الباحث القرآني
﴿قالَ لَهُ صاحِبُهُ وهْوَ يُحاوِرُهُ أكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرابٍ ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلًا﴾ ﴿لَكِنّا هو اللَّهُ رَبِّي ولا أُشْرِكُ بِرَبِّيَ أحَدًا﴾ ﴿ولَوْلا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ﴾ [الكهف: ٣٩]
حُكِيَ كَلامُ صاحِبِهِ بِفِعْلِ القَوْلِ بِدُونِ عَطْفٍ؛ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ واقِعٌ مَوْقِعَ المُحاوَرَةِ والمُجاوَبَةِ، كَما قَدَّمْناهُ غَيْرَ مَرَّةٍ.
(p-٣٢٢)والِاسْتِفْهامُ في قَوْلِهِ ﴿أكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ﴾ مُسْتَعْمَلٌ في التَّعْجِيبِ والإنْكارِ، ولَيْسَ عَلى حَقِيقَتِهِ؛ لِأنَّ الصّاحِبَ كانَ يَعْلَمُ أنَّ صاحِبَهُ مُشْرِكٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ لَهُ ﴿ولا أُشْرِكُ بِرَبِّي أحَدًا﴾، فالمُرادُ بِالكُفْرِ هُنا الإشْراكُ الَّذِي مِن جُمْلَةِ مُعْتَقَداتِهِ إنْكارُ البَعْثِ، ولِذَلِكَ عُرِفَ بِطَرِيقِ المَوْصُولِيَّةِ؛ لِأنَّ مَضْمُونَ الصِّلَةِ مِن شَأْنِهِ أنْ يَصْرِفَ مَن يُدْرِكُهُ عَنِ الإشْراكِ بِهِ، فَإنَّهم يَعْتَرِفُونَ بِأنَّ اللَّهَ هو الَّذِي خَلَقَ النّاسَ فَما كانَ غَيْرُ اللَّهِ مُسْتَحِقًّا لِلْعِبادَةِ.
ثُمَّ إنَّ العِلْمَ بِالخَلْقِ الأوَّلِ مِن شَأْنِهِ أنْ يَصْرِفَ الإنْسانَ عَنْ إنْكارِ الخَلْقِ الثّانِي، كَما قالَ تَعالى ﴿أفَعَيِينا بِالخَلْقِ الأوَّلِ بَلْ هم في لَبْسٍ مِن خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [ق: ١٥]، وقالَ ﴿وهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهو أهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم: ٢٧]، فَكانَ مَضْمُونُ الصِّلَةِ تَعْرِيضًا بِجَهْلِ المُخاطَبِ.
وقَوْلُهُ مِن تُرابٍ إشارَةٌ إلى الأجْزاءِ الَّتِي تَتَكَوَّنُ مِنها النُّطْفَةُ، وهي أجْزاءُ الأغْذِيَةِ المُسْتَخْلَصَةِ مِن تُرابِ الأرْضِ، كَما قالَ تَعالى في الآيَةِ الأُخْرى ﴿سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْواجَ كُلَّها مِمّا تُنْبِتُ الأرْضُ﴾ [يس: ٣٦] .
والنُّطْفَةُ: ماءُ الرَّجُلِ، مُشْتَقَّةٌ مِنَ النَّطْفِ، وهو السَّيَلانُ، و﴿سَوّاكَ﴾ عَدَلَ خَلْقَكَ، أيْ جَعَلَهُ مُتَناسِبًا في الشَّكْلِ والعَمَلِ.
و(مِن) في قَوْلِهِ ﴿مِن تُرابٍ ثُمَّ مِن نُطْفَةٍ﴾ ابْتِدائِيَّةٌ، وقَوْلُهُ ﴿لَكِنّا هو اللَّهُ رَبِّي﴾ كُتِبَ في المُصْحَفِ بِألْفٍ بَعْدِ النُّونِ، واتَّفَقَ القُرّاءُ العَشَرَةُ عَلى إثْباتِ الألْفِ في النُّطْقِ في حالِ الوَقْفِ، وأمّا في حالِ الوَصْلِ فَقَرَأهُ الجُمْهُورُ بِدُونِ نُطْقٍ بِالألْفِ، وقَرَأهُ ابْنُ عامِرٍ وأبُو جَعْفَرٍ ورُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِإثْباتِ النُّطْقِ بِالألْفِ في حالِ الوَصْلِ، ورَسْمُ المُصْحَفِ يَسْمَحُ بِكِلْتا الرِّوايَتَيْنِ.
ولَفْظُ لَكْنا مُرَكَّبٌ مِن (لَكِنْ) بِسُكُونِ النُّونِ الَّذِي هو حَرْفُ اسْتِدْراكٍ، ومِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ (أنا)، وأصْلُهُ: لَكِنْ أنا، فَحُذِفَتِ الهَمْزَةُ تَخْفِيفًا كَما قالَ الزَّجّاجُ، أيْ عَلى غَيْرِ قِياسٍ لا لِعِلَّةٍ تَصْرِيفِيَّةٍ، ولِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْهَمْزَةِ حُكْمُ (p-٣٢٣)الثّابِتِ فَلَمْ تَمْنَعْ مِنَ الإدْغامِ الَّذِي يَمْنَعُ مِنهُ ما هو مَحْذُوفٌ لِعِلَّةِ بِناءٍ عَلى أنَّ المَحْذُوفَ لِعِلَّةٍ بِمَنزِلَةِ الثّابِتِ، ونُقِلَتْ حَرَكَتُها إلى نُونِ (لَكِنِ) السّاكِنَةِ دَلِيلًا عَلى المَحْذُوفِ؛ فالتَقى نُونانِ مُتَحَرِّكَتانِ فَلَزِمَ إدْغامُهُما فَصارَ لَكْنا، ولا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ لَكِنَّ المُشَدَّدَةَ النُّونِ المَفُتُوحَتَها أُشْبِعَتْ فَتْحَتُها؛ لِأنَّ (لَكِنَّ) المُشَدَّدَةَ مِن أخَواتِ (إنَّ) تَقْتَضِي أنْ يَكُونَ الِاسْمُ بَعْدَها مَنصُوبًا ولَيْسَ هُنا ما هو ضَمِيرُ نَصْبٍ، ولا يَجُوزُ اعْتِبارُ ضَمِيرِ (أنا) ضَمِيرَ نَصْبِ اسْمِ (لَكِنَّ)؛ لِأنَّ ضَمِيرَ المُتَكَلِّمِ المَنصُوبِ يَجِبُ أنْ يَكُونَ بِياءِ المُتَكَلِّمِ، ولا اعْتِبارُهُ ضَمِيرَ المُتَكَلِّمِ المُشارِكِ لِمُنافاتِهِ لِإفْرادِ ضَمائِرِهِ بَعْدَهُ في قَوْلِهِ ﴿هُوَ اللَّهُ رَبِّي ولا أُشْرِكُ بِرَبِّي أحَدًا﴾ .
(فَأنا) مُبْتَدَأٌ، وجُمْلَةُ ﴿هُوَ اللَّهُ رَبِّي﴾ ضَمِيرُ شَأْنٍ وخَبَرُهُ، وهي خَبَرُ (أنا)، أيْ شَأْنِي هو اللَّهُ رَبِّي، والخَبَرُ في قَوْلِهِ ﴿هُوَ اللَّهُ رَبِّي﴾ مُسْتَعْمَلٌ في الإقْرارِ، أيْ أعْتَرِفُ بِأنَّهُ رَبِّي خِلافًا لَكَ.
ومَوْقِعُ الِاسْتِدْراكِ مُضادَّةُ ما بَعْدَ (لَكِنْ) لِما قَبْلَها، ولاسِيَّما إذا كانَ الرَّجُلانِ أخَوَيْنِ، أوْ خَلِيلَيْنِ كَما قِيلَ فَإنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ أنَّ اعْتِقادَهُما سَواءٌ.
وأكَّدَ إثْباتَ اعْتِرافِهِ بِالخالِقِ الواحِدِ بِمُؤَكِّداتٍ أرْبَعَةٍ، وهي: الجُمْلَتانِ الِاسْمِيَّتانِ، وضَمِيرُ الشَّأْنِ في قَوْلِهِ ﴿لَكِنّا هو اللَّهُ رَبِّي﴾، وتَعْرِيفُ المُسْنَدِ والمُسْنَدِ إلَيْهِ في قَوْلِ اللَّهَ رَبِّي المُفِيدِ قَصْرَ صِفَةِ رُبُوبِيَّةِ اللَّهِ عَلى نَفْسِ المُتَكَلِّمِ قَصْرًا إضافِيًّا بِالنِّسْبَةِ لِمُخاطِبِهِ، أيْ دُونَكَ إذْ تَعْبُدُ آلِهَةً غَيْرَ اللَّهِ، وما القَصْرُ إلّا تَوْكِيدٌ مُضاعَفٌ، ثُمَّ بِالتَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ لِلْجُمْلَةِ بِقَوْلِهِ ﴿ولا أُشْرِكُ بِرَبِّي أحَدًا﴾ .
وعَطْفُ جُمْلَةِ ﴿ولَوْلا إذْ دَخَلْتَ﴾ [الكهف: ٣٩] عَلى جُمْلَةِ ﴿أكَفَرْتَ﴾ عَطْفُ إنْكارٍ عَلى إنْكارٍ، و(لَوْلا) لِلتَّوْبِيخِ، كَشَأْنِها إذا دَخَلَتْ عَلى الفِعْلِ الماضِي، نَحْوَ ﴿لَوْلا جاءُوا عَلَيْهِ بِأرْبَعَةِ شُهَداءَ﴾ [النور: ١٣]، أيْ كانَ الشَّأْنُ أنْ تَقُولَ ﴿ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ﴾ [الكهف: ٣٩] عِوَضَ قَوْلِكَ ﴿ما أظُنُّ أنْ تَبِيدَ هَذِهِ أبَدًا وما أظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً﴾ [الكهف: ٣٥]، والمَعْنى: أكَفَرْتَ بِاللَّهِ، وكَفَرْتَ نِعْمَتَهُ.
(p-٣٢٤)و(ما) مِن قَوْلِهِ ﴿ما شاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف: ٣٩] أحْسَنُ ما قالُوا فِيها إنَّها مَوْصُولَةٌ، وهي خَبَرٌ عَنْ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مُلابَسَةُ حالِ دُخُولِ الجَنَّةِ، أيْ هَذِهِ الجَنَّةُ ما شاءَ اللَّهُ، أيِ الأمْرُ الَّذِي شاءَ اللَّهُ إعْطاءَهُ إيّايَ.
وأحْسَنُ مِنهُ عِنْدِي: أنْ تَكُونَ (ما) نَكِرَةً مَوْصُوفَةً، والتَّقْدِيرُ: هَذِهِ شَيْءٌ شاءَ اللَّهُ، أيْ لِي.
وجُمْلَةُ ﴿لا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ﴾ [الكهف: ٣٩] تَعْلِيلٌ لِكَوْنِ تِلْكَ الجَنَّةِ مِن مَشِيئَةِ اللَّهِ، أيْ لا قُوَّةَ لِي عَلى إنْشائِها، أوْ لا قُوَّةَ لِمَن أنْشَأها إلّا بِاللَّهِ، فَإنَّ القُوى كُلَّها مَوْهِبَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى لا تُؤَثِّرُ إلّا بِإعانَتِهِ بِسَلامَةِ الأسْبابِ والآلاتِ المُفَكِّرَةِ والصّانِعَةِ، فَما في جُمْلَةِ ﴿لا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ﴾ [الكهف: ٣٩] مِنَ العُمُومِ جَعَلَها كالعِلَّةِ والدَّلِيلِ لِكَوْنِ تِلْكَ الجَنَّةِ جُزْئِيًّا مِن جُزْئِيّاتِ مُنْشَآتِ القُوى البَشَرِيَّةِ المَوْهُوبَةِ لِلنّاسِ بِفَضْلِ اللَّهِ.
{"ayahs_start":37,"ayahs":["قَالَ لَهُۥ صَاحِبُهُۥ وَهُوَ یُحَاوِرُهُۥۤ أَكَفَرۡتَ بِٱلَّذِی خَلَقَكَ مِن تُرَابࣲ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةࣲ ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلࣰا","لَّـٰكِنَّا۠ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّی وَلَاۤ أُشۡرِكُ بِرَبِّیۤ أَحَدࣰا"],"ayah":"لَّـٰكِنَّا۠ هُوَ ٱللَّهُ رَبِّی وَلَاۤ أُشۡرِكُ بِرَبِّیۤ أَحَدࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق