الباحث القرآني
﴿أوَلَمْ يَرَوْا أنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَواتِ والأرْضَ قادِرٌ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهم وجَعَلَ لَهم أجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ فَأبى الظّالِمُونَ إلّا كُفُورًا﴾ جُمْلَةُ ﴿أوَلَمْ يَرَوْا﴾ عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿ذَلِكَ جَزاؤُهُمْ﴾ [الإسراء: ٩٨] بِاعْتِبارِ ما تَضَمَّنَتْهُ الجُمْلَةُ المَعْطُوفُ عَلَيْها مِنَ الرَّدْعِ عَنْ قَوْلِهِمْ ﴿أإذا كُنّا عِظامًا ورُفاتًا﴾ [الإسراء: ٩٨]، فَبَعْدَ زَجْرِهِمْ عَنْ إنْكارِهِمُ البَعْثَ بِأُسْلُوبِ التَّهْدِيدِ عَطَفَ عَلَيْهِ إبْطالَ اعْتِقادِهِمْ بِطَرِيقِ الِاسْتِدْلالِ بِقِياسِ التَّمْثِيلِ في الإمْكانِ، وهو كافٍ في إقْناعِهِمْ هُنا؛ لِأنَّهم إنَّما أنْكَرُوا البَعْثَ بِاعْتِقادِ اسْتِحالَتِهِ، كَما أفْصَحَ عَنْهُ (p-٢٢٠)حِكايَةً كَلامُهم بِالِاسْتِفْهامِ الإنْكارِيِّ، وإحالَتُهم ذَلِكَ مُسْتَنِدَةٌ إلى أنَّهم صارُوا عِظامًا ورُفاتًا، أيْ بِتَعَذُّرِ خَلْقِ أمْثالِ تِلْكَ الأجْزاءِ، ولَمْ يَسْتَدِلُّوا بِدَلِيلٍ آخَرَ، فَكانَ تَمْثِيلُ خَلْقِ أجْسامٍ مِن أجْزاءٍ بالِيَةٍ بِخَلْقِ أشْياءَ أعْظَمَ مِنها مِن عَدَمٍ أوْغَلَ في الفَناءِ دَلِيلًا يَقْطَعُ دَعْواهم.
والِاسْتِفْهامُ في ”أوَلَمَ يَرَوْا“ إنْكارِيٌّ مَشُوبٌ بِتَعْجِيبٍ مِنِ انْتِفاءِ عِلْمِهِمْ؛ لِأنَّهم لَمّا جَرَتْ عَقائِدُهم عَلى اسْتِبْعادِ البَعْثِ كانُوا بِحالِ مَن لَمْ تَظْهَرْ لَهُ دَلائِلُ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى، فَيَئُولُ الكَلامُ إلى إثْباتِ أنَّهم عَلِمُوا ذَلِكَ في نَفْسِ الأمْرِ.
والرُّؤْيَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ في الِاعْتِقادِ؛ لِأنَّها عُدِّيَتَ إلى كَوْنِ اللَّهِ قادِرًا، وذَلِكَ لَيْسَ مِنَ المُبْصَراتِ، والمَعْنى: أوَلَمَ يَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهم ؟
وضَمِيرُ ”مِثْلَهم“ عائِدٌ إلى ما عادَ إلَيْهِ ضَمِيرُ ”يَرَوْا“ وهو النّاسُ في قَوْلِهِ ﴿وما مَنَعَ النّاسَ﴾ [الإسراء: ٩٤] أيِ المُشْرِكِينَ.
والمِثْلُ: المُماثِلُ، أيْ قادِرٌ عَلى أنْ يَخْلُقَ ناسًا أمْثالَهم؛ لِأنَّ الكَلامَ في إثْباتِ إعادَةِ أجْسامِ المَرْدُودِ عَلَيْهِمْ، لا في أنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أنْ يَخْلُقَ خَلْقًا آخَرَ، ويَكُونُ في الآيَةِ إيماءٌ إلى أنَّ البَعْثَ إعادَةُ أجْسامٍ أُخْرى عَنْ عَدَمٍ، فَيُخْلَقُ لِكُلِّ مَيِّتٍ جَسَدٌ جَدِيدٌ عَلى مِثالِ جَسَدِهِ الَّذِي كانَ في الدُّنْيا، وتُوضَعُ فِيهِ الرُّوحُ الَّتِي كانَتْ لَهُ.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ لَفْظُ ”مِثْلَ“ هُنا كِنايَةً عَنْ نَفْسِ ما أُضِيفَ إلَيْهِ، كَقَوْلِ العَرَبِ: مِثْلُكَ لا يَبْخَلُ، وقَوْلِهِ تَعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] عَلى أحَدِ تَأْوِيلَيْنِ فِيهِ، أيْ عَلى جَعْلِ الكافِ الدّاخِلَةِ عَلى لَفْظِ ”مِثْلِهِ“ غَيْرَ زائِدَةٍ، والمَعْنى: قادِرٌ عَلى أنْ يَخْلُقَهم، أيْ أنْ يُعِيدَ خَلْقَهم، فَإنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِأعْجَبَ مِن خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ.
ولِعُلَمائِنا طُرُقٌ في إعادَةِ الأجْسامِ عِنْدَ البَعْثِ فَقِيلَ: تَكُونُ الإعادَةُ عَنْ عَدَمٍ، وقِيلَ: تَكُونُ عَنْ جَمِيعِ ما تَفَرَّقَ مِنَ الأجْسامِ، وقِيلَ: يَنْبُتُ مِن عَجْبِ (p-٢٢١)ذَنَبِ كُلِّ شَخْصٍ جَسَدٌ جَدِيدٌ مُماثِلٌ لِجَسَدِهِ، كَما تَنْبُتُ مِنَ النَّواةِ شَجَرَةٌ مُماثِلَةٌ لِلشَّجَرَةِ الَّتِي أثْمَرَتْ ثَمَرَةَ تِلْكَ النَّواةِ.
ووَصْفُ اسْمِ الجَلالَةِ بِالمَوْصُولِ؛ لِلْإيماءِ إلى وجْهِ بِناءِ الخَبَرِ، وهو الإنْكارُ عَلَيْهِمْ؛ لِأنَّ خَلْقَ السَّماواتِ والأرْضِ أمْرٌ مُشاهَدٌ مَعْلُومٌ، وكَوْنُهُ مِن فِعْلِ اللَّهِ لا يُنازِعُونَ فِيهِ.
وجُمْلَةُ ﴿وجَعَلَ لَهم أجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ”أوْلَمَ يَرَوْا“ لِتَأْوِيلِها بِمَعْنى قَدْ رَأوْا ذَلِكَ لَوْ كانَ لَهم عُقُولٌ، أيْ تَحَقَّقُوا أنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى إعادَةِ الخَلْقِ، وقَدْ جَعَلَ لَهم أجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ.
والأجْلُ: الزَّمانُ المَجْعُولُ غايَةً يُبْلَغُ إلَيْها في حالٍ مِنَ الأحْوالِ، وشاعَ إطْلاقُهُ عَلى امْتِدادِ الحَياةِ، وهو المُدَّةُ المُقَدَّرَةُ لِكُلِّ حَيٍّ بِحَسَبِ ما أوْدَعَ اللَّهُ فِيهِ مِن سَلامَةِ آلاتِ الجِسْمِ، وما عَلِمَهُ اللَّهُ مِنَ العَوارِضِ الَّتِي تَعْرِضُ لَهُ فَتَخْرِمُ بَعْضَ تِلْكَ السَّلامَةِ أوْ تُقَوِّيها.
والأجَلُ هُنا مُحْتَمِلٌ لِإرادَةِ الوَقْتِ الَّذِي جُعِلَ لِوُقُوعِ البَعْثِ في عِلْمِ اللَّهِ تَعالى.
ووَجْهُ كَوْنِ هَذا (الجَعْلِ) لَهم أنَّهم داخِلُونَ في ذَلِكَ الأجَلِ؛ لِأنَّهم مِن جُمْلَةِ مَن يُبْعَثُ حِينَئِذٍ، فَتَخْصِيصُهم بِالذِّكْرِ؛ لِأنَّهُمُ الَّذِينَ أنْكَرُوا البَعْثَ، والمَعْنى: وجَعَلَ لَهم ولِغَيْرِهِمْ أجَلًا.
ومَعْنى كَوْنِ الأجَلِ لا رَيْبَ فِيهِ: أنَّهُ لا يَنْبَغِي فِيهِ رَيْبٌ، وأنَّ رَيْبَ المُرْتابِينَ فِيهِ مُكابَرَةٌ، أوْ إعْراضٌ عَنِ النَّظَرِ، فَهو مِن بابِ قَوْلِهِ ﴿ذَلِكَ الكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ [البقرة: ٢] .
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الأجَلُ أجْلَ الحَياةِ، أيْ وجُعِلَ لِحَياتِهِمْ أجَلًا، فَيَكُونَ اسْتِدْلالًا ثانِيًا عَلى البَعْثِ، أيْ: ألَمْ يَرَوْا أنَّهُ جَعَلَ لَهم أجَلًا لِحَياتِهِمْ ؟ فَما أوَجَدَهم، وأحْياهم، وجَعَلَ لِحَياتِهِمْ أجَلًا إلّا لِأنَّهُ سَيُعِيدُهم إلى حَياةٍ أُخْرى، (p-٢٢٢)وإلّا لَما أفْناهم بَعْدَ أنْ أحْياهم؛ لِأنَّ الحِكْمَةَ تَقْتَضِي أنَّ ما يُوجِدُهُ الحَكِيمُ يَحْرِصُ عَلى بَقائِهِ، وعَدَمِ فَنائِهِ، فَما كانَ هَذا الفَناءُ الَّذِي لا رَيْبَ فِيهِ إلّا فَناءً عارِضًا؛ لِاسْتِقْبالِ وُجُودٍ أعْظَمَ مِن هَذا الوُجُودِ وأبْقى.
وعَلى هَذا الوَجْهِ فَوَجْهُ كَوْنِ هَذا الجَعْلِ لَهم ظاهِرٌ؛ لِأنَّ الآجالَ آجالُهم، وكَوْنُهُ لا رَيْبَ فِيهِ أيْضًا ظاهِرٌ؛ لِأنَّهم لا يَرْتابُونَ في أنَّ لِحَياتِهِمْ آجالًا، وقَدْ تَضَمَّنَ قَوْلُهُ ﴿وجَعَلَ لَهم أجَلًا﴾ تَعْرِيضًا بِالمِنَّةِ بِنِعْمَةِ الإمْهالِ عَلى كِلا المَعْنَيَيْنِ، وتَعْرِيضًا بِالتَّذْكِيرِ بِإفاضَةِ الأرْزاقِ عَلَيْهِمْ في مُدَّةِ الأجَلِ؛ لِأنَّ في ذِكْرِ خَلْقِ السَّماءِ والأرْضِ تَذْكِيرًا بِما تَحْتَوِيهِ السَّماواتُ والأرْضُ مِنَ الأرْزاقِ وأسْبابِها.
وجُمْلَةُ ﴿فَأبى الظّالِمُونَ إلّا كُفُورًا﴾ تَفْرِيعٌ عَلى الجُمْلَتَيْنِ بِاعْتِبارِ ما تَضَمَّنَتاهُ مِنَ الإنْكارِ والتَّعْجِيبِ، أيْ عَلِمُوا أنَّ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ قادِرٌ عَلى إعادَةِ الأجْسامِ - ومَعَ عِلْمِهِمْ - أبَوْا إلّا كُفُورًا، فالتَّفْرِيعُ مِن تَمامِ الإنْكارِ عَلَيْهِمْ، والتَّعْجِيبِ مِن حالِهِمْ.
واسْتِثْناءُ الكُفُورِ مِنَ الإبايَةِ تَأْكِيدٌ لِلشَّيْءِ بِما يُشْبِهُ ضِدَّهُ.
والكُفُورُ: جُحُودُ النِّعْمَةِ، وتَقَدَّمَ آنِفًا، واخْتِيرَ الكُفُورُ هُنا تَنْبِيهًا عَلى أنَّهم كَفَرُوا بِما يَجِبُ اعْتِقادُهُ، وكَفَرُوا نِعْمَةَ المُنْعِمِ عَلَيْهِمْ؛ فَعَبَدُوا غَيْرَ المُنْعِمِ.
{"ayah":"۞ أَوَلَمۡ یَرَوۡا۟ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ قَادِرٌ عَلَىٰۤ أَن یَخۡلُقَ مِثۡلَهُمۡ وَجَعَلَ لَهُمۡ أَجَلࣰا لَّا رَیۡبَ فِیهِ فَأَبَى ٱلظَّـٰلِمُونَ إِلَّا كُفُورࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق