الباحث القرآني
﴿ولا أقُولُ لَكم عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ ولا أعْلَمُ الغَيْبَ ولا أقُولُ إنِّي مَلَكٌ ولا أقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أعْيُنُكم لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أعْلَمُ بِما في أنْفُسِهِمْ إنِّيَ إذًا لَمِنَ الظّالِمِينَ﴾
هَذا تَفْصِيلٌ لِما رَدَّ بِهِ مَقالَةَ قَوْمِهِ إجْمالًا، فَهُمُ اسْتَدَلُّوا عَلى نَفْيِ نُبُوَّتِهِ بِأنَّهم لَمْ يَرَوْا لَهُ فَضْلًا عَلَيْهِمْ، فَجاءَ هو في جَوابِهِمْ بِالقَوْلِ بِالمُوجِبِ أنَّهُ لَمْ يَدَعْ فَضْلًا غَيْرِ الوَحْيِ إلَيْهِ كَما حَكى اللَّهُ عَنْ أنْبِيائِهِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ - في قَوْلِهِ: ﴿قالَتْ لَهم رُسُلُهم إنْ نَحْنُ إلّا بَشَرٌ مِثْلُكم ولَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ﴾ [إبراهيم: ١١]، ولِذَلِكَ نَفى أنْ يَكُونَ قَدْ ادَّعى غَيْرَ ذَلِكَ. واقْتَصَرَ عَلى بَعْضِ ما يَتَوَهَّمُونَهُ مِن لَوازِمِ النُّبُوَّةِ وهو أنْ يَكُونَ أغْنى مِنهم، أوْ أنْ يَعْلَمَ الأُمُورَ الغائِبَةَ. والقَوْلُ بِمَعْنى الدَّعْوى، وإنَّما نَفى ذَلِكَ بِصِيغَةِ المُضارِعِ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ مُنْتَفٍ عَنْهُ ذَلِكَ في الحالِ، فَأمّا انْتِفاؤُهُ في الماضِي فَمَعْلُومٌ لَدَيْهِمْ حَيْثُ لَمْ يَقُلْهُ، أيْ لا تَظُنُّوا أنِّي مُضْمِرٌ ادِّعاءَ ذَلِكَ وإنْ لَمْ أقُلْهُ.
والخَزائِنُ: جَمْعُ خِزانَةٍ - بِكَسْرِ الخاءِ - وهي بَيْتٌ أوْ مِشْكاةٌ كَبِيرَةٌ يُجْعَلُ لَها بابٌ، وذَلِكَ لِخَزْنِ المالِ أوِ الطَّعامِ، أيْ حِفْظِهِ مِنَ الضَّياعِ. وذِكْرُ الخَزائِنِ هُنا اسْتِعارَةٌ مَكْنِيَّةٌ؛ شُبِّهَتِ النِّعَمُ والأشْياءُ النّافِعَةُ بِالأمْوالِ النَّفِيسَةِ الَّتِي تُدَّخَرُ في الخَزائِنِ، ورَمَزَ إلى ذَلِكَ بِذِكْرِ ما هو مِن رَوادِفِ المُشَبَّهِ بِهِ وهو الخَزائِنُ. وإضافَةُ خَزائِنُ إلى اللَّهِ لِاخْتِصاصِ اللَّهِ بِها.
(p-٥٨)وأمّا قَوْلُهُ: ﴿ولا أقُولُ إنِّي مَلَكٌ﴾ فَنَفْيٌ لِشُبْهَةِ قَوْلِهِمْ ﴿ما نَراكَ إلّا بَشَرًا مِثْلَنا﴾ [هود: ٢٧] ولِذَلِكَ أعادَ مَعَهُ فِعْلَ القَوْلِ؛ لِأنَّهُ إبْطالُ دَعْوى أُخْرى ألْصَقُوها بِهِ، وتَأْكِيدُهُ بِـ إنَّ لِأنَّهُ قَوْلٌ لا يَقُولُهُ قائِلُهُ إلّا مُؤَكَّدًا لِشِدَّةِ إنْكارِهِ لَوِ ادَّعاهُ مُدَّعٍ، فَلَمّا نَفاهُ نَفى صِيغَةَ إثْباتِهِ. ولَمّا أرادَ إبْطالَ قَوْلِهِمْ ﴿وما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلّا الَّذِينَ هم أراذِلُنا﴾ [هود: ٢٧] أبْطَلَهُ بِطَرِيقَةِ التَّغْلِيطِ لِأنَّهم جَعَلُوا ضَعْفَهم وفَقْرَهم سَبَبًا لِانْتِفاءِ فَضْلِهِمْ، فَأبْطَلَهُ بِأنَّ ضَعْفَهم لَيْسَ بِحائِلٍ بَيْنَهم وبَيْنَ الخَيْرِ مِنَ اللَّهِ إذْ لا ارْتِباطَ بَيْنَ الضَّعْفِ في الأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِن فَقْرٍ وقِلَّةٍ وبَيْنَ الحِرْمانِ مَن نَوالِ الكِمالاتِ النَّفْسانِيَّةِ والدِّينِيَّةِ، وأعادَ مَعَهُ فِعْلَ القَوْلِ لِأنَّهُ أرادَ مِنَ القَوْلِ مَعْنًى غَيْرَ المُرادِ مِنهُ فِيما قِيلَ، فالقَوْلُ هُنا كِنايَةٌ عَنِ الِاعْتِقادِ لِأنَّ المَرْءَ إنَّما يَقُولُ ما يَعْتَقِدُ، وهي تَعْرِيضِيَّةٌ بِالمُخاطَبِينَ لِأنَّهم يُضْمِرُونَ ذَلِكَ ويُقَدِّرُونَهُ.
والِازْدِراءُ: افْتِعالٌ مِنَ الزَّرْيِ وهو الِاحْتِقارُ وإلْصاقُ العَيْبِ، فَأصْلُهُ: ازْتِراءٌ، قُلِبَتْ تاءُ الِافْتِعالِ دالًا بَعْدَ الزّايِ كَما قُلِبَتْ في الِازْدِيادِ.
وإسْنادُ الِازْدِراءِ إلى الأعْيُنِ وإنَّما هو مِن أفْعالِ النَّفْسِ مَجازٌ عَقْلِيٌّ لِأنَّ الأعْيُنَ سَبَبُ الِازْدِراءِ غالِبًا؛ لِأنَّ الِازْدِراءَ يَنْشَأُ عَنْ مُشاهَدَةِ الصِّفاتِ الحَقِيرَةِ عِنْدَ النّاظِرِ. ونَظِيرُهُ إسْنادُ الفَرَقِ إلى الأعْيُنِ في قَوْلِ الأعْشى:
؎كَذَلِكَ فافْعَلْ ما حَيِيتَ إذا شَتَوْا وأقْدِمْ إذا ما أعْيُنُ النّاسِ تَفْرَقُ
ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعالى: ﴿سَحَرُوا أعْيُنَ النّاسِ﴾ [الأعراف: ١١٦] وإنَّما سَحَرُوا عُقُولَهم ولَكِنَّ الأعْيُنَ تَرى حَرَكاتِ السَّحَرَةِ فَتُؤْثِرُ رُؤْيَتُها عَلى عُقُولِ المُبْصِرِينَ.
وجِيءَ في النَّفْيِ بِحَرْفِ لَنِ الدّالَّةِ عَلى تَأْكِيدِ نَفْيِ الفِعْلِ في المُسْتَقْبَلِ تَعْرِيضًا بِقَوْمِهِ لِأنَّهم جَعَلُوا ضَعْفَ أتْباعِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وفَقْرِهِمْ دَلِيلًا عَلى انْتِفاءِ الخَيْر عَنْهم فاقْتَضى دَوامُ ذَلِكَ ما دامُوا ضُعَفاءَ فُقَراءَ، فَلِسانُ حالِهِمْ يَقُولُ: لَنْ يَنالُوا خَيْرًا، فَكانَ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ بِأنَّهُ لا يَقُولُ ﴿لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا﴾ .
(p-٥٩)وجُمْلَةُ ﴿اللَّهُ أعْلَمُ بِما في أنْفُسِهِمْ﴾ تَعْلِيلٌ لِنَفْيِ أنْ يَقُولَ ﴿لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا﴾ . ولِذَلِكَ فُصِلَتِ الجُمْلَةُ ولَمْ تُعْطَفْ، ومَعْنى ﴿اللَّهُ أعْلَمُ بِما في أنْفُسِهِمْ﴾ أنَّ أمْرَهم مَوْكُولٌ إلى رَبِّهِمُ الَّذِي عَلِمَ ما أوْدَعَهُ في نُفُوسِهِمْ مِنَ الخَيْرِ والَّذِي وفَّقَهم إلى الإيمانِ، أيْ فَهو يُعامِلُهم بِما يَعْلَمُ مِنهم. وتَعْلِيقُهُ بِالنُّفُوسِ تَنْبِيهٌ لِقَوْمِهِ عَلى غَلَطِهِمْ في قَوْلِهِمْ ﴿وما نَرى لَكم عَلَيْنا مِن فَضْلٍ﴾ [هود: ٢٧] بِأنَّهم نَظَرُوا إلى الجانِبِ الجُثْمانِيِّ الدُّنْيَوِيِّ وجَهِلُوا الفَضائِلَ والكِمالاتِ النَّفْسانِيَّةَ والعَطايا اللَّدُنِّيَّةَ الَّتِي اللَّهُ أعْلَمُ بِها.
واسْمُ التَّفْضِيلِ هُنا مَسْلُوبُ المُفاضَلَةِ مَقْصُودٌ مِنهُ شِدَّةُ العِلْمِ.
وجُمْلَةُ (﴿إنِّي إذًا لَمِنَ الظّالِمِينَ﴾) تَعْلِيلٌ ثانٍ لِنَفْيِ أنْ يَقُولَ (﴿لَنْ يُوتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا﴾) . وإذَنْ حَرْفُ جَوابٍ وجَزاءٍ مُجازاةً لِلْقَوْلِ، أيْ لَوْ قُلْتَ ذَلِكَ لَكُنْتَ مِنَ الظّالِمِينَ، وذَلِكَ أنَّهُ يَظْلِمُهم بِالقَضاءِ عَلَيْهِمْ بِما لا يَعْلَمُ مِن حَقِيقَتِهِمْ، ويَظْلِمُ نَفْسَهُ بِاقْتِحامِ القَوْلِ بِما لا يُصَدَّقُ.
وقَوْلُهُ: مِنَ الظّالِمِينَ أبْلَغُ في إثْباتِ الظُّلْمِ مِن: إنِّي ظالِمٌ، كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿قالَ أعُوذُ بِاللَّهِ أنْ أكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ﴾ [البقرة: ٦٧] في سُورَةِ البَقَرَةِ.
وأكَّدَهُ بِثَلاثِ مُؤَكِّداتٍ: إنَّ ولامِ الِابْتِداءِ وحَرْفِ الجَزاءِ، تَحْقِيقًا لِظُلْمِ الَّذِينَ رَمَوُا المُؤْمِنِينَ بِالرَّذالَةِ وسَلَبُوا الفَضْلَ عَنْهم؛ لِأنَّهُ أرادَ التَّعْرِيضَ بِقَوْمِهِ في ذَلِكَ. وسَيَجِيءُ في سُورَةِ الشُّعَراءِ ذِكْرُ مَوْقِفٍ آخَرَ لِنُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ - مَعَ قَوْمِهِ في شَأْنِ هَؤُلاءِ المُؤْمِنِينَ.
{"ayah":"وَلَاۤ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِی خَزَاۤىِٕنُ ٱللَّهِ وَلَاۤ أَعۡلَمُ ٱلۡغَیۡبَ وَلَاۤ أَقُولُ إِنِّی مَلَكࣱ وَلَاۤ أَقُولُ لِلَّذِینَ تَزۡدَرِیۤ أَعۡیُنُكُمۡ لَن یُؤۡتِیَهُمُ ٱللَّهُ خَیۡرًاۖ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا فِیۤ أَنفُسِهِمۡ إِنِّیۤ إِذࣰا لَّمِنَ ٱلظَّـٰلِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق