الباحث القرآني
﴿اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وما تَغِيضُ الأرْحامُ وما تَزْدادُ وكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ﴾ ﴿عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ الكَبِيرُ المُتَعالِ﴾
انْتِقالٌ إلى الِاسْتِدْلالِ عَلى تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعالى بِالإلَهِيَّةِ، فَهو مُتَّصِلٌ بِجُمْلَةِ ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ﴾ [الرعد: ٢] إلَخَّ.
وهَذِهِ الجُمْلَةُ اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ. فَلَمّا قامَتِ البَراهِينُ العَدِيدَةُ بِالآياتِ السّابِقَةِ عَلى وحْدانِيَّةِ اللَّهِ تَعالى بِالخَلْقِ والتَّدْبِيرِ وعَلى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ الَّتِي أوْدَعَ بِها في المَخْلُوقاتِ دَقائِقَ الخِلْقَةِ، انْتَقَلَ الكَلامُ إلى إثْباتِ العِلْمِ لَهُ تَعالى عِلْمًا عامًّا بِدَقائِقِ الأشْياءِ وعَظائِمِها، ولِذَلِكَ جاءَ افْتِتاحُهُ عَلى الأُسْلُوبِ الَّذِي افْتَتَحَ بِهِ الغَرَضَ السّابِقَ بِأنِ ابْتُدِئَ بِاسْمِ الجَلالَةِ كَما ابْتُدِئَ بِهِ هُنالِكَ في قَوْلِهِ ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها﴾ [الرعد: ٢] .
وجُعِلَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ في هَذا المَوْقِعِ؛ لِأنَّ لَها مُناسَبَةً بِقَوْلِهِمْ ﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ﴾ [الرعد: ٧]، فَإنَّ ما ذُكِرَ فِيها مِن عِلْمِ اللَّهِ وعَظِيمِ صُنْعِهِ صالِحٌ لِأنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلى أنَّهُ لا يُعْجِزُهُ الإتْيانُ بِما اقْتَرَحُوا مِنَ الآياتِ؛ ولَكِنَّ بِعْثَةَ الرَّسُولِ لَيْسَ المَقْصِدُ مِنها المُنازَعاتِ بَلْ هي دَعْوَةٌ لِلنَّظَرِ في الأدِلَّةِ.
(p-٩٧)وإذْ قَدْ كانَ خَلْقُ اللَّهِ العَوالِمَ وغَيْرَها مَعْلُومًا لَدى المُشْرِكِينَ ولَكِنَّ الإقْبالَ عَلى عِبادَةِ الأصْنامِ يُذْهِلُهم عَنْ تَذَكُّرِهِ، كانُوا غَيْرَ مُحْتاجِينَ لِأكْثَرَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِذَلِكَ وبِالتَّنْبِيهِ إلى ما قَدْ يَخْفى مِن دَقائِقِ التَّكْوِينِ كَقَوْلِهِ آنِفًا (بِغَيْرِ عَمَدٍ) وقَوْلِهِ ﴿وفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ﴾ [الرعد: ٤] إلَخْ؛ صِيغَ الإخْبارُ عَنِ الخَلْقِ في آيَةِ ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ﴾ [الرعد: ٢] إلَخْ بِطَرِيقَةِ المَوْصُولِ لِلْعِلْمِ بِثُبُوتِ مَضْمُونِ الصِّلَةِ لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ.
وجِيءَ في تِلْكَ الصِّلَةِ بِفِعْلِ المُضِيِّ فَقالَ ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ﴾ [الرعد: ٢] كَما أشَرْنا إلَيْهِ آنِفًا. فَأمّا هُنا فَصِيغَ الخَبَرُ بِصِيغَةِ المُضارِعِ المُفِيدِ لِلتَّجَدُّدِ والتَّكْرِيرِ لِإفادَةِ أنَّ ذَلِكَ العِلْمَ مُتَكَرِّرٌ مُتَجَدِّدُ التَّعَلُّقِ بِمُقْتَضى أحْوالِ المَعْلُوماتِ المُتَنَوِّعَةِ والمُتَكاثِرَةِ عَلى نَحْوِ ما قُرِّرَ في قَوْلِهِ ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ يُفَصِّلُ الآياتِ﴾ [الرعد: ٢] .
وذُكِرَ مِن مَعْلُوماتِ اللَّهِ ما لا نِزاعَ في أنَّهُ لا يَعْلَمُهُ أحَدٌ مِنَ الخَلْقِ يَوْمَئِذٍ ولا تُسْتَشارُ فِيهِ آلِهَتُهم عَلى وجْهِ المِثالِ بِإثْباتِ الجُزْئِيِّ لِإثْباتِ الكُلِّيِّ، فَما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى هي أجِنَّةُ الإنْسانِ والحَيَوانِ. ولِذَلِكَ جِيءَ بِفِعْلِ الحَمْلِ دُونَ الحَبَلِ لِاخْتِصاصِ الحَبَلِ بِحَمْلِ المَرْأةِ.
و(ما) مَوْصُولَةٌ، وعُمُومُها يَقْتَضِي عِلْمَ اللَّهِ بِحالِ الحَمْلِ المَوْجُودِ مِن ذُكُورَةٍ وأُنُوثَةٍ، وتَمامٍ ونَقْصٍ، وحُسْنٍ وقُبْحٍ، وطُولٍ وقِصَرٍ، ولَوْنٍ. وتَغِيضُ: تَنْقُصُ. والظّاهِرُ أنَّهُ كِنايَةٌ عَنِ العُلُوقِ؛ لِأنَّ غَيْضَ الرَّحِمِ انْحِباسُ دَمِ الحَيْضِ عَنْها، وازْدِيادُها: فَيَضانُ الحَيْضِ مِنها. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الغَيْضُ مُسْتَعارًا لِعَدَمِ التَّعَدُّدِ.
والِازْدِيادُ: التَّعَدُّدُ أيْ ما يَكُونُ في الأرْحامِ مِن جَنِينٍ واحِدٍ أوْ عِدَّةِ أجِنَّةٍ وذَلِكَ في الإنْسانِ والحَيَوانِ.
وجُمْلَةُ ﴿وكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى﴾ . فالمُرادُ بِالشَّيْءِ الشَّيْءُ مِنَ المَعْلُوماتِ، و(عِنْدَهُ) يَجُوزُ أنْ يَكُونَ (p-٩٨)خَبَرًا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ و(بِمِقْدارٍ) في مَوْضِعِ الحالِ مِن (كُلُّ شَيْءٍ)، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (عِنْدَهُ) في مَوْضِعِ الحالِ مِن (مِقْدارٍ) ويَكُونُ (بِمِقْدارٍ) خَبَرًا عَنْ (كُلُّ شَيْءٍ) .
والمِقْدارُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِقَرِينَةِ الباءِ، أيْ بِتَقْدِيرٍ، ومَعْناهُ: التَّحْدِيدُ والضَّبْطُ. والمَعْنى أنَّهُ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا مُفَصَّلًا لا شُيُوعَ فِيهِ ولا إبْهامَ. وفي هَذا رَدٌّ عَلى الفَلاسِفَةِ غَيْرِ المُسْلِمِينَ القائِلِينَ أنَّ واجِبَ الوُجُودِ يَعْلَمُ الكُلِّيّاتِ ولا يَعْلَمُ الجُزْئِيّاتِ فِرارًا مِن تَعَلُّقِ العِلْمِ بِالحَوادِثِ. وقَدْ أبْطَلَ مَذْهَبَهم عُلَماءُ الكَلامِ بِما لَيْسَ فَوْقَهُ مَرامٌ. وهَذِهِ قَضِيَّةٌ كُلِّيَّةٌ أثْبَتَتْ عُمُومَ عِلْمِهِ تَعالى بَعْدَ أنْ وقَعَ إثْباتُ العُمُومِ بِطَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ بِعِلْمِهِ بِالجُزْئِيّاتِ الخَفِيَّةِ في قَوْلِهِ ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وما تَغِيضُ الأرْحامُ وما تَزْدادُ﴾ .
وجُمْلَةُ ﴿عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ﴾ تَذْيِيلٌ وفَذْلَكَةٌ لِتَعْمِيمِ العِلْمِ بِالخَفِيّاتِ والظَّواهِرِ وهُما قِسْما المَوْجُوداتِ. وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الغَيْبِ في صَدْرِ سُورَةِ البَقَرَةِ.
وأمّا الشَّهادَةُ فَهي هُنا مَصْدَرٌ بِمَعْنى المَفْعُولِ، أيِ الأشْياءُ المَشْهُودَةُ، وهي الظّاهِرَةُ المَحْسُوسَةُ، المَرْئِيّاتُ وغَيْرُها مِنَ المَحْسُوساتِ، فالمَقْصُودُ مِنَ الغَيْبِ والشَّهادَةِ تَعْمِيمُ المَوْجُوداتِ كَقَوْلِهِ ﴿فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ﴾ [الحاقة: ٣٨] ﴿وما لا تُبْصِرُونَ﴾ [الحاقة: ٣٩] .
والكَبِيرُ: مَجازٌ في العَظَمَةِ، إذْ قَدْ شاعَ اسْتِعْمالُ أسْماءِ الكَثْرَةِ وألْفاظِ الكِبَرِ في العَظَمَةِ تَشْبِيهًا لِلْمَعْقُولِ بِالمَحْسُوسِ وشاعَ ذَلِكَ حَتّى صارَ كالحَقِيقَةِ. والمُتَعالِي: المُتَرَفِّعُ. وصِيغَتِ الصِّفَةُ بِصِيغَةِ التَّفاعُلِ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ العُلُوَّ صِفَةٌ ذاتِيَّةٌ لَهُ لا مِن غَيْرِهِ، أيِ الرَّفِيعُ رِفْعَةً واجِبَةً لَهُ عَقْلًا. والمُرادُ بِالرِّفْعَةِ هَنا المَجازُ عَنِ العِزَّةِ التّامَّةِ بِحَيْثُ لا يَسْتَطِيعُ مَوْجُودٌ أنْ يَغْلِبَهُ أوْ يُكْرِهَهُ، أوِ المُنَزَّهُ عَنِ النَّقائِصِ كَقَوْلِهِ عَزَّ وجَلَّ ﴿تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [النحل: ٣] .
وحَذْفُ الياءِ مِنَ المُتَعالِ لِمُراعاةِ الفَواصِلِ السّاكِنَةِ؛ لِأنَّ الأفْصَحَ في (p-٩٩)المَنقُوصِ غَيْرِ المُنَوَّنِ إثْباتُ الياءِ في الوَقْفِ إلّا إذا وقَعَتْ في القافِيَةِ أوْ في الفَواصِلِ كَما في هَذِهِ الآيَةِ لِمُراعاةِ (مِن والٍ) . (والآصالِ) .
وقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ أنَّ ما يُخْتارُ إثْباتُهُ مِنَ الياءاتِ والواواتِ يُحْذَفُ في الفَواصِلِ والقَوافِي، والإثْباتُ أقْيَسُ، والحَذْفُ عَرَبِيٌّ كَثِيرٌ.
{"ayahs_start":8,"ayahs":["ٱللَّهُ یَعۡلَمُ مَا تَحۡمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِیضُ ٱلۡأَرۡحَامُ وَمَا تَزۡدَادُۚ وَكُلُّ شَیۡءٍ عِندَهُۥ بِمِقۡدَارٍ","عَـٰلِمُ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ٱلۡكَبِیرُ ٱلۡمُتَعَالِ"],"ayah":"عَـٰلِمُ ٱلۡغَیۡبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ ٱلۡكَبِیرُ ٱلۡمُتَعَالِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق