ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ في زَوْجِها وتَشْتَكِي إلى اللَّهِ﴾ [المجادلة: ١]، وقالَ ﴿يُجادِلُنا في قَوْمِ لُوطٍ﴾ [هود: ٧٤]، وقالَ ﴿ولا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ﴾ [النساء: ١٠٧]، وقالَ ﴿يُجادِلُونَكَ في الحَقِّ بَعْدَما تَبَيَّنَ﴾ [الأنفال: ٦] .
(p-٣٤٩)والمُرادُ هَنا مُطْلَقُ الجَدَلِ، وبِخاصَّةٍ ما كانَ مِنهُ بِباطِلٍ، أيْ أنَّ كُلَّ إنْسانٍ في طَبْعِهِ الحِرْصُ عَلى إقْناعِ المُخالِفِ بِأحَقِّيَّةِ مُعْتَقَدِهِ أوْ عَمَلِهِ، وسِياقُ الكَلامِ يَقْتَضِي إرادَةَ الجَدَلِ الباطِلِ.
{"ayah":"وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِی هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلࣲۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَـٰنُ أَكۡثَرَ شَیۡءࣲ جَدَلࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق