﴿لَهُ دَعْوَةُ الحَقِّ والَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهم بِشَيْءٍ إلّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إلى الماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وما هو بِبالِغِهِ وما دُعاءُ الكافِرِينَ إلّا في ضَلالٍ﴾ اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ بِمَنزِلَةِ النَّتِيجَةِ ونُهُوضِ المُدَلَّلِ عَلَيْهِ بِالآياتِ السّالِفَةِ الَّتِي هي بَراهِينُ الِانْفِرادِ بِالخَلْقِ الأوَّلِ، ثُمَّ الخَلْقِ الثّانِي، وبِالقُدْرَةِ التّامَّةِ الَّتِي لا تُدانِيها قُدْرَةُ قَدِيرٍ، وبِالعِلْمِ العامِّ، فَلا جَرَمَ أنْ يَكُونَ صاحِبُ تِلْكَ الصِّفاتِ هو المَعْبُودَ بِالحَقِّ وأنَّ عِبادَةَ غَيْرِهِ ضَلالٌ.
والدَّعْوَةُ: طَلَبُ الإقْبالِ، وكَثُرَ إطْلاقُها عَلى طَلَبِ الإقْبالِ لِلنَّجْدَةِ أوْ لِلْبَذْلِ وذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ فِيها إذا أُطْلِقَتْ في جانِبِ اللَّهِ لِاسْتِحالَةِ الإقْبالِ الحَقِيقِيِّ، فالمُرادُ طَلَبُ الإغاثَةِ أوِ النِّعْمَةِ.
(p-١٠٨)وإضافَةُ الدَّعْوَةِ إلى الحَقِّ إمّا مِن إضافَةِ المَوْصُوفِ إلى الصِّفَةِ إنْ كانَ الحَقُّ بِمَعْنى مُصادَفَةِ الواقِعِ، أيِ الدَّعْوَةُ الَّتِي تُصادِفُ الواقِعَ، أيِ اسْتِحْقاقُهُ إيّاها، وإمّا مِن إضافَةِ الشَّيْءِ إلى مَنشَئِهِ كَقَوْلِهِمْ: بُرُودُ اليَمَنِ، أيِ الدَّعْوَةُ الصّادِرَةُ عَنْ حَقٍّ وهو ضِدُّ الباطِلِ، فَإنَّ دُعاءَ اللَّهِ يَصْدُرُ عَنِ اعْتِقادِ الوَحْدانِيَّةِ وهو الحَقُّ، وعِبادَةَ الأصْنامِ تَصْدُرُ عَنِ اعْتِقادِ الشِّرْكِ وهو الباطِلُ.
واللّامُ لِلْمِلْكِ المَجازِيِّ وهو الِاسْتِحْقاقُ. وتَقْدِيمُ الجارِّ والمَجْرُورِ عَلى المُبْتَدَأِ لِإفادَةِ التَّخْصِيصِ، أيْ دَعْوَةُ الحَقِّ مِلْكُهُ لا مِلْكُ غَيْرِهِ، وهو قَصْرٌ إضافِيٌّ.
وقَدْ صَرَّحَ بِمَفْهُومِ جُمْلَةِ القَصْرِ بِجُمْلَةِ ﴿والَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهم بِشَيْءٍ﴾، فَكانَتْ بَيانًا لَها. وكانَ مُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ تُفْصَلَ ولا تُعْطَفَ وإنَّما عُطِفَتْ لِما فِيها مِنَ التَّفْضِيلِ والتَّمْثِيلِ، فَكانَتْ زائِدَةً عَلى مِقْدارِ البَيانِ. والمَقْصُودُ بَيانُ عَدَمِ اسْتِحْقاقِ الأصْنامِ أنْ يَدْعُوَها الدّاعُونَ. واسْمُ المَوْصُولِ صادِقٌ عَلى الأصْنامِ. وضَمِيرُ (يَدْعُونَ) لِلْمُشْرِكِينَ. ورابَطُ الصِّلَةِ ضَمِيرُ نَصْبٍ مَحْذُوفٌ. والتَّقْدِيرُ: والَّذِينَ يَدْعُونَهم مِن دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهم.
وأُجْرِيَ عَلى الأصْنامِ ضَمِيرُ العُقَلاءِ في قَوْلِهِ (لا يَسْتَجِيبُونَ) مُجاراةً لِلِاسْتِعْمالِ الشّائِعِ في كَلامِ العَرَبِ لِأنَّهم يُعامِلُونَ الأصْنامَ مُعامَلَةَ عاقِلِينَ.
والِاسْتِجابَةُ: إجابَةُ نِداءِ المُنادِي ودَعْوَةِ الدّاعِي، فالسِّينُ والتّاءُ لِقُوَّةِ الفِعْلِ.
والباءُ في (بِشَيْءٍ) لِتَعْدِيَةِ (يَسْتَجِيبُونَ)؛ لِأنَّ فِعْلَ الإجابَةِ يَتَعَدّى إلى الشَّيْءِ المُجابِ بِهِ بِالباءِ. وإذا أُرِيدَ مِنَ الِاسْتِجابَةِ تَحْقِيقُ المَأْمُولِ اقْتُصِرَ عَلى الفِعْلِ، كَقَوْلِهِ (﴿فاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ﴾ [يوسف: ٣٤]) .
فَلَمّا أُرِيدَ هُنا نَفِيُ إجْداءِ دُعائِهِمُ الأصْنامَ جُعِلَ نَفْيُ الإجابَةِ مُتَعَدِّيًا بِالباءِ إلى انْتِفاءِ أقَلِّ ما يُجِيبُ بِهِ المَسْئُولُ وهو الوَعْدُ بِالعَطاءِ أوِ الِاعْتِذارُ عَنْهُ، فَهم عاجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ وهم أعْجَزُ عَمّا فَوْقَهُ.
(p-١٠٩)وتَنْكِيرُ شَيْءٍ لِلتَّحْقِيرِ. والمُرادُ أقَلُّ ما يُجابُ بِهِ مِنَ الكَلامِ.
والِاسْتِثْناءُ في (﴿إلّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ﴾) مِن عُمُومِ أحْوالِ الدّاعِينَ والمُسْتَجِيبِينَ والدَّعْوَةِ والِاسْتِجابَةِ، لِأنَّهُ تَشْبِيهُ هَيْئَةٍ فَهو يَسْرِي إلى جَمِيعِ أجْزائِها فَلَكَ أنْ تُقَدِّرَ الكَلامَ إلّا كَداعٍ باسِطٍ، أوْ إلّا كَحالِ باسِطٍ. والمَعْنى: لا يَسْتَجِيبُونَهم في حالٍ مِن أحْوالِ الدُّعاءِ والِاسْتِجابَةِ إلّا في حالٍ لِداعٍ ومُسْتَجِيبٍ كَحالِ باسِطِ كَفَّيْهِ إلى الماءِ. وهَذا الِاسْتِثْناءُ مِن تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِما يُشْبِهُ ضِدَّهُ فَيَؤُولُ إلى نَفْيِ الِاسْتِجابَةِ في سائِرِ الأحْوالِ بِطَرِيقِ التَّمْلِيحِ والكِنايَةِ.
والمُرادُ بِـ (باسِطِ كَفَّيْهِ) مَن يَغْتَرِفُ ماءً بِكَفَّيْنِ مَبْسُوطَتَيْنِ غَيْرِ مَقْبُوضَتَيْنِ إذِ الماءُ لا يَسْتَقِرُّ فِيهِما. وهَذا كَما يُقالُ: هو كالقابِضِ عَلى الماءِ، في تَمْثِيلِ إضاعَةِ المَطْلُوبِ. وأنْشَدَ أبُو عُبَيْدَةَ:
فَأصْبَحْتُ فِيما كانَ بَيْنِي وبَيْنَها مِنَ الوُدِّ مِثْلَ القابِضِ الماءَ بِاليَدِ و(إلى) لِلِانْتِهاءِ لِدَلالَةِ (باسِطِ) عَلى أنَّهُ مَدَّ إلى الماءِ كَفَّيْهِ المَبْسُوطَتَيْنِ، واللّامُ في (لِيَبْلُغَ) عائِدٌ إلى الماءِ وكَذَلِكَ ضَمِيرُ (هو) والضَّمِيرُ المُضافُ إلَيْهِ في (بالِغِهِ) لِلْفَمِ.
والكَلامُ تَمْثِيلِيَّةٌ. شُبِّهَ حالُ المُشْرِكِينَ في دُعائِهِمُ الأصْنامَ وجَلْبِ نَفْعِهِمْ وعَدَمِ اسْتِجابَةِ الأصْنامِ لَهم بِشَيْءٍ بِحالِ الظَّمْآنِ يَبْسُطُ كَفَّيْهِ يَبْتَغِي أنْ يَرْتَفِعَ الماءُ في كَفَّيْهِ المَبْسُوطَتَيْنِ إلى فَمِهِ لِيَرْوِيَهُ وما هو بِبالِغٍ إلى فَمِهِ بِذَلِكَ الطَّلَبِ فَيَذْهَبُ سَعْيُهُ وتَعَبُهُ باطِلًا مَعَ ما فِيهِ مِن كِنايَةٍ وتَمْلِيحٍ كَما ذَكَرْناهُ.
وجُمْلَةُ (﴿وما دُعاءُ الكافِرِينَ إلّا في ضَلالٍ﴾) عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ (﴿والَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ﴾) لِاسْتِيعابِ حالِ المَدْعُوِّ وحالِ الدّاعِي. فَبَيَّنَتِ الجُمْلَةُ السّابِقَةُ حالَ عَجْزِ المَدْعُوِّ عَنِ الإجابَةِ وأُعْقِبَتْ بِالتَّمْثِيلِ المُشْتَمِلِ عَلى كِنايَةٍ وتَمْلِيحٍ. واشْتَمَلَ ذَلِكَ أيْضًا بِالكِنايَةِ عَلى خَيْبَةِ الدّاعِي.
(p-١١٠)وبَيَّنَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ الثّانِيَةُ حالَ خَيْبَةِ الدّاعِي بِالتَّصْرِيحِ عَقِبَ تَبْيِينِهِ بِالكِنايَةِ. فَبِاخْتِلافِ الغَرَضِ والأُسْلُوبِ حَسُنَ العَطْفُ، وبِالمَآلِ حَصَلَ تَوْكِيدُ الجُمْلَةِ الأُولى وتَقْرِيرُها وكانَتِ الثّانِيَةُ كالفَذْلَكَةِ لِتَفْصِيلِ الجُمْلَةِ الأُولى.
والضَّلالُ: التَّلَفُ والضَّياعُ. و(في) لِلظَّرْفِيَّةِ المَجازِيَّةِ لِلدَّلالَةِ عَلى التَّمَكُّنِ في الوَصْفِ، أيْ إلّا ضائِعٌ ضَياعًا شَدِيدًا.
{"ayah":"لَهُۥ دَعۡوَةُ ٱلۡحَقِّۚ وَٱلَّذِینَ یَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ لَا یَسۡتَجِیبُونَ لَهُم بِشَیۡءٍ إِلَّا كَبَـٰسِطِ كَفَّیۡهِ إِلَى ٱلۡمَاۤءِ لِیَبۡلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَـٰلِغِهِۦۚ وَمَا دُعَاۤءُ ٱلۡكَـٰفِرِینَ إِلَّا فِی ضَلَـٰلࣲ"}