﴿ويَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَهْدِي إلَيْهِ مَن أنابَ﴾
عُطِفَ غَرَضٌ عَلى غَرَضٍ وقِصَّةٌ عَلى قِصَّةٍ. والمُناسَبَةُ ذِكْرُ فَرَحِهِمْ بِحَياتِهِمُ الدُّنْيا وقَدِ اغْتَرُّوا بِما هم عَلَيْهِ مِنَ الرِّزْقِ فَسَألُوا تَعْجِيلَ الضُّرِّ في قَوْلِهِمُ ﴿اللَّهُمَّ إنْ كانَ هَذا هو الحَقَّ مِن عِنْدِكَ فَأمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أوِ ائْتِنا بِعَذابٍ ألِيمٍ﴾ [الأنفال: ٣٢]، وهَذِهِ الجُمْلَةُ تَكْرِيرٌ لِنَظِيرَتِها السّابِقَةِ ﴿ويَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ إنَّما أنْتَ مُنْذِرٌ﴾ [الرعد: ٧] . فَأُعِيدَتْ تِلْكَ الجُمْلَةُ إعادَةَ الخَطِيبِ كَلِمَةً مِن خُطْبَتِهِ لِيَأْتِيَ بِما بَقِيَ عَلَيْهِ في ذَلِكَ الغَرَضِ بَعْدَ أنْ يَفْصِلَ بِما اقْتَضى المَقامُ الفَصْلَ بِهِ ثُمَّ يَتَفَرَّغُ إلى ما تَرَكَهُ مِن قَبْلُ، فَإنَّهُ بَعْدَ أنْ بَيَّنَتِ الآياتُ السّابِقَةُ أنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أنْ يُعَجِّلَ لَهُمُ العَذابَ ولَكِنَّ حِكْمَتَهُ اقْتَضَتْ عَدَمَ التَّنازُلِ لِيَتَحَدّى عَبِيدَهُ فَتَبَيَّنَ ذَلِكَ كُلُّهُ كَمالَ التَّبْيِينِ. وكُلُّ ذَلِكَ لاحِقٌ بِقَوْلِهِ ﴿وإنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهم أإذا كُنّا تُرابًا أإنّا لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [الرعد: ٥]، وعَوْدٌ إلى المُهِمِّ مِن غَرَضِ التَّنْوِيهِ بِآيَةِ القُرْآنِ ودَلالَتِهِ عَلى صِدْقِ الرَّسُولِ ﷺ، ولِهَذا أُطِيلَ الكَلامُ عَلى هَدْيِ القُرْآنِ عَقِبَ هَذِهِ الجُمْلَةِ.
(p-١٣٦)ولِذَلِكَ تَعَيَّنَ أنَّ مَوْقِعَ جُمْلَةِ ﴿إنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَهْدِي إلَيْهِ مَن أنابَ﴾ مَوْقِعَ الخَبَرِ المُسْتَعْمَلِ في تَعْجِيبِ الرَّسُولِ ﷺ مِن شِدَّةِ ضَلالِهِمْ بِحَيْثُ يُوقِنُ مَن شاهَدَ حالَهم أنَّ الضَّلالَ والِاهْتِداءَ بِيَدِ اللَّهِ وأنَّهم لَوْلا أنَّهم جُبِلُوا مِن خِلْقَةِ عُقُولِهِمْ عَلى اتِّباعِ الضَّلالِ لَكانُوا مُهْتَدِينَ؛ لِأنَّ أسْبابَ الهِدايَةِ واضِحَةٌ.
وتَحْتَ هَذا التَّعْجِيبِ مَعانٍ أُخْرى:
أحَدُهُما: أنَّ آياتِ صِدْقِ النَّبِيءِ ﷺ واضِحَةٌ لَوْلا أنَّ عُقُولَهم لَمْ تُدْرِكْها لِفَسادِ إدْراكِهِمْ.
الثّانِي: أنَّ الآياتِ الواضِحَةَ الحِسِّيَّةَ قَدْ جاءَتْ لِأُمَمٍ أُخْرى فَرَأوْها ولَمْ يُؤْمِنُوا. كَما قالَ تَعالى ﴿وما مَنَعَنا أنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إلّا أنْ كَذَّبَ بِها الأوَّلُونَ وآتَيْنا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها﴾ [الإسراء: ٥٩] .
الثّالِثُ: أنَّ لِعَدَمِ إيمانِهِمْ أسْبابًا خَفِيَّةً يَعْلَمُها اللَّهُ قَدْ أُبْهِمَتْ بِالتَّعْلِيقِ عَلى المَشِيئَةِ في قَوْلِهِ ﴿يُضِلُّ مَن يَشاءُ﴾ مِنها ما يُومِئُ إلَيْهِ قَوْلُهُ في مُقابَلَةِ ﴿ويَهْدِي إلَيْهِ مَن أنابَ﴾ وذَلِكَ أنَّهم تَكَبَّرُوا وأعْرَضُوا حِينَ سَمِعُوا الدَّعْوَةَ إلى التَّوْحِيدِ فَلَمْ يَتَأمَّلُوا، وقَدْ أُلْقِيَتْ إلَيْهِمُ الأدِلَّةُ القاطِعَةُ فَأعْرَضُوا عَنْها ولَوْ أنابُوا وأذْعَنُوا لَهَداهُمُ اللَّهُ ولَكِنَّهم نَفَرُوا. وبِهَذا يَظْهَرُ مَوْقِعُ ما أُمِرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يُجِيبَ بِهِ عَنْ قَوْلِهِمْ ﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ﴾ بِأنْ يَقُولَ ﴿إنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَهْدِي إلَيْهِ مَن أنابَ﴾ وأنَّ ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِأنَّهم مِمَّنْ شاءَ اللَّهُ أنْ يَكُونُوا ضالِّينَ وبِأنَّ حالَهم مَثارُ تَعْجَبٍ.
والإنابَةُ: حَقِيقَتُها الرُّجُوعُ. وأُطْلِقَتْ هُنا عَلى الِاعْتِرافِ بِالحَقِّ عِنْدَ ظُهُورِ دَلائِلِهِ؛ لِأنَّ النَّفْسَ تَنْفِرُ مِنَ الحَقِّ ابْتِداءً ثُمَّ تَرْجِعُ إلَيْهِ، فالإنابَةُ هُنا ضِدُّ النُّفُورِ.
{"ayah":"وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَوۡلَاۤ أُنزِلَ عَلَیۡهِ ءَایَةࣱ مِّن رَّبِّهِۦۚ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ یُضِلُّ مَن یَشَاۤءُ وَیَهۡدِیۤ إِلَیۡهِ مَنۡ أَنَابَ"}