الباحث القرآني
﴿وجاءُوا أباهم عِشاءً يَبْكُونَ﴾ ﴿قالُوا يا أبانا إنّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأكَلَهُ الذِّئْبُ وما أنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا ولَوْ كُنّا صادِقِينَ﴾ ﴿وجاءُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ [يوسف: ١٨]
عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿فَلَمّا ذَهَبُوا بِهِ﴾ [يوسف: ١٥] عَطْفُ جُزْءِ القِصَّةِ.
(p-٢٣٦)والعِشاءُ: وقْتُ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ الباقِي مِن بَقايا شُعاعِ الشَّمْسِ بَعْدَ غُرُوبِها.
والبُكاءُ: خُرُوجُ الدُّمُوعِ مِنَ العَيْنَيْنِ عِنْدَ الحُزْنِ والأسَفِ والقَهْرِ. وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا ولْيَبْكُوا كَثِيرًا﴾ [التوبة: ٨٢] . وقَدْ أُطْلِقَ هُنا عَلى البُكاءِ المُصْطَنَعِ وهو التَّباكِي. وإنَّما اصْطَنَعُوا البُكاءَ تَمْوِيهًا عَلى أبِيهِمْ لِئَلّا يَظُنُّ بِهِمْ أنَّهُمُ اغْتالُوا يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -، ولَعَلَّهم كانَتْ لَهم مَقْدِرَةٌ عَلى البُكاءِ مَعَ عَدَمِ وِجْدانِ مُوجِبِهِ، وفي النّاسِ عَجائِبُ مِنَ التَّمْوِيهِ والكَيْدِ. ومِنَ النّاسِ مَن تَتَأثَّرُ أعْصابُهم بِتَخَيُّلِ الشَّيْءِ ومُحاكاتِهِ فَيَعْتَرِيهِمْ ما يَعْتَرِي النّاسَ بِالحَقِيقَةِ.
وبَعْضُ المُتَظَلِّمِينَ بِالباطِلِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وفِطْنَةُ الحاكِمِ لا تَنْخَدِعُ لِمِثْلِ هَذِهِ الحِيَلِ ولا تَنُوطُ بِها حُكْمًا، وإنَّما يُناطُ الحُكْمُ بِالبَيِّنَةِ.
جاءَتِ امْرَأةٌ إلى شُرَيْحٍ تُخاصِمُ في شَيْءٍ وكانَتْ مُبْطِلَةً فَجَعَلَتْ تَبْكِي، وأظْهَرَ شُرَيْحٌ عَدَمَ الِاطْمِئْنانِ لِدَعْواها، فَقِيلَ لَهُ: أما تَراها تَبْكِي ؟ فَقالَ: قَدْ جاءَ إخْوَةُ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أباهم عِشاءً يَبْكُونَ وهم ظَلَمَةٌ كَذَبَةٌ. لا يَنْبَغِي لِأحَدٍ أنْ يَقْضِيَ إلّا بِالحَقِّ. قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: قالَ عُلَماؤُنا: هَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ بُكاءَ المَرْءِ لا يَدُلُّ عَلى صِدْقِ مَقالِهِ لِاحْتِمالِ أنْ يَكُونَ تَصَنُّعًا. ومِنَ الخَلْقِ مَن لا يَقْدِرُ عَلى ذَلِكَ ومِنهم مَن يَقْدِرُ.
قُلْتُ: ومِنَ الأمْثالِ (دُمُوعُ الفاجِرِ بِيَدَيْهِ) وهَذِهِ عِبْرَةٌ في هَذِهِ العِبْرَةِ.
والِاسْتِباقُ: افْتِعالٌ مِنَ السَّبْقِ وهو هُنا بِمَعْنى التَّسابُقِ قالَ في الكَشّافِ: والِافْتِعالُ والتَّفاعُلُ يَشْتَرِكانِ كالِانْتِضالِ والتَّناضُلِ، والِارْتِماءِ والتَّرامِي، أيْ فَهو بِمَعْنى المُفاعَلَةِ. ولِذَلِكَ يُقالُ: السِّباقُ أيْضًا. كَما يُقالُ النِّضالُ والرِّماءُ.
والمُرادُ: الِاسْتِباقُ بِالجَرْيِ عَلى الأرْجُلِ، وذَلِكَ مِن مَرَحِ الشَّبابِ ولَعِبِهِمْ.
والمَتاعُ: ما يُتَمَتَّعُ أيْ يُنْتَفَعُ بِهِ. وتَقَدَّمَ في قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أسْلِحَتِكم وأمْتِعَتِكُمْ﴾ [النساء: ١٠٢] في سُورَةِ النِّساءِ. والمُرادُ بِهِ هُنا ثَقَلُهم مِنَ الثِّيابِ والآنِيَةِ والزّادِ.
(p-٢٣٧)ومَعْنى ﴿فَأكَلَهُ الذِّئْبُ﴾ قَتَلَهُ وأكَلَ مِنهُ، وفِعْلُ الأكْلِ يَتَعَلَّقُ بِاسْمِ الشَّيْءِ. والمُرادُ بَعْضُهُ. يُقالُ: أكَلَهُ الأسَدُ إذا أكَلَ مِنهُ. قالَ - تَعالى: ﴿وما أكَلَ السَّبُعُ﴾ [المائدة: ٣] عَطْفًا عَلى المَنهِيّاتِ عَنْ أنْ يُؤْكَلَ مِنها، أيْ بِقَتْلِها.
ومِن كَلامِ عُمَرَ حِينَ طَعَنَهُ أبُو لُؤْلُؤَةَ ”أكَلَنِي الكَلْبُ“، أيْ عَضَّنِي.
والمُرادُ بِالذِّئْبِ جَمْعٌ مِنَ الذِّئابِ عَلى ما عَرَفْتَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿وأخافُ أنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ﴾ [يوسف: ١٣]؛ بِحَيْثُ لَمْ يَتْرُكِ الذِّئابُ مِنهُ، ولِذَلِكَ لَمْ يَقُولُوا فَدَفَنّاهُ.
وقَوْلُهُ: ﴿وما أنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا﴾ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ في لازِمِ الفائِدَةِ. وهو أنَّ المُتَكَلِّمَ عَلِمَ بِمَضْمُونِ الخَبَرِ. وهو تَعْرِيضٌ بِأنَّهم صادِقُونَ فِيما ادَّعَوْهُ لِأنَّهم يَعْلَمُونَ أباهم لا يُصَدِّقُهم فِيهِ، فَلَمْ يَكُونُوا طامِعِينَ بِتَصْدِيقِهِ إيّاهم.
وفِعْلُ الإيمانِ يُعَدّى بِاللّامِ إلى المُصَدَّقِ بِفَتْحِ الدّالِ كَقَوْلِهِ - تَعالى: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ [العنكبوت: ٢٦] . وتَقَدَمَ بَيانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿فَما آمَنَ لِمُوسى إلّا ذُرِّيَّةٌ مِن قَوْمِهِ﴾ [يونس: ٨٣] في سُورَةِ يُونُسَ.
وجُمْلَةُ ﴿ولَوْ كُنّا صادِقِينَ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ فالواوُ واوُ الحالِ. (ولَوِ) اتِّصالِيَّةٌ، وهي تُفِيدُ أنَّ مَضْمُونَ ما بَعْدَها هو أبْعَدُ الأحْوالِ عَنْ تَحَقُّقِ مَضْمُونِ ما قَبْلَها في ذَلِكَ الحالِ. والتَّقْدِيرُ: وما أنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا ولَوْ كُنّا صادِقِينَ في نَفْسِ الأمْرِ، أيْ نَحْنُ نَعْلَمُ انْتِفاءَ إيمانِكَ لَنا في الحالَيْنِ فَلا نَطْمَعُ أنَّ نُمَوِّهَ عَلَيْكَ.
ولَيْسَ يَلْزَمُ تَقْدِيرُ شَرْطٍ مَحْذُوفٍ هو ضِدُّ الشَّرْطِ المَنطُوقِ بِهِ لِأنَّ ذَلِكَ تَقْدِيرٌ لِمُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ عَلى جَعْلِ الواوِ لِلْحالِ مَعَ ”لَوْ وإنْ“ الوَصْلِيَّتَيْنِ ولَيْسَ يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ التَّقْدِيرُ في كُلِّ مَوْضِعٍ، ألا تَرى قَوْلَ المَعَرِّي:
؎وإنِّي وإنْ كُنْتُ الأخِيرَ زَمانُهُ لَآتٍ بِما لَمْ تَسْتَطِعْهُ الأوائِلُ
كَيْفَ لا يَسْتَقِيمُ تَقْدِيرُ إنِّي إنْ كُنْتُ المُتَقَدِّمَ زَمانُهُ بَلْ وإنْ كُنْتُ الأخِيرَ زَمانُهُ، فَشَرْطُ (لَوِ) الوَصْلِيَّةُ و(إنْ) الوَصْلِيَّةُ لَيْسَ لَهُما مَفْهُومُ مُخالَفَةٍ؛ (p-٢٣٨)لِأنَّ الشَّرْطَ مَعَهُما لَيْسَ لِلتَّقْيِيدِ. وتَقَدَّمَ ذِكْرُ (لَوِ) الوَصْلِيَّةِ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿أوَلَوْ كانَ آباؤُهم لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا ولا يَهْتَدُونَ﴾ [البقرة: ١٧٠] في سُورَةِ البَقَرَةِ، وعِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿فَلَنْ يُقْبَلَ مِن أحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا﴾ [آل عمران: ٩١] في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.
وجُمْلَةُ ﴿وجاءُوا عَلى قَمِيصِهِ﴾ [يوسف: ١٨] في مَوْضِعِ الحالِ. ولَمّا كانَ الدَّمُ مُلَطَّخًا بِهِ القَمِيصُ وكانُوا قَدْ جاءُوا مُصاحِبِينَ لِلْقَمِيصِ فَقَدْ جاءُوا بِالدَّمِ عَلى القَمِيصِ.
ووَصَفُ الدَّمِ بِالكَذِبِ وصْفٌ بِالمَصْدَرِ، والمَصْدَرُ هُنا بِمَعْنى المَفْعُولِ كالخَلْقِ بِمَعْنى المَخْلُوقِ، أيْ مَكْذُوبٍ كَوْنُهُ دَمَ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - إذْ هو دَمُ جَدْيٍ، فَهو دَمٌ حَقًّا لَكِنَّهُ لَيْسَ الدَّمُ المَزْعُومُ. ولا شَكَّ في أنَّهم لَمْ يَتْرُكُوا كَيْفِيَّةً مِن كَيْفِيّاتِ تَمْوِيهِ الدَّمِ وحالَةِ القَمِيصِ بِحالِ قَمِيصِ مَن يَأْكُلُهُ الذِّئْبُ مِن آثارِ تَخْرِيقٍ وتَمْزِيقٍ مِمّا لا تَخْلُو عَنْهُ حالَةُ افْتِراسِ الذِّئْبِ، وأنَّهم أفْطَنُ مِن أنْ يَفُوتَهم ذَلِكَ وهم عُصْبَةٌ لا يَعْزُبُ عَنْ مَجْمُوعِهِمْ مِثْلُ ذَلِكَ. فَما قالَهُ بَعْضُ أصْحابِ التَّفْسِيرِ مِن أنَّ يَعْقُوبَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - قالَ لِأبْنائِهِ: ما رَأيْتُ كاليَوْمِ ذِئْبًا أحْلَمُ مِن هَذا، أكَلَ ابْنِي ولَمْ يُمَزِّقْ قَمِيصَهُ، فَذَلِكَ مِن تَظَرُّفاتِ القَصَصِ.
وقَوْلُهُ: ﴿عَلى قَمِيصِهِ﴾ [يوسف: ١٨] حالٌ مِن (دَمٍ) فَقُدِّمَ عَلى صاحِبِ الحالِ.
{"ayahs_start":16,"ayahs":["وَجَاۤءُوۤ أَبَاهُمۡ عِشَاۤءࣰ یَبۡكُونَ","قَالُوا۟ یَـٰۤأَبَانَاۤ إِنَّا ذَهَبۡنَا نَسۡتَبِقُ وَتَرَكۡنَا یُوسُفَ عِندَ مَتَـٰعِنَا فَأَكَلَهُ ٱلذِّئۡبُۖ وَمَاۤ أَنتَ بِمُؤۡمِنࣲ لَّنَا وَلَوۡ كُنَّا صَـٰدِقِینَ"],"ayah":"وَجَاۤءُوۤ أَبَاهُمۡ عِشَاۤءࣰ یَبۡكُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق