الباحث القرآني
(p-٧)﴿وهو الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ لِيَبْلُوَكم أيُّكم أحْسَنُ عَمَلًا﴾
عَطْفٌ عَلى جُمْلَةِ ﴿وما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ إلّا عَلى اللَّهِ رِزْقُها﴾ [هود: ٦] . والمُناسَبَةُ أنَّ خَلْقَ السَّماواتِ والأرْضَ مِن أكْبَرِ مَظاهِرِ عِلْمِ اللَّهِ وتَعَلُّقاتِ قُدْرَتِهِ وإتْقانِ الصُّنْعِ، فالمَقْصُودُ مِن هَذا الخَبَرِ لازَمُهُ وهو الِاعْتِبارُ بِسِعَةِ عِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ في نَظِيرِها في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ [الأعراف: ٥٤] في سُورَةِ الأعْرافِ.
وجُمْلَةُ ﴿وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ حالًا وأنْ تَكُونَ اعْتِراضًا بَيْنَ فِعْلِ خَلَقَ ولامِ التَّعْلِيلِ. وأمّا كَوْنُها مَعْطُوفَةً عَلى جُمْلَةِ ﴿وما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ إلّا عَلى اللَّهِ رِزْقُها﴾ [هود: ٦] المَسُوقَةِ مَساقَ الدَّلِيلِ عَلى سَعَةِ عِلْمِ اللَّهِ وقُدْرَتِهِ فَغَيْرُ رَشِيقٍ لِأنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الجُمْلَةِ لَيْسَ مَحْسُوسًا ولا مُتَقَرِّرًا لَدى المُشْرِكِينَ إذْ هو مِنَ المُغَيَّباتِ وبَعْضُهُ طَرَأ عَلَيْهِ تَغْيِيرٌ بِخَلْقِ السَّماواتِ فَلا يَحْسُنُ جَعْلُهُ حُجَّةً عَلى المُشْرِكِينَ لِإثْباتِ سَعَةِ عِلْمِ اللَّهِ وقَدْرَتِهِ المَأْخُوذِ مِن جُمْلَةِ وما مِن دابَّةٍ في الأرْضِ إلَخْ. والمَعْنى أنَّ العَرْشَ كانَ مَخْلُوقًا قَبْلَ السَّماواتِ وكانَ مُحِيطًا بِالماءِ أوْ حاوِيًا لِلْماءِ. وحَمْلُ العَرْشِ عَلى أنَّهُ ذاتٌ مَخْلُوقَةٌ فَوْقَ السَّماواتِ هو ظاهِرُ الآيَةِ. وذَلِكَ يَقْتَضِي أنَّ العَرْشَ مَخْلُوقٌ قَبْلَ ذَلِكَ وأنَّ الماءَ مَخْلُوقٌ قَبْلَ السَّماواتِ والأرْضِ. وتَفْصِيلُ ذَلِكَ وكَيْفِيَّتُهُ وكَيْفِيَّةُ الِاسْتِعْلاءِ مِمّا لا قِبَلَ لِلْأفْهامِ بِهِ إذِ التَّعْبِيرُ عَنْهُ تَقْرِيبٌ.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ العَرْشِ مُلْكَ اللَّهِ وحُكْمَهُ تَمْثِيلًا بِعَرْشِ السُّلْطانِ، أيْ كانَ مُلْكُ اللَّهِ قَبْلَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ مُلْكًا عَلى الماءِ.
وقَوْلُهُ: لِيَبْلُوَكم مُتَعَلِّقٌ بِـ خَلَقَ واللّامُ لِلتَّعْلِيلِ. والبَلْوُ: الِابْتِلاءُ، أيِ اخْتِبارُ شَيْءٍ لِتَحْصِيلِ عِلْمٍ بِأحْوالِهِ، وهو مُسْتَعْمَلٌ كِنايَةً عَنْ ظُهُورِ آثارٍ خَلْقِهِ (p-٨)- تَعالى - لِلْمَخْلُوقاتِ؛ لِأنَّ حَقِيقَةَ البَلْوِ مُسْتَحِيلَةٌ عَلى اللَّهِ لِأنَّهُ العَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَلا يَحْتاجُ إلى اخْتِبارِهِ عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ: ﴿إلّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ﴾ [البقرة: ١٤٣] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
وجَعْلُ البَلْوِ عِلَّةً لِخَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ لِكَوْنِهِ مِن حِكْمَةِ خَلْقِ الأرْضِ بِاعْتِبارِ كَوْنِ الأرْضِ مِن مَجْمُوعِ هَذا الخَلْقِ، ثُمَّ إنَّ خَلْقَ الأرْضِ يَسْتَتْبِعُ خَلْقَ ما جُعِلَتِ الأرْضُ عامِرَةً بِهِ، واخْتِلافُ أعْمالِ المُخاطَبِينَ مِن جُمْلَةِ الأحْوالِ الَّتِي اقْتَضاها الخَلْقُ فَكانَتْ مِن حِكْمَةِ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ، وكانَ التَّعْلِيلُ هُنا بِمَراتِبَ كَثِيرَةٍ، وعِلَّةُ العِلَّةِ عِلَّةٌ.
وأيِّكم: اسْمُ اسْتِفْهامٍ، فَهو مُبْتَدَأٌ، وجُمْلَةُ المُبْتَدَأِ والخَبَرِ سادَّةٌ مَسَدَّ الحالِ اللّازِمِ ذِكْرُها بَعْدَ ضَمِيرِ الخِطابِ في يَبْلُوَكم، نَظَرًا إلى أنَّ الِابْتِلاءَ لا يَتَعَلَّقُ بِالذَّواتِ، فَتَعْدِيَةُ فِعْلِ يَبْلُوَ إلى ضَمِيرِ الذَّواتِ لَيْسَ فِيهِ تَمامُ الفائِدَةِ فَكانَ مُحْتاجًا إلى ذِكْرِ حالِ تَقَيُّدِ مُتَعَلِّقِ الِابْتِلاءِ، وهَذا ضَرْبٌ مِنَ التَّعْلِيقِ ولَيْسَ عَيْنُهُ.
وفِي الآيَةِ إشارَةٌ إلى أنَّ مِن حِكْمَةِ خَلْقِ الأرْضِ صُدُورُ الأعْمالِ الفاضِلَةِ مِن شَرَفِ المَخْلُوقاتِ فِيها. ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي الجَزاءَ عَلى الأعْمالِ إكْمالًا لِمُقْتَضى الحِكْمَةِ ولِذَلِكَ أُعْقِبَتْ بِقَوْلِهِ: ولَئِنْ قُلْتَ إنَّكم مَبْعُوثُونَ إلَخْ.
* * *
﴿ولَئِنْ قُلْتَ إنَّكم مَبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ المَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذا إلّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾
يَظْهَرُ أنَّ الواوَ واوُ الحالِ والجُمْلَةَ حالٌ مِن فاعِلِ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِاعْتِبارِ ما تَعَلَّقَ بِالفِعْلِ مِن قَوْلِهِ في سِتَّةِ أيّامٍ، وقَوْلِهِ: لِيَبْلُوَكم، والتَّقْدِيرُ: فَعَلَ ذَلِكَ الخَلْقَ العَجِيبَ والحالُ أنَّهم يُنْكِرُونَ ما هو دُونَ ذَلِكَ وهو إعادَةُ خَلْقِ النّاسِ. ويَجْهَلُونَ أنَّهُ لَوْلا الجَزاءُ لَكانَ هَذا الخَلْقُ عَبَثًا كَما قالَ - تَعالى: (p-٩)﴿وما خَلَقْنا السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما لاعِبِينَ﴾ [الدخان: ٣٨] . فَإنْ حُمِلَ الخَبَرُ في قَوْلِهِ: ﴿وهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ عَلى ظاهِرِ الإخْبارِ كانَتِ الحالُ مَقَدَّرَةً مِن فاعِلِ خَلَقَ أيْ خَلَقَ ذَلِكَ مُقَدِّرًا أنَّكم تُنْكِرُونَ عَظِيمَ قُدْرَتِهِ، وإنْ حُمِلَ الخَبَرُ عَلى أنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ في التَّنْبِيهِ والِاعْتِبارِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ كانَتِ الحالُ مُقارِنَةً.
وُوَجْهُ جَعْلِها جُمْلَةً شَرْطِيَّةً إفادَةُ تَجَدُّدِ التَّكْذِيبِ عِنْدَ كُلِّ إخْبارٍ بِالبَعْثِ، واللّامُ مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ، وجَوابُ القَسَمِ لِيَقُولُنَّ إلَخْ، فاللّامُ فِيهِ لامُ جَوابِ القَسَمِ. وجَوابُ إنَّ مَحْذُوفٌ أغْنى عَنْهُ جَوابُ القَسَمِ كَما هو الشَّأْنُ عِنْدَ اجْتِماعِ شَرْطٍ وقَسَمٍ أنْ يُحْذَفَ جَوابُ المُتَأخِّرِ مِنهُما.
وتَأْكِيدُ الجُمْلَةِ بِاللّامِ المُوَطِّئَةِ لِلْقَسَمِ وما يَتْبَعُهُ مِن نُونِ التَّوْكِيدِ لِتَنْزِيلِ السّامِعِ مَنزِلَةَ المُتَرَدِّدِ في صُدُورِ هَذا القَوْلِ مِنهم لِغَرابَةِ صُدُورِهِ مِنَ العاقِلِ، فَيَكُونُ التَّأْكِيدُ القَوِيُّ والتَّنْزِيلُ مُسْتَعْمَلًا في لازِمِ مَعْناهُ وهو التَّعْجِيبُ مِن حالِ الَّذِينَ كَفَرُوا أنْ يُحِيلُوا إعادَةَ الخَلْقِ وقَدْ شاهَدُوا آثارَ بَدْءِ الخَلْقِ وهو أعْظَمُ وأبْدَعُ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ إلّا سِحْرٌ عَلى أنَّ هَذا إشارَةٌ إلى المَدْلُولِ عَلَيْهِ بِـ قُلْتَ، ومَعْنى الإخْبارِ عَنِ القَوْلِ بِأنَّهُ سِحْرٌ أنَّهم يَزْعُمُونَ أنَّهُ كَلامٌ مِن قَبِيلِ الأقْوالِ الَّتِي يَقُولُها السَّحَرَةُ لِخَصائِصَ تُؤَثِّرُ في النُّفُوسِ.
وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ: ”إلّا ساحِرٌ“ فالإشارَةُ بِقَوْلِهِ: هَذا إلى الرَّسُولِ ﷺ المَفْهُومِ مِن ضَمِيرِ قُلْتَ أيْ أنَّهُ يَقُولُ كَلامًا يَسْحَرُنا بِذَلِكَ.
ووَجْهُ جَعْلِهِمْ هَذا القَوْلَ سِحْرًا أنَّ في مُعْتَقَداتِهِمْ وخُرافاتِهِمْ أنَّ مِن وسائِلِ السِّحْرِ الأقْوالَ المُسْتَحِيلَةَ والتَّكاذِيبَ البُهْتانِيَّةَ، والمَعْنى أنَّهم يُكَذِّبُونَ بِالبَعْثِ كُلَّما أُخْبِرُوا بِهِ لا يَتَرَدَّدُونَ في عَدَمِ إمْكانِ حُصُولِهِ بَلْهَ إيمانُهم بِهِ.
ومُبِينٌ: اسْمُ فاعِلِ أبانَ المَهْمُوزَ الَّذِي هو بِمَعْنى بانَ المُجَرَّدِ، أيْ بَيِّنٌ واضِحٌ أنَّهُ سِحْرٌ أوْ أنَّهُ ساحِرٌ.
{"ayah":"وَهُوَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ وَكَانَ عَرۡشُهُۥ عَلَى ٱلۡمَاۤءِ لِیَبۡلُوَكُمۡ أَیُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰاۗ وَلَىِٕن قُلۡتَ إِنَّكُم مَّبۡعُوثُونَ مِنۢ بَعۡدِ ٱلۡمَوۡتِ لَیَقُولَنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق