الباحث القرآني
﴿ولا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إنَّما عِنْدَ اللَّهِ هو خَيْرٌ لَكم إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ﴿ما عِنْدَكم يَنْفَدُ وما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ ولَيَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أجْرَهم بِأحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ الثَّمَنُ القَلِيلُ هو ما يَعِدُهم بِهِ المُشْرِكُونَ إنْ رَجَعُوا عَنِ الإسْلامِ مِن مالٍ وهَناءِ عَيْشٍ، وهَذا نَهْيٌ عَنْ نَقْضِ عَهْدِ الإسْلامِ؛ لِأجْلِ ما فاتَهم بِدُخُولِهِمْ في الإسْلامِ مِن مَنافِعَ عِنْدَ قَوْمِ الشِّرْكِ، وبِهَذا الِاعْتِبارِ عُطِفَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ عَلى جُمْلَةِ ﴿ولا تَنْقُضُوا الأيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها﴾ [النحل: ٩١] وعَلى جُمْلَةِ ﴿ولا تَتَّخِذُوا أيْمانَكم دَخَلًا بَيْنَكُمْ﴾ [النحل: ٩٤]؛لِأنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ مِنها تَلْتَفِتُ إلى غَرَضٍ خاصٍّ مِمّا قَدْ يَبْعَثُ عَلى النَّقْضِ.
والثَّمَنُ: العِوَضُ الَّذِي يَأْخُذُهُ المُعاوِضُ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى نَظِيرِ هَذا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿ولا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وإيّايَ فاتَّقُونِ﴾ [البقرة: ٤١] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وذَكَرْنا هُناكَ أنَّ قَلِيلًا صِفَةٌ كاشِفَةٌ، ولَيْسَتْ مُقَيَّدَةً، أيْ أنَّ كُلَّ عِوَضٍ يُؤْخَذُ عَنْ نَقْضِ عَهْدِ اللَّهِ هو عِوَضٌ قَلِيلٌ، ولَوْ كانَ أعْظَمَ المُكْتَسَباتِ.
وجُمْلَةُ ﴿إنَّما عِنْدَ اللَّهِ هو خَيْرٌ لَكُمْ﴾ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ بِاعْتِبارِ وصْفِ عِوَضِ الِاشْتِراءِ المَنهِيِّ عَنْهُ بِالقِلَّةِ، فَإنَّ ما عِنْدَ اللَّهِ هو خَيْرٌ مِن كُلِّ ثَمَنٍ، وإنْ عَظُمَ قَدْرُهُ.
(p-٢٧١)و﴿ما عِنْدَ اللَّهِ﴾ [الجمعة: ١١] هو ما ادَّخَرَهُ لِلْمُسْلِمِينَ مَن خَيْرٍ في الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ، كَما سَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وهو مُؤْمِنٌ﴾ [النحل: ٩٧] الآيَةَ فَخَيْرُ الدُّنْيا المَوْعُودُ بِهِ أفْضَلُ مِمّا يَبْذُلُهُ لَهُمُ المُشْرِكُونَ، وخَيْرُ الآخِرَةِ أعْظَمُ مِنَ الكُلِّ، فالعِنْدِيَّةُ هُنا بِمَعْنى الِادِّخارِ لَهم، كَما تَقُولُ: لَكَ عِنْدِي كَذا، ولَيْسَتْ عِنْدِيَّةَ مِلْكِ اللَّهِ تَعالى كَما في قَوْلِهِ ﴿وعِنْدَهُ مَفاتِحُ الغَيْبِ﴾ [الأنعام: ٥٩] وقَوْلُهُ ﴿وإنْ مِن شَيْءٍ إلّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ﴾ [الحجر: ٢١] وقَوْلُهُ ﴿وما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ﴾ .
و(وإنَّما) هَذِهِ مَرَكَّبَةٌ مِن (إنَّ) و(ما) المَوْصُولَةِ، فَحَقُّها أنْ تُكْتَبَ مَفْصُولَةً (ما) عَنْ (إنَّ)؛ لِأنَّها لَيْسَتْ (ما) الكافَّةَ، ولَكِنَّها كُتِبَتْ في المُصْحَفِ مَوْصُولَةً اعْتِبارًا لِحالَةِ النُّطْقِ، ولَمْ يَكُنْ وصْلُ أمْثالِها مُطَّرِدًا في جَمِيعِ المَواضِعِ مِنَ المُصْحَفِ.
ومَعْنى ﴿إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ عَواقِبِ الأشْياءِ، ولا يَغُرُّكُمُ العاجِلُ، وفِيهِ حَثٌّ لَهم عَلى التَّأمُّلِ والعِلْمِ.
وجُمْلَةُ ﴿ما عِنْدَكم يَنْفَدُ وما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ﴾ تَذْيِيلٌ وتَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ ﴿إنَّما عِنْدَ اللَّهِ هو خَيْرٌ لَكُمْ﴾ بِأنَّ ما عِنْدَ اللَّهِ لَهم خَيْرٌ مُتَجَدِّدٌ لا نَفادَ لَهُ، وأنَّ ما يُعْطِيهِمُ المُشْرِكُونَ مَحْدُودٌ نافِذٌ؛ لِأنَّ خَزائِنَ النّاسِ صائِرَةٌ إلى النَّفادِ بِالإعْطاءِ، وخَزائِنُ اللَّهِ باقِيَةٌ.
والنَّفادُ: الِانْقِراضُ، والبَقاءُ: عَدَمُ الفَناءِ.
أيْ ما عِنْدَ اللَّهِ لا يَفْنى، فالأجْدَرُ الِاعْتِمادُ عَلى عَطاءِ اللَّهِ المَوْعُودِ عَلى الإسْلامِ دُونَ الِاعْتِمادِ عَلى عَطاءِ النّاسِ الَّذِينَ يَنْفَدُ رِزْقُهم، ولَوْ كَثُرَ.
وهَذا الكَلامُ جَرى مَجْرى التَّذْيِيلِ لِما قَبْلَهُ، وأُرْسِلَ إرْسالَ المَثَلِ فَيُحْمَلُ عَلى أعَمَّ، ولِذَلِكَ كانَ ضَمِيرُ (عِنْدَكم) عائِدًا إلى جَمِيعِ النّاسِ بِقَرِينَةِ التَّذْيِيلِ والمَثَلِ، وبِقَرِينَةِ المُقابَلَةِ بِما عِنْدَ اللَّهِ، أيْ ما عِنْدَكم أيُّها النّاسُ ما عِنْدَ المَوْعُودِ، وما عِنْدَ الواعِدِ؛ لِأنَّ المَنهِيِّينَ عَنْ نَقْضِ العَهْدِ لَيْسَ بِيَدِهِمْ شَيْءٌ.
(p-٢٧٢)ولَمّا كانَ في نَهْيِهِمْ عَنْ أخْذِ ما يَعِدُهم بِهِ المُشْرِكُونَ حَمْلٌ لَهم عَلى حِرْمانِ أنْفُسِهِمْ مِن ذَلِكَ النَّفْعِ العاجِلِ وُعِدُوا الجَزاءَ عَلى صَبْرِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿ولَيَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أجْرَهُمْ﴾ .
قَرَأهُ الجُمْهُورُ و(لَيَجْزِيَنَّ) بِياءِ الغَيْبَةِ، والضَّمِيرُ عائِدٌ إلى اسْمِ الجَلالَةِ مِن قَوْلِهِ تَعالى بِعَهْدِ اللَّهِ وما بَعْدَهُ، فَهو النّاهِي والواعِدُ، فَلا جَرَمَ كانَ هو المُجازِي عَلى امْتِثالِ أمْرِهِ ونَهْيِهِ.
وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وعاصِمٌ، وابْنُ ذَكْوانَ عَنِ ابْنِ عامِرٍ في إحْدى رِوايَتَيْنِ عَنْهُ، وأبُو جَعْفَرٍ بِنُونِ العَظَمَةِ فَهو التِفاتٌ.
و(أجْرَهم) مَنصُوبٌ عَلى المَفْعُولِيَّةِ الثّانِيَةِ لِـ يَجْزِيَنَّ بِتَضْمِينِهِ مَعْنى الإعْطاءِ المُتَعَدِّي إلى مَفْعُولَيْنِ.
والباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، و(أحْسَنَ) صِيغَةُ تَفْضِيلٍ مُسْتَعْمَلَةٌ لِلْمُبالَغَةِ في الحُسْنِ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى ﴿قالَ رَبِّ السِّجْنُ أحَبُّ إلَيَّ مِمّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ﴾ [يوسف: ٣٣]، أيْ بِسَبَبِ عَمَلِهِمُ البالِغِ في الحُسْنِ، وهو عَمَلُ الدَّوامِ عَلى الإسْلامِ مَعَ تَجَرُّعِ ألَمِ الفِتْنَةِ مِنَ المُشْرِكِينَ، وقَدْ أكَّدَ الوَعْدَ بِلامِ القَسَمِ، ونُونِ التَّوْكِيدِ.
{"ayahs_start":95,"ayahs":["وَلَا تَشۡتَرُوا۟ بِعَهۡدِ ٱللَّهِ ثَمَنࣰا قَلِیلًاۚ إِنَّمَا عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَیۡرࣱ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ","مَا عِندَكُمۡ یَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقࣲۗ وَلَنَجۡزِیَنَّ ٱلَّذِینَ صَبَرُوۤا۟ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ"],"ayah":"مَا عِندَكُمۡ یَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقࣲۗ وَلَنَجۡزِیَنَّ ٱلَّذِینَ صَبَرُوۤا۟ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق