الباحث القرآني
﴿وما مَنَعَنا أنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إلّا أنْ كَذَّبَ بِها الأوَّلُونَ وآتَيْنا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها﴾ هَذا كَشْفُ شُبْهَةٍ أُخْرى مِن شُبَهِ تَكْذِيبِهِمْ، إذْ كانُوا يَسْألُونَ النَّبِيءَ أنْ يَأْتِيَهم بِآياتٍ عَلى حَسَبِ اقْتِراحِهِمْ، ويَقُولُونَ: لَوْ كانَ صادِقًا، وهو يَطْلُبُ مِنّا أنْ نُؤْمِنَ بِهِ لَجاءَنا بِالآياتِ الَّتِي سَألْناهُ؛ غُرُورًا بِأنْفُسِهِمْ أنَّ اللَّهَ يَتَنازَلُ لِمُباراتِهِمْ.
والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿وإنْ مِن قَرْيَةٍ إلّا نَحْنُ مُهْلِكُوها﴾ [الإسراء: ٥٨] الآيَةَ، أيْ إنَّما أمْهَلْنا المُتَمَرِّدِينَ عَلى الكُفْرِ إلى أجَلِ نُزُولِ العَذابِ، ولَمْ نُجِبْهم إلى ما طَلَبُوا مِنَ الآياتِ؛ لِعَدَمِ جَدْوى إرْسالِ الآياتِ لِلْأوَّلِينَ مِن قَبْلِهِمْ في الكُفْرِ عَلى حَسَبِ اقْتِراحِهِمْ فَكَذَّبُوا بِالآياتِ.
وحَقِيقَةُ المَنعِ: كَفُّ الفاعِلِ عَنْ فِعْلٍ يُرِيدُ فِعْلَتَهُ، أوْ يَسْعى في فِعْلِهِ، وهَذا مُحالٌ عَنِ اللَّهِ تَعالى؛ إذْ لا مُكْرِهَ لِلْقادِرِ المُخْتارِ، فالمَنعُ هُنا مُسْتَعارٌ لِلصَّرْفِ عَنِ الفِعْلِ، وعَدَمِ إيقاعِهِ دُونَ مُحاوَلَةِ إتْيانِهِ.
والإرْسالُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فَيَكُونُ مَفْعُولُ ﴿أنْ نُرْسِلَ﴾ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ نُرْسِلُ، والتَّقْدِيرُ: أنْ نُرْسِلَ رَسُولَنا، فالباءُ في قَوْلِهِ بِالآياتِ (p-١٤٣)لِلْمُصاحَبَةِ، أيْ مُصاحِبًا لِلْآياتِ الَّتِي اقْتَرَحَها المُشْرِكُونَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الإرْسالُ مُسْتَعارًا لِإظْهارِ الآياتِ وإيجادِها، فَتَكُونَ الباءُ مَزِيدَةً لِتَأْكِيدِ تَعَلُّقِ فِعْلِ ﴿نُرْسِلَ بِالآياتِ﴾، وتَكُونَ الآياتُ مَفْعُولًا في المَعْنى كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ [المائدة: ٦] .
والتَّعْرِيفُ في الآياتِ عَلى كِلا الوَجْهَيْنِ لِلْعَهْدِ، أيْ المَعْهُودَةِ مِنِ اقْتِراحِهِمْ كَقَوْلِهِمْ ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا﴾ [الإسراء: ٩٠]، و﴿قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى﴾ [القصص: ٤٨] و﴿قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ﴾ [الأنعام: ١٢٤] عَلى أحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ.
و(أنْ) الأُولى مُفِيدَةٌ مَصْدَرًا مَنصُوبًا عَلى نَزْعِ الخافِضِ، وهو مِنَ الَّتِي يَتَعَدّى بِها فِعْلُ المَنعِ، وهَذا الحَذْفُ مُطَّرِدٌ مَعَ (أنْ) .
و(أنْ) الثّانِيَةُ مَصْدَرُها فاعِلُ مَنَعَنا عَلى الِاسْتِثْناءِ المُفَرَّغِ.
وإسْنادُ المَنعِ إلى تَكْذِيبِ الأوَّلِينَ بِالآياتِ مَجازٌ عَقْلِيٌّ؛ لِأنَّ التَّكْذِيبَ سَبَبُ الصَّرْفِ.
والمَعْنى: أنَّنا نَعْلَمُ أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ كَما لَمْ يُؤْمِن مَن قَبْلَهم مِنَ الكَفَرَةِ لَمّا جاءَتْهم أمْثالُ تِلْكَ الآياتِ، فَعَلِمَ النّاسُ أنَّ الإصْرارَ عَلى الكُفْرِ سَجِيَّةٌ لِلْمُشْرِكِ لا يَقْلَعُها إظْهارُ الآياتِ، فَلَوْ آمَنَ الأوَّلُونَ عِنْدَما أُظْهِرَتْ لَهُمُ الآياتُ؛ لَكانَ لِهَؤُلاءِ أنْ يَجْعَلُوا إيمانَهم مَوْقُوفًا عَلى إيجادِ الآياتِ الَّتِي سَألُوها، قالَ تَعالى (إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِماتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ولَوْ جاءَتْهم كُلُّ آيَةٍ) .
والأظْهَرُ أنَّ هَذا تَثْبِيتٌ لِأفْئِدَةِ المُؤْمِنِينَ؛ لِئَلّا يَفْتِنَهُمُ الشَّيْطانُ، وتَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ ﷺ لِحِرْصِهِ عَلى إيمانِ قَوْمِهِ، فَلَعَلَّهُ يَتَمَنّى أنْ يُجِيبَهُمُ اللَّهُ لِما سَألُوا مِنَ الآياتِ، ولِحُزْنِهِ مِن أنْ يَظُنُّوهُ كاذِبًا.
وجُمْلَةُ ﴿وآتَيْنا ثَمُودَ النّاقَةَ﴾ في مَحَلِّ الحالِ مِن ضَمِيرِ الجَلالَةِ في مَنَعَنا، أيْ وقَدْ آتَيْنا ثَمُودًا آيَةً كَما سَألُوا فَزادُوا كُفْرًا بِسَبَبِها حَتّى عُجِّلَ لَهُمُ العَذابُ.
(p-١٤٤)ومَعْنى مُبْصِرَةً واضِحَةُ الدَّلالَةِ، فَهو اسْمُ فاعِلِ أبْصَرَ المُتَعَدِّي إلى مَفْعُولٍ، أيْ جَعَلَ غَيْرَهُ مُبْصِرًا وذا بَصِيرَةٍ، فالمَعْنى: أنَّها مُفِيدَةُ البَصِيرَةِ، أيِ اليَقِينِ، أيْ تَجْعَلُ مَن رَآها ذا بَصِيرَةٍ وتُفِيدُهُ أنَّها آيَةٌ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَلَمّا جاءَتْهم آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هَذا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [النمل: ١٣] .
وخَصَّ بِالذِّكْرِ ثَمُودَ وآيَتَها؛ لِشُهْرَةِ أمْرِهِمْ بَيْنَ العَرَبِ، ولِأنَّ آثارَ هَلاكِهِمْ في بِلادِ العَرَبِ قَرِيبَةٌ مِن أهْلِ مَكَّةَ يُبْصِرُها صادِرُهم ووارِدُهم في رِحْلاتِهِمْ بَيْنَ مَكَّةَ والشّامِ.
وقَوْلُهُ ﴿فَظَلَمُوا بِها﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ اسْتُعْمِلَ الظُّلْمُ بِمَعْنى الكُفْرِ؛ لِأنَّهُ ظُلْمُ النَّفْسِ، وتَكُونُ الباءُ لِلتَّعْدِيَةِ؛ لِأنَّ فِعْلَ الكُفْرِ يُعَدّى إلى المَكْفُورِ بِالباءِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الظُّلْمُ مُضَمَّنًا مَعْنى الجَحْدِ، أيْ كابَرُوا في كَوْنِها آيَةً، كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وجَحَدُوا بِها واسْتَيْقَنَتْها أنْفُسُهم ظُلْمًا وعُلُوًّا﴾ [النمل: ١٤]، ويَجُوزُ بَقاءُ الظُّلْمِ عَلى حَقِيقَتِهِ، وهي الِاعْتِداءُ بِدُونِ حَقٍّ، والباءُ صِلَةٌ لِتَوْكِيدِ التَّعْدِيَةِ مِثْلُ الباءِ في ﴿وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ﴾ [المائدة: ٦]، أيْ ظَلَمُوا النّاقَةَ حِينَ عَقَرُوها، وهي لَمْ تَجْنِ عَلَيْهِمْ، فَكانَ عَقْرُها ظُلْمًا، والِاعْتِداءُ عَلى العَجْماواتِ ظُلْمٌ إذا كانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ شَرْعًا كالصَّيْدِ.
* * *
﴿وما نُرْسِلُ بِالآياتِ إلّا تَخْوِيفًا﴾
هَذا بَيانٌ لِحِكْمَةٍ أُخْرى في تَرْكِ إرْسالِ الآياتِ إلى قُرَيْشٍ، تُشِيرُ إلى أنَّ اللَّهَ تَعالى أرادَ الإبْقاءَ عَلَيْهِمْ لِيَدْخُلَ مِنهم في الإسْلامِ كَثِيرٌ، ويَكُونُ نَشْرُ الإسْلامِ عَلى يَدِ كَثِيرٍ مِنهم.
وتِلْكَ مَكْرُمَةٌ لِلنَّبِيءِ ﷺ، فَلَوْ أرْسَلَ اللَّهُ لَهُمُ الآياتِ كَما سَألُوا مَعَ أنَّ جِبِلَّتَهُمُ العِنادُ لَأصَرُّوا عَلى الكُفْرُ فَحَقَّتْ عَلَيْهِمْ سُنَّةُ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ في عِبادِهِ، وهي الِاسْتِئْصالُ عَقِبَ إظْهارِ الآياتِ؛ لِأنَّ إظْهارَ الآياتِ (p-١٤٥)تَخْوِيفٌ مِنَ العَذابِ، واللَّهُ أرادَ الإبْقاءَ عَلى هَذِهِ الأُمَّةِ قالَ ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهم وأنْتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال: ٣٣] الآيَةَ، فَعَوَّضْنا تَخْوِيفَهم بَدَلًا عَنْ إرْسالِ الآياتِ الَّتِي اقْتَرَحُوها.
والقَوْلُ في تَعْدِيَةِ ﴿وما نُرْسِلُ بِالآياتِ﴾ كالقَوْلِ في ﴿وما مَنَعَنا أنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ﴾ مَعْنًى وتَقْدِيرًا عَلى الوَجْهَيْنِ، والتَّخْوِيفُ: جَعْلُ المَرْءِ خائِفًا.
والقَصْرُ في قَوْلِهِ ﴿إلّا تَخْوِيفًا﴾ لِقَصْرِ الإرْسالِ بِالآياتِ عَلى عِلَّةِ التَّخْوِيفِ، وهو قَصْرٌ إضافِيٌّ، أيْ لا مُباراةَ بَيْنَ الرُّسُلِ وأقْوامِهِمْ أوْ لا طَمَعًا في إيمانِ الأقْوامِ فَقَدْ عَلِمْنا أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ.
{"ayah":"وَمَا مَنَعَنَاۤ أَن نُّرۡسِلَ بِٱلۡـَٔایَـٰتِ إِلَّاۤ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلۡأَوَّلُونَۚ وَءَاتَیۡنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبۡصِرَةࣰ فَظَلَمُوا۟ بِهَاۚ وَمَا نُرۡسِلُ بِٱلۡـَٔایَـٰتِ إِلَّا تَخۡوِیفࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق