الباحث القرآني
﴿واللَّهُ جَعَلَ لَكم مِن بِيُوتِكم سَكَنًا وجَعَلَ لَكم مِن جُلُودِ الأنْعامِ بِيُوتًا تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعَنِكم ويَوْمَ إقامَتِكُمْوَمِن أصْوافِها وأوْبارِها وأشْعارِها أثاثًا ومَتاعًا إلى حِينٍ﴾ هَذا مِن تَعْدادِ النِّعَمِ الَّتِي ألْهَمَ اللَّهُ إلَيْها الإنْسانَ، وهي نِعْمَةُ الفِكْرِ بِصُنْعِ المَنازِلِ الواقِيَةِ والمُرَفَّهَةِ، وما يُشْبِهُها مِنَ الثِّيابِ والأثاثِ عَطْفًا عَلى جُمْلَةِ ﴿واللَّهُ أخْرَجَكم مِن بُطُونِ أُمَّهاتِكم لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [النحل: ٧٨] . وكُلُّها مِنَ الألْطافِ الَّتِي أعَدَّ اللَّهُ لَها عَقْلَ الإنْسانِ، وهَيَّأ لَهُ وسائِلَها.
(p-٢٣٧)وهَذِهِ نِعْمَةُ الإلْهامِ إلى اتِّخاذِ المَساكِنِ، وذَلِكَ أصْلُ حِفْظِ النَّوْعِ مِن غَوائِلِ حَوادِثِ الجَوِّ مِن شِدَّةِ بَرْدٍ أوْ حَرٍّ، ومِن غَوائِلِ السِّباعِ والهَوامِ، وهي أيْضًا أصْلُ الحَضارَةِ والتَّمَدُّنِ؛ لِأنَّ البُلْدانَ ومَنازِلَ القَبائِلِ تَتَقَوَّمُ مِنِ اجْتِماعِ البُيُوتِ، وأيْضًا تَتَقَوَّمُ مِن مُجْتَمَعِ الحُلَلِ والخِيامِ.
والقَوْلُ في نَظْمِ جُمْلَةِ ﴿واللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ﴾ [النحل: ٧٢] كالقَوْلِ في الَّتِي قَبْلَها.
وبُيُوتٌ: يَجُوزُ فِيهِ ضَمُّ المُوَحَّدَةِ وكَسْرُها، وهو جَمْعُ بَيْتٍ، وضَمُّ المُوَحَّدَةِ هو القِياسُ؛ لِأنَّهُ عَلى وزْنِ فُعُولٌ، وهو مُطَّرِدٌ في جَمْعِ فَعْلٍ بِفَتْحِ الفاءِ وسُكُونِ العَيْنِ، وأمّا لُغَةُ كَسْرِ الباءِ فَلِمُناسَبَةِ وُقُوعِ الياءِ التَّحْتِيَّةِ بَعْدَ المُوَحَّدَةِ المَضْمُومَةِ؛ لِأنَّ الِانْتِقالَ مِن حَرَكَةِ الضَّمِّ إلى النُّطْقِ بِالياءِ ثَقِيلٌ، وقالَ الزَّجّاجُ: أكْثَرُ النَّحْوِيِّينَ لا يَعْرِفُونَ الكَسْرَ (أيْ لا يَعْرِفُونَهُ لُغَةً) وبَيَّنَ أبُو عَلِيٍّ جَوازَهُ، وتَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ.
وبِالكَسْرِ قَرَأ الجُمْهُورُ، وقَرَأها بِالضَّمِّ أبُو عَمْرٍو ووَرْشٌ عَنْ نافِعٍ وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ.
والبَيْتُ: مَكانٌ يُجْعَلُ لَهُ بِناءٌ وفُسْطاطٌ يُحِيطُ بِهِ يُعَيِّنُ مَكانَهُ لِيَتَّخِذَهُ جاعِلُهُ مَقَرًّا يَأْوِي إلَيْهِ، ويَسْتَكِنُّ بِهِ مِنَ الحَرِّ والقَرِّ، وقَدْ يَكُونُ مُحِيطُهُ مِن حَجَرٍ وطِينٍ ويُسَمّى جِدارًا، أوْ مِن أخْشابٍ أوْ قَصَبٍ أوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وتُسَمّى أيْضًا الأخْصاصُ، ويُوضَعُ فَوْقَ مُحِيطِهِ غِطاءٌ ساتِرٌ مِن أعْلاهُ يُسَمّى السَّقْفُ، يُتَّخَذُ مِن أعْوادٍ ويُطَيَّنُ عَلَيْها، وهَذِهِ بُيُوتُ أهْلِ المُدُنِ والقُرى.
وقَدْ يَكُونُ المُحِيطُ بِالبَيْتِ مُتَّخَذًا مِن أدِيمٍ مَدْبُوغٍ ويُسَمّى القُبَّةَ، أوْ مِن أثْوابٍ تُنْسَجُ مِن وبَرٍ أوْ شَعْرٍ أوْ صُوفٍ، ويُسَمّى الخَيْمَةَ أوِ الخِباءَ، وكُلُّها يَكُونُ بِشَكْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الهَرَمِيِّ تَلْتَقِي شُقَّتاهُ أوْ شُقَقُهُ مِن أعْلاهُ مُعْتَمِدَةً عَلى عَمُودٍ، وتَنْحَدِرُ مِنهُ مُتَّسِعَةً عَلى شَكْلٍ مَخْرُوطٍ، وهَذِهِ بُيُوتُ الأعْرابِ في البَوادِي أهْلِ الإبِلِ والغَنَمِ يَتَّخِذُونَها؛ لِأنَّها أسْعَدُ لَهم في انْتِجاعِهِمْ، فَيَنْقُلُونَها مَعَهم إذا انْتَقَلُوا (p-٢٣٨)يَتَتَبَّعُونَ مَواقِعَ الكَلَأِ لِأنْعامِهِمْ والكَمْأةِ لِعَيْشِهِمْ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ البَيْتِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿وإذْ جَعَلْنا البَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وأمْنًا﴾ [البقرة: ١٢٥] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
و(جَعَلَ) هُنا بِمَعْنى أوْجَدَ، فَتَتَعَدّى إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ.
والسَّكَنُ: اسْمٌ بِمَعْنى المَسْكُونِ، والسُّكْنى: مَصْدَرُ سَكَنَ فُلانٌ البَيْتَ، إذا جَعَلَهُ مَقَرًّا لَهُ، وهو مُشْتَقٌّ مِنَ السُّكُونِ، أيِ القَرارِ.
وانْتَصَبَ قَوْلُهُ تَعالى سَكَنًا عَلى المَفْعُولِيَّةِ لِـ (جَعَلَ) .
وقَوْلُهُ ﴿مِن بُيُوتِكُمْ﴾ بَيانٌ لِلسَّكَنِ، فَتَكُونُ (مِن) بَيانِيَّةٌ، أوْ تُجْعَلُ ابْتِدائِيَّةً، ويَكُونُ الكَلامُ مِن قَبِيلِ التَّجْرِيدِ بِتَنْزِيلِ البُيُوتِ مَنزِلَةَ شَيْءٍ آخَرَ غَيْرِ السَّكَنِ، كَقَوْلِهِمْ: لَئِنْ لَقِيتَ فُلانًا لَتَلْقَيَنَّ مِنهُ بَحْرًا، وأصْلُ التَّرْكِيبِ: واللَّهُ جَعَلَ لَكم بُيُوتَكم سَكَنًا.
وقِيلَ: إنَّ سَكَنًا مَصْدَرٌ، وهو قَوْلٌ ضَعِيفٌ، وعَلَيْهِ فَيَكُونُ الِامْتِنانُ بِالإلْهامِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ السُّكُونُ، وتَكُونُ (مِن) ابْتِدائِيَّةً؛ لِأنَّ أوَّلَ السُّكُونِ يَقَعُ في البُيُوتِ.
وشَمِلَ البُيُوتُ هُنا جَمِيعَ أصْنافِها.
وخُصَّ بِالذِّكْرِ القِبابُ والخِيامُ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وجَعَلَ لَكم مِن جُلُودِ الأنْعامِ بُيُوتًا﴾؛ لِأنَّ القِبابَ مَن أدَمٍ، والخِيامَ مِن مَنسُوجِ الأوْبارِ والأصْوافِ والأشْعارِ، وهي ناشِئَةٌ مِنَ الجِلْدِ؛ لِأنَّ الجِلْدَ هو الإهابُ بِما عَلَيْهِ، فَإذا دُبِغَ وأُزِيلَ مِنهُ الشَّعْرُ فَهو الأدِيمُ.
وهَذا امْتِنانٌ خاصٌّ بِالبُيُوتِ القابِلَةِ لِلِانْتِقالِ والِارْتِحالِ. والبَشَرُ كُلُّهم لا يَعْدُونَ أنْ يَكُونُوا أهْلَ قُرًى أوْ قَبائِلَ رُحَّلًا.
والسِّينُ والتّاءُ في (تَسْتَخِفُّونَها) لِلْوِجْدانِ، أيْ تَجِدُونَها خَفِيفَةً، أيْ خَفِيفَةَ المَحْمَلِ حِينَ تَرْحَلُونَ، إذْ يَسْهُلُ نَقْضُها مِن مَواضِعِها وطَيُّها وحَمْلُها عَلى الرَّواحِلِ، وحِينَ تُنِيخُونَ إناخَةَ الإقامَةِ في المَوْضِعِ المُنْتَقَلِ إلَيْهِ فَيَسْهُلُ ضَرْبُها وتَوْثِيقُها في الأرْضِ.
(p-٢٣٩)و(الظَّعْنُ) بِفَتْحِ الظّاءِ والعَيْنِ وتَسْكِينِ العَيْنِ، وقَدْ قَرَأهُ بِالأوَّلِ نافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وأبُو جَعْفَرٍ، ويَعْقُوبُ، وبِالثّانِي الباقُونَ، وهو السَّفَرُ.
وأطْلَقَ اليَوْمَ عَلى الحِينِ والزَّمَنِ، أيْ وقْتَ سَفَرِكم.
والأثاثُ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ اسْمُ جَمْعٍ لِلْأشْياءِ الَّتِي تُفْرَشُ في البُيُوتِ مِن وسائِدَ وبُسُطٍ وزَرابِيِّ، وكُلُّها تُنْسَجُ أوْ تُحْشى بِالأصْوافِ والأشْعارِ والأوْبارِ.
والمَتاعُ أعَمُّ مِنَ الأثاثِ، فَيَشْمَلُ الأعْدالَ والخَطْمَ والرَّحائِلَ واللُّبُودَ والعُقُلَ.
فالمَتاعُ: ما يُتَمَتَّعُ بِهِ ويُنْتَفَعُ، وهو مُشْتَقٌّ مِنَ المُتَعِ، وهو الذَّهابُ بِالشَّيْءِ، ولِمُلاحَظَةِ اشْتِقاقِهِ تَعَلَّقَ بِهِ إلى حِينٍ، والمَقْصُودُ مِن هَذا المُتَعَلِّقِ الوَعْظُ بِأنَّها أوْ أنَّهم صائِرُونَ إلى زَوالٍ يَحُولُ دُونَ الِانْتِفاعِ بِها؛ لِيَكُونَ النّاسُ عَلى أُهْبَةٍ واسْتِعْدادٍ لِلْآخِرَةِ؛ فَيَتْبَعُوا ما يُرْضِي اللَّهَ تَعالى، كَما قالَ ﴿أذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكم في حَياتِكُمُ الدُّنْيا واسْتَمْتَعْتُمْ بِها﴾ [الأحقاف: ٢٠] .
{"ayah":"وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنۢ بُیُوتِكُمۡ سَكَنࣰا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ ٱلۡأَنۡعَـٰمِ بُیُوتࣰا تَسۡتَخِفُّونَهَا یَوۡمَ ظَعۡنِكُمۡ وَیَوۡمَ إِقَامَتِكُمۡ وَمِنۡ أَصۡوَافِهَا وَأَوۡبَارِهَا وَأَشۡعَارِهَاۤ أَثَـٰثࣰا وَمَتَـٰعًا إِلَىٰ حِینࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق