الباحث القرآني
(p-٣١٨)﴿ثُمَّ أوْحَيْنا إلَيْكَ أنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ (ثُمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ المُشِيرِ إلى أنَّ مَضْمُونَ الجُمْلَةِ المَعْطُوفَةِ مُتَباعِدٌ في رُتْبَةِ الرِّفْعَةِ عَلى مَضْمُونِ ما قَبْلَها؛ تَنْوِيهًا جَلِيلًا بِشَأْنِ النَّبِيءِ ﷺ، وبِشَرِيعَةِ الإسْلامِ، وزِيادَةً في التَّنْوِيهِ بِإبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، أيْ جَعَلْناكَ مُتَّبِعًا مِلَّةَ إبْراهِيمَ. وذَلِكَ أجَلُّ ما أوْلَيْناكُما مِنَ الكَرامَةِ، وقَدْ بَيَّنْتُ آنِفًا أنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ هي المَقْصُودُ، وأنَّ جُمْلَةَ ﴿إنَّ إبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً﴾ [النحل: ١٢٠] إلَخْ تَمْهِيدٌ لَها.
وزِيدَ ﴿أوْحَيْنا إلَيْكَ﴾ لِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ اتِّباعِ مُحَمَّدٍ مِلَّةَ إبْراهِيمَ كانَ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ، وإرْشادٍ صادِقٍ؛ تَعْرِيضًا بِأنَّ الَّذِينَ زَعَمُوا اتِّباعَهم مِلَّةَ إبْراهِيمَ مِنَ العَرَبِ مِن قَبْلُ قَدْ أخْطَأُوها بِشُبْهَةٍ مِثْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أبِي الصَّلْتِ، وزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، أوْ بِغَيْرِ شُبْهَةٍ مِثْلُ مَزاعِمِ قُرَيْشٍ في دِينِهِمْ.
و(أنْ) تَفْسِيرِيَّةُ فِعْلِ أوْحَيْنا؛ لِأنَّ فِيهِ مَعْنى القَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ، فاحْتِيجَ إلى تَفْسِيرِهِ بِحَرْفِ التَّفْسِيرِ.
والِاتِّباعُ: اقْتِفاءُ السَّيْرِ عَلى سَيْرٍ آخَرَ، وهو هُنا مُسْتَعارٌ لِلْعَمَلِ بِمِثْلِ عَمَلِ الآخَرِ.
وانْتَصَبَ حَنِيفًا عَلى الحالِ مِن إبْراهِيمَ فَيَكُونُ زِيادَةَ تَأْكِيدٍ لِمُماثِلِهِ قَبْلَهُ أوْ حالًا مِن ضَمِيرِ (إلَيْكَ) أوْ مِن ضَمِيرِ (اتَّبِعْ)، أيْ كُنْ يا مُحَمَّدُ حَنِيفًا كَما كانَ إبْراهِيمُ حَنِيفًا، ولِذَلِكَ قالَ النَّبِيءُ ﷺ: «بُعِثْتُ بِالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» .
وتَفْسِيرُ فِعْلِ أوْحَيْنا بِجُمْلَةِ ﴿أنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ﴾ تَفْسِيرٌ بِكَلامٍ جامِعٍ لِما أوْحى اللَّهُ بِهِ إلى مُحَمَّدٍ ﷺ مِن شَرائِعِ الإسْلامِ (p-٣١٩)مَعَ الإعْلامِ بِأنَّها مُقامَةٌ عَلى أُصُولِ مِلَّةِ إبْراهِيمَ، ولَيْسَ المُرادُ أوْحَيْنا إلَيْكَ كَلِمَةَ ﴿اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا﴾؛ لِأنَّ النَّبِيءَ ﷺ لا يَعْلَمُ تَفاصِيلَ مِلَّةِ إبْراهِيمَ، فَتَعَيَّنَ أنَّ المُرادَ أنَّ المُوحى بِهِ إلَيْهِ مُنْبَجِسٌ مِن شَرِيعَةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ.
وقَوْلُهُ ﴿وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ هو مِمّا أوْحاهُ اللَّهُ إلى مُحَمَّدٍ ﷺ المَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ ﴿ثُمَّ أوْحَيْنا إلَيْكَ﴾، وهو عَطْفٌ عَلى حَنِيفًا عَلى كِلا الوَجْهَيْنِ في صاحِبِ ذَلِكَ الحالِ، فَعَلى الوَجْهِ الأوَّلِ يَكُونُ الحالُ زِيادَةَ تَأْكِيدٍ لِقَوْلِهِ قَبْلَهُ ﴿ولَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [النحل: ١٢٠]، وعَلى الوَجْهِ الثّانِي يَكُونُ تَنْزِيهًا لِشَرِيعَةِ الإسْلامِ المُتَّبِعَةِ لِمِلَّةِ إبْراهِيمَ مِن أنْ يُخالِطَها شَيْءٌ مِنَ الشِّرْكِ.
ونَفِيُ كَوْنِهِ مِنَ المُشْرِكِينَ هُنا بِحَرْفِ (ما) النّافِيَةِ؛ لِأنَّ (ما) إذا نَفَتْ فِعْلَ (كانَ) أفادَتْ قُوَّةَ النَّفْيِ، ومُباعَدَةَ المَنفِيِّ، وحَسَبُكَ أنَّها يُبْنى عَلَيْها الجُحُودُ في نَحْوِ: ما كانَ لِيَفْعَلَ كَذا.
فَحَصَلَ مِن قَوْلِهِ السّابِقِ ﴿ولَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [النحل: ١٢٠] مِن قَوْلِهِ هُنا ﴿وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ ثَلاثُ فَوائِدَ: نَفْيُ الإشْراكِ عَنْ إبْراهِيمَ في جَمِيعِ أزْمِنَةِ الماضِي، وتَجَدُّدُ نَفْيِ الإشْراكِ تَجَدُّدًا مُسْتَمِرًّا، وبَراءَتُهُ مِنَ الإشْراكِ بَراءَةً تامَّةً.
وقَدْ عُلِمَ مِن هَذا أنَّ دِينَ الإسْلامِ مُنَزَّهٌ عَنْ أنْ تَتَعَلَّقَ بِهِ شَوائِبُ الإشْراكِ؛ لِأنَّهُ جاءَ كَما جاءَ إبْراهِيمُ مُعْلِنًا تَوْحِيدًا لِلَّهِ بِالإلَهِيَّةِ، ومُجْتَثًّا لِوَشِيجِ الشِّرْكِ، والشَّرائِعِ الإلَهِيَّةِ كُلِّها - وإنْ كانَتْ تُحَذِّرُ مِنَ الإشْراكِ - فَقَدِ امْتازَ القُرْآنُ مِن بَيْنِها بِسَدِّ المَنافِذِ الَّتِي يَتَسَلَّلُ مِنها الإشْراكُ بِصَراحَةِ أقْوالِهِ، وفَصاحَةِ بَيانِهِ، وأنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ في ذَلِكَ كَلامًا مُتَشابِهًا كَما قَدْ يُوجَدُ في بَعْضِ الكُتُبِ الأُخْرى؛ مِثْلُ ما جاءَ في التَّوْراةِ مَن وصْفِ اليَهُودِ بِأبْناءِ اللَّهِ، وما في الأناجِيلِ مِن تَوَهُّمِ بُنُوَّةِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ لِلَّهِ، سُبْحانَهُ عَمّا يَصِفُونَ.
(p-٣٢٠)وقَدْ أشارَ إلى هَذا المَعْنى قَوْلُ النَّبِيءِ ﷺ في خُطْبَةِ حِجَّةِ الوَداعِ: «أيُّها النّاسُ إنَّ الشَّيْطانَ قَدْ يَئِسَ أنْ يُعْبَدَ في أرْضِكم هَذِهِ - أيْ أرْضِ الإسْلامِ - أبَدًا، ولَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ أنْ يُطاعَ فِيما سِوى ذَلِكَ مِمّا تَحْقِرُونَ مِن أعْمالِكم فاحْذَرُوهُ عَلى دِينِكم» .
ومَعْنى اتِّباعِ مُحَمَّدٍ مِلَّةَ إبْراهِيمَ الواقِعِ في كَثِيرٍ مِن آياتِ القُرْآنِ أنَّ دِينَ الإسْلامِ بُنِيَ عَلى أُصُولِ مِلَّةِ إبْراهِيمَ، وهي أُصُولُ الفِطْرَةِ، والتَّوَسُّطُ بَيْنَ الشِّدَّةِ واللِّينِ، كَما قالَ تَعالى ﴿وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ مِلَّةَ أبِيكم إبْراهِيمَ﴾ [الحج: ٧٨] .
وفِي قَضِيَّةِ أمْرِ إبْراهِيمَ بِذَبْحِ ولَدِهِ عَلَيْهِما السَّلامُ، ثُمَّ فِدائِهِ بِذَبْحِ شاةٍ رَمَزٌ إلى الِانْتِقالِ مِن شِدَّةِ الأدْيانِ الأُخْرى في قَرابِينِها إلى سَماحَةِ دِينِ اللَّهِ الحَنِيفِ في القُرْبانِ بِالحَيَوانِ دُونَ الآدَمِيِّ، ولِذَلِكَ قالَ تَعالى ﴿ونادَيْناهُ أنْ يا إبْراهِيمُ﴾ [الصافات: ١٠٤] ﴿قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إنّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ [الصافات: ١٠٥] ﴿إنَّ هَذا لَهو البَلاءُ المُبِينُ﴾ [الصافات: ١٠٦] ﴿وفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات: ١٠٧] .
فالشَّرِيعَةُ الَّتِي تُبْنى تَفاصِيلُها وتَفارِيعُها عَلى أُصُولِ شَرِيعَةٍ تُعْتَبَرُ كَأنَّها تِلْكَ الشَّرِيعَةُ، ولِذَلِكَ قالَ المُحَقِّقُونَ مِن عُلَمائِنا: إنَّ الحُكْمَ الثّابِتَ بِالقِياسِ في الإسْلامِ يَصِحُّ أنْ يُقالَ إنَّهُ دِينُ اللَّهِ، وإنْ كانَ لا يَصِحُّ أنْ يُقالَ: قالَهُ اللَّهُ. ولَيْسَ المُرادُ أنَّ جَمِيعَ ما جاءَ بِهِ الإسْلامُ قَدْ جاءَ بِهِ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ - إذْ لا يَخْطُرُ ذَلِكَ بِالبالِ - فَإنَّ الإسْلامَ شَرِيعَةٌ قانُونِيَّةٌ سُلْطانِيَّةٌ وشَرْعُ إبْراهِيمَ شَرِيعَةٌ قَبائِلِيَّةٌ خاصَّةٌ بِقَوْمٍ، ولا أنَّ المُرادَ أنَّ اللَّهَ أمَرَ النَّبِيءَ مُحَمَّدًا ﷺ بِاتِّباعِ مِلَّةِ إبْراهِيمَ ابْتِداءً قَبْلَ أنْ يُوحِي إلَيْهِ بِشَرائِعِ دِينِ الإسْلامِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ؛ وإنْ كانَ صَحِيحًا مِن جِهَةِ المَعْنى وتَحْتَمِلُهُ ألْفاظُ الآيَةِ؛ لَكِنَّهُ لا يَسْتَقِيمُ إذْ لَمْ يَرِدْ في شَيْءٍ مِنَ التَّشْرِيعِ الإسْلامِيِّ ما يُشِيرُ إلى أنَّهُ نَسْخٌ لِما كانَ عَلَيْهِ النَّبِيءُ ﷺ مِن قَبْلُ.
(p-٣٢١)فاتِّباعُ النَّبِيءِ مِلَّةَ إبْراهِيمَ كانَ بِالقَوْلِ والعَمَلِ في أُصُولِ الشَّرِيعَةِ مِن إثْباتِ التَّوْحِيدِ والمُحاجَّةِ لَهُ، واتِّباعِ ما تَقْتَضِيهِ الفِطْرَةُ، وفي فُرُوعِها مِمّا أوْحى اللَّهُ إلَيْهِ مِنَ الحَنِيفِيَّةِ مِثْلُ الخِتانِ، وخِصالِ الفِطْرَةِ، والإحْسانِ.
{"ayah":"ثُمَّ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ أَنِ ٱتَّبِعۡ مِلَّةَ إِبۡرَ ٰهِیمَ حَنِیفࣰاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق