الباحث القرآني
﴿ونادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إنَّ ابْنِي مِن أهْلِي وإنَّ وعْدَكَ الحَقُّ وأنْتَ أحْكَمُ الحاكِمِينَ﴾ ﴿قالَ يا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلَنِّ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّيَ أعِظُكَ أنْ تَكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ ﴿قالَ رَبِّ إنِّيَ أعُوذُ بِكَ أنْ أسْألَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وإلّا تَغْفِرْ لِي وتَرْحَمْنِي أكُنْ مِنَ الخاسِرِينَ﴾
مَوْقِعُ الآيَةِ يَقْتَضِي أنَّ نِداءَ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - هَذا كانَ بَعْدَ اسْتِواءِ السَّفِينَةِ عَلى الجُودِيِّ نِداءً دَعاهُ إلَيْهِ داعِيَ الشَّفَقَةِ فَأرادَ بِهِ نَفْعَ ابْنِهِ في الآخِرَةِ بَعْدَ اليَأْسِ مِن نَجاتِهِ في الدُّنْيا؛ لِأنَّ اللَّهَ أعْلَمَهُ أنَّهُ لا نَجاةَ إلّا لِلَّذِينَ يَرْكَبُونَ السَّفِينَةَ، ولِأنَّ نُوحًا - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمّا دَعا ابْنَهُ إلى رُكُوبِ السَّفِينَةِ فَأبى وجَرَتِ السَّفِينَةُ قَدْ عَلِمَ أنَّهُ لا وسِيلَةَ إلى نَجاتِهِ فَكَيْفَ يَسْألُها مِنَ اللَّهِ فَتَعَيَّنَ أنَّهُ سَألَ لَهُ المَغْفِرَةَ ويَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعالى: ﴿فَلا تَسْألْنِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ كَما سَيَأْتِي.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ دُعاءُ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - هَذا وقَعَ قَبْلَ غَرَقِ النّاسِ، أيْ نادى رَبَّهُ أنْ يُنَجِّيَ ابْنَهُ مِنَ الغَرَقِ.
(p-٨٤)ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَعْدَ غَرَقِ مَن غَرِقُوا، أيْ نادى رَبَّهُ أنْ يَغْفِرَ لِابْنِهِ وأنْ لا يُعامِلَهُ مُعامَلَةَ الكافِرِينَ في الآخِرَةِ.
والنِّداءُ هَنا نِداءُ دُعاءٍ فَكَأنَّهُ قِيلَ: ودَعا نُوحٌ رَبَّهُ؛ لِأنَّ الدُّعاءَ يَصْدُرُ بِالنِّداءِ غالِبًا، والتَّعْبِيرُ عَنِ الجَلالَةِ بِوَصْفِ الرَّبِّ مُضافًا إلى نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - تَشْرِيفٌ لِنُوحٍ وإيماءٌ إلى رَأْفَةِ اللَّهِ بِهِ وأنَّ نَهْيَهُ الوارِدَ بَعْدَهُ نَهْيُ عِتابٍ.
وجُمْلَةُ ﴿فَقالَ رَبِّ إنَّ ابْنِي مِن أهْلِي﴾ بَيانٌ لِلنِّداءِ، ومُقْتَضى الظّاهِرِ أنْ لا تُعْطَفَ بِفاءِ التَّفْرِيعِ كَما لَمْ يُعْطَفِ البَيانُ في قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿إذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا﴾ [مريم: ٣] ﴿قالَ رَبِّ إنِّي وهَنَ العَظْمُ مِنِّي﴾ [مريم: ٤]، وخُولِفَ ذَلِكَ هُنا. ووَجَّهَ في الكَشّافِ اقْتِرانَهُ بِالفاءِ بِأنَّ فِعْلَ (نادى) مُسْتَعْمَلٌ في إرادَةِ النِّداءِ، أيْ مِثْلَ فِعْلِ (قُمْتُمْ) في قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ [المائدة: ٦] الآيَةَ، يُرِيدُ أنَّ ذَلِكَ إخْراجٌ لِلْكَلامِ عَلى خِلافِ مُقْتَضى الظّاهِرِ فَإنَّ وُجُودَ الفاءِ في الجُمْلَةِ الَّتِي هي بَيانٌ لِلنِّداءِ قَرِينَةٌ عَلى أنَّ فِعْلَ نادى مُسْتَعارٌ لِمَعْنى إرادَةِ النِّداءِ، أيْ أرادَ نِداءَ رَبِّهِ فَأعْقَبَ إرادَتَهُ بِإصْدارِ النِّداءِ، وهَذا إشارَةٌ إلى أنَّهُ أرادَ النِّداءَ فَتَرَدَّدَ في الإقْدامِ عَلَيْهِ لِما عَلِمَ مِن قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿إلّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ مِنهُمْ﴾ [المؤمنون: ٢٧] فَلَمْ يَطُلْ تَرَدُّدُهُ لَمّا غَلَبَتْهُ الشَّفَقَةُ عَلى ابْنِهِ فَأقْدَمَ عَلى نِداءِ رَبِّهِ، ولِذَلِكَ قَدَّمَ الِاعْتِذارَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ ابْنِي مِن أهْلِي﴾ . فَقَوْلُهُ: ﴿إنَّ ابْنِي مِن أهْلِي﴾ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ في الِاعْتِذارِ والتَّمْهِيدِ لِأنَّهُ يُرِيدُ أنْ يَسْألَ سُؤالًا لا يَدْرِي قَبُولَهُ ولَكِنَّهُ اقْتَحَمَهُ لِأنَّ المَسْئُولَ لَهُ مِن أهْلِهِ فَلَهُ عُذْرُ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِ. وتَأْكِيدُ الخَبَرِ بِـ إنَّ لِلِاهْتِمامِ بِهِ.
وكَذَلِكَ جُمْلَةُ ﴿وإنَّ وعْدَكَ الحَقُّ﴾ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ في لازِمِ الفائِدَةِ. وهو أنَّهُ يَعْلَمُ أنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ.
والمُرادُ بِالوَعْدِ ما في قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿إلّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ مِنهم ولا تُخاطِبْنِي في الَّذِينَ ظَلَمُوا إنَّهم مُغْرَقُونَ﴾ [المؤمنون: ٢٧] إذْ أفادَ ذَلِكَ أنَّ بَعْضَ أهْلِهِ قَدْ سَبَقَ (p-٨٥)مِنَ اللَّهِ تَقْدِيرٌ بِأنَّهُ لا يَرْكَبُ السَّفِينَةَ. وهَذا المَوْصُولُ مُتَعَيِّنٌ لِكَوْنِهِ صادِقًا عَلى ابْنِهِ إذْ لَيْسَ غَيْرُهُ مِن أهْلِهِ طَلَبَ مِنهُ رُكُوبَ السَّفِينَةِ وأبى، وأنَّ مَن سَبَقَ عِلْمُ اللَّهِ بِأنَّهُ لا يَرْكَبُ السَّفِينَةَ مِنَ النّاسِ فَهو ظالِمٌ، أيْ كافِرٌ، وأنَّهُ مُغْرَقٌ، فَكانَ عَدَمُ رُكُوبِهِ السَّفِينَةَ وغَرَقُهُ أمارَةً أنَّهُ كافِرٌ. فالمَعْنى: أنَّ نُوحًا - عَلَيْهِ السَّلامُ - لا يَجْهَلُ أنَّ ابْنَهُ كافِرٌ، ولِذَلِكَ فَسُؤالُ المَغْفِرَةِ لَهُ عَنْ عِلْمٍ بِأنَّهُ كافِرٌ، ولَكِنَّهُ يَطْمَعُ لَعَلَّ اللَّهَ أنْ يَعْفُوَ عَنْهُ لِأجْلِ قَرابَتِهِ بِهِ، فَسُؤالُهُ لَهُ المَغْفِرَةُ بِمَنزِلَةِ الشَّفاعَةِ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، وذَلِكَ أخْذٌ بِأقْصى دَواعِي الشَّفَقَةِ والرَّحْمَةِ بِابْنِهِ.
وقَرِينَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُهُ: ﴿وأنْتَ أحْكَمُ الحاكِمِينَ﴾ المُفِيدُ أنَّهُ لا رادَّ لِما حَكَمَ بِهِ وقَضاهُ، وأنَّهُ لا دالَّةَ عَلَيْهِ لِأحَدٍ مِن خَلْقِهِ، ولَكِنَّهُ مَقامُ تَضَرُّعٍ وسُؤالِ ما لَيْسَ بِمُحالٍ.
وقَدْ كانَ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلامُ - غَيْرَ مَنهِيٍّ عَنْ ذَلِكَ، ولَمْ يَكُنْ تَقَرَّرَ في شَرْعِهِ العِلْمُ بِعَدَمِ المَغْفِرَةِ لِلْكافِرِينَ، فَكانَ حالُ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كَحالِ النَّبِيِّ ﷺ حِينَ قالَ لِأبِي طالِبٍ «لَأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ ما لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» قَبْلَ أنْ يَنْزِلَ قَوْلُهُ - تَعالى: ﴿ما كانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ١١٣] الآيَةَ.
والِاقْتِصارُ عَلى هَذِهِ الجُمَلِ الثَّلاثِ في مَقامِ الدُّعاءِ تَعْرِيضٌ بِالمَطْلُوبِ لِأنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ، وذَلِكَ ضَرْبٌ مِن ضُرُوبِ التَّأدُّبِ والتَّرَدُّدِ في الإقْدامِ عَلى المَسْئُولِ اسْتِغْناءً بِعِلْمِ المَسْئُولِ كَأنَّهُ يَقُولُ: أسْألُكَ أمْ أتْرُكُ، كَقَوْلِ أُمَيَّةَ بْنِ أبِي الصَّلْتِ:
؎أأذْكُرُ حاجَتِي أمْ قَدْ كَفانِي حَياؤُكَ أنَّ شِيمَتَكَ الحَياءُ
ومَعْنى ﴿أحْكَمُ الحاكِمِينَ﴾ أشَدُّهم حُكْمًا. واسْمُ التَّفْضِيلِ يَتَعَلَّقُ بِماهِيَّةِ الفِعْلِ، فَيُفِيدُ أنَّ حُكْمَهُ لا يَجُورُ وأنَّهُ لا يُبْطِلُهُ أحَدٌ.
ومَعْنى قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿إنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِكَ﴾ نَفْيُ أنْ يَكُونَ مِن أهْلِ دِينِهِ واعْتِقادِهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ إبْطالًا لِقَوْلِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ﴿إنَّ ابْنِي مِن أهْلِي﴾ ولَكِنَّهُ إعْلامٌ بِأنَّ قَرابَةَ الدِّينِ بِالنِّسْبَةِ لِأهْلِ الإيمانِ هي القَرابَةُ، وهَذا المَعْنى شائِعٌ في الِاسْتِعْمالِ.
(p-٨٦)قالَ النّابِغَةُ يُخاطِبُ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ:
؎إذا حاوَلْتَ في أسَدٍ فُجُـورًا ∗∗∗ فَإنِّي لَسْتُ مِنكَ ولَسْتَ مِنِّي
وقالَ - تَعالى: ﴿ويَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهم لَمِنكم وما هم مِنكم ولَكِنَّهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾ [التوبة: ٥٦]
وتَأْكِيدُ الخَبَرِ لِتَحْقِيقِهِ لِغَرابَتِهِ.
وجُمْلَةُ ﴿إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ﴾ تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ ﴿إنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِكَ﴾ فَـ إنَّ فِيهِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمامِ.
و(عَمَلٌ) في قِراءَةِ الجُمْهُورِ - بِفَتْحِ المِيمِ وتَنْوِينِ اللّامِ - مَصْدَرٌ أخْبَرَ بِهِ لِلْمُبالَغَةِ وبِرَفْعِ (غَيْرُ) عَلى أنَّهُ صِفَةُ (عَمَلٌ) . وقَرَأهُ الكِسائِيُّ، ويَعْقُوبُ (عَمِلَ) بِكَسْرِ المِيمِ بِصِيغَةِ الماضِي وبِنَصْبِ (غَيْرَ) عَلى المَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ (عَمِلَ) . ومَعْنى العَمَلِ غَيْرِ الصّالِحِ الكُفْرُ، وأُطْلِقَ عَلى الكُفْرِ عَمَلٌ لِأنَّهُ عَمَلُ القَلْبِ، ولِأنَّهُ يَظْهَرُ أثَرُهُ في عَمَلِ صاحِبِهِ كامْتِناعِ ابْنِ نُوحٍ مِنَ الرُّكُوبِ الدّالِّ عَلى تَكْذِيبِهِ بِوَعِيدِ الطُّوفانِ.
وتَفَرَّعَ عَلى ذَلِكَ نَهْيُهُ أنْ يَسْألَ ما لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ نَهْيَ عِتابٍ؛ لِأنَّهُ لَمّا قِيلَ لَهُ ﴿إنَّهُ لَيْسَ مِن أهْلِكَ﴾ بِسَبَبِ تَعْلِيلِهِ بِأنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ، سَقَطَ ما مَهَّدَ بِهِ لِإجابَةِ سُؤالِهِ، فَكانَ حَقِيقًا بِأنْ لا يَسْألَهُ وأنْ يَتَدَبَّرَ ما أرادَ أنْ يَسْألَهُ مِنَ اللَّهِ.
وقَرَأهُ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو جَعْفَرٍ فَلا تَسْألَنِّي - بِتَشْدِيدِ النُّونِ - وهي نُونُ التَّوْكِيدِ الخَفِيفَةُ ونُونُ الوِقايَةِ أُدْغِمَتا. وأثْبَتَ ياءَ المُتَكَلِّمِ مَن عَدا ابْنَ كَثِيرٍ مِن هَؤُلاءِ. أمّا ابْنُ كَثِيرٍ فَقَرَأ (فَلا تَسْألَنَّ) - بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ مَفْتُوحَةٍ - .
وقَرَأهُ أبُو عَمْرٍو، وعاصِمٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، ويَعْقُوبُ، وخَلَفٌ (p-٨٧)(فَلا تَسْألْنِ) بِسُكُونِ اللّامِ وكَسْرِ النُّونِ مُخَفَّفَةً عَلى أنَّهُ غَيْرُ مُؤَكَّدٍ بِنُونِ التَّوْكِيدِ ومُعَدّى إلى ياءِ المُتَكَلِّمِ.
وأكْثَرُهم حَذَفَ الياءَ في حالَةِ الوَصْلِ. وأثْبَتَها في الوَصْلِ ورْشٌ عَنْ نافِعٍ وأبُو عَمْرٍو.
ثُمَّ إنْ كانَ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمْ يَسْبِقْ لَهُ وحْيٌ مِنَ اللَّهِ بِأنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ لِلْمُشْرِكِينَ في الآخِرَةِ كانَ نَهْيُهُ عَنْ أنْ يَسْألَ ما لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، نَهْيَ تَنْزِيهٍ لِأمْثالِهِ لِأنَّ دَرَجَةَ النُّبُوَّةِ تَقْتَضِي أنْ لا يُقْدِمَ عَلى سُؤالِ رَبِّهِ سُؤْلًا لا يَعْلَمُ إجابَتَهُ. وهَذا كَقَوْلِهِ - تَعالى: ﴿ولا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إلّا لِمَن أذِنَ لَهُ﴾ [سبإ: ٢٣] وقَوْلِهِ: ﴿لا يَتَكَلَّمُونَ إلّا مَن أذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وقالَ صَوابًا﴾ [النبإ: ٣٨]، وإنْ كانَ قَدْ أُوحِيَ إلَيْهِ بِذَلِكَ مِن قَبْلُ، كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿وإنَّ وعْدَكَ الحَقُّ﴾ . وكانَ سُؤالُهُ المَغْفِرَةَ لِابْنِهِ طَلَبًا تَخْصِيصَهُ مِنَ العُمُومِ. وكانَ نَهْيُهُ نَهْيَ لَوْمٍ وعِتابٍ حَيْثُ لَمْ يَتَبَيَّنْ مِن رَبِّهِ جَوازَ ذَلِكَ.
وكانَ قَوْلُهُ: ﴿ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ مُحْتَمِلًا لِظاهِرِهِ، ومُحْتَمِلًا لِأنْ يَكُونَ كِنايَةً عَنِ العِلْمِ بِضِدِّهِ، أيْ فَلا تَسْألْنِي ما عَلِمْتَ أنَّهُ لا يَقَعُ.
ثُمَّ إنْ كانَ قَوْلُ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ﴿إنَّ ابْنِي مِن أهْلِي﴾ إلى آخِرِهِ تَعْرِيضًا بِالمَسْئُولِ كانَ النَّهْيُ في قَوْلِهِ: ﴿فَلا تَسْألْنِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ نَهْيًا عَنِ الإلْحاحِ أوِ العَوْدِ إلى سُؤالِهِ؛ وإنْ كانَ قَوْلُ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مُجَرَّدَ تَمْهِيدٍ لِلسُّؤالِ لِاخْتِبارِ حالِ إقْبالِ اللَّهِ عَلى سُؤالِهِ كانَ قَوْلُهُ - تَعالى: فَلا تَسْألْنِي نَهْيًا عَنِ الإفْضاءِ بِالسُّؤالِ الَّذِي مَهَّدَ لَهُ بِكَلامِهِ. والمَقْصُودُ مِنَ النَّهْيِ تَنْزِيهُهُ عَنْ تَعْرِيضِ سُؤالِهِ لِلرَّدِّ.
وعَلى كُلِّ الوُجُوهِ فَقَوْلُهُ: ﴿إنِّي أعِظُكَ أنْ تَكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ مَوْعِظَةٌ عَلى تَرْكِ التَّثَبُّتِ قَبْلَ الإقْدامِ.
والجَهْلُ فِيهِ ضِدُّ العِلْمِ، وهو المُناسِبُ لِمُقابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: ﴿ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾
(p-٨٨)فَأجابَ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كَلامَ رَبِّهِ بِما يَدُلُّ عَلى التَّنَصُّلِ مِمّا سَألَ فاسْتَعاذَ أنْ يَسْألَ ما لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، فَإنْ كانَ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلامُ - أرادَ بِكَلامِهِ الأوَّلِ التَّعْرِيضَ بِالسُّؤالِ فَهو أمْرٌ قَدْ وقَعَ فالِاسْتِعاذَةُ تَتَعَلَّقُ بِتَبِعَةِ ذَلِكَ أوْ بِالعَوْدِ إلى مِثْلِهِ في المُسْتَقْبَلِ؛ وإنْ كانَ إنَّما أرادَ التَّمْهِيدَ لِلسُّؤالِ فالِاسْتِعاذَةُ ظاهِرَةٌ، أيِ الِانْكِفافُ عَنِ الإفْضاءِ بِالسُّؤالِ.
وقَوْلُهُ: ﴿وإلّا تَغْفِرْ لِي وتَرْحَمْنِي أكُنْ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ طَلَبُ المَغْفِرَةِ ابْتِداءٌ لِأنَّ التَّخْلِيَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلى التَّحْلِيَةِ ثُمَّ أعْقَبَها بِطَلَبِ الرَّحْمَةِ لِأنَّهُ إذا كانَ بِمَحَلِّ الرِّضى مِنَ اللَّهِ كانَ أهْلًا لِلرَّحْمَةِ.
وقَدْ سَلَكَ المُفَسِّرُونَ في تَفْسِيرِهِمْ هَذِهِ الآياتِ مَسْلَكَ كَوْنِ سُؤالِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - سُؤالًا لِإنْجاءِ ابْنِهِ مِنَ الغَرَقِ فاعْتَرَضَتْهم سُبُلٌ وعْرَةٌ مُتَنائِيَةٌ، ولَقُوا عَناءً في الِاتِّصالِ بَيْنَها، والآيَةُ بِمَعْزِلٍ عَنْها، ولَعَلَّنا سَلَكْنا الجادَّةَ في تَفْسِيرِها.
{"ayahs_start":45,"ayahs":["وَنَادَىٰ نُوحࣱ رَّبَّهُۥ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِی مِنۡ أَهۡلِی وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ وَأَنتَ أَحۡكَمُ ٱلۡحَـٰكِمِینَ","قَالَ یَـٰنُوحُ إِنَّهُۥ لَیۡسَ مِنۡ أَهۡلِكَۖ إِنَّهُۥ عَمَلٌ غَیۡرُ صَـٰلِحࣲۖ فَلَا تَسۡـَٔلۡنِ مَا لَیۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۖ إِنِّیۤ أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلۡجَـٰهِلِینَ","قَالَ رَبِّ إِنِّیۤ أَعُوذُ بِكَ أَنۡ أَسۡـَٔلَكَ مَا لَیۡسَ لِی بِهِۦ عِلۡمࣱۖ وَإِلَّا تَغۡفِرۡ لِی وَتَرۡحَمۡنِیۤ أَكُن مِّنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ"],"ayah":"وَنَادَىٰ نُوحࣱ رَّبَّهُۥ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبۡنِی مِنۡ أَهۡلِی وَإِنَّ وَعۡدَكَ ٱلۡحَقُّ وَأَنتَ أَحۡكَمُ ٱلۡحَـٰكِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق