الباحث القرآني
﴿فَإنْ كُنْتَ في شَكٍّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ فاسْألِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ﴾ ﴿ولا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الخاسِرِينَ﴾
تَفْرِيعٌ عَلى سِياقِ القَصَصِ الَّتِي جَعَلَها اللَّهُ مَثَلًا لِأهْلِ مَكَّةَ وعِظَةً بِما حَلَّ بِأمْثالِهِمْ. انْتَقَلَ بِهَذا التَّفْرِيعِ مِن أُسْلُوبٍ إلى أُسْلُوبٍ كِلاهُما تَعْرِيضٌ بِالمُكَذِّبِينَ، فالأُسْلُوبُ السّابِقُ تَعْرِيضٌ بِالتَّحْذِيرِ مِن أنْ يَحِلَّ ما حَلَّ بِالأُمَمِ المُماثِلَةِ لَهم، وهَذا الأُسْلُوبُ المَوالِي تَعْرِيضٌ لَهم بِشَهادَةِ أهْلِ الكِتابِ عَلى تِلْكَ الحَوادِثِ، وما في الكُتُبِ السّابِقَةِ مِنَ الإنْباءِ بِرِسالَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ . فالمُرادُ مِن (ما أنْزَلْنا) هو المُنَزَّلُ الَّذِي تَفَرَّعَ عَلَيْهِ هَذا الكَلامُ وهو ما أُنْزِلَ في هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ القَصَصِ.
ثُمَّ إنَّ الآيَةَ تَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ لا يَسْتَقِيمُ ما سِواهُما؛ أوَّلُهُما أنْ تَبْقى الظَّرْفِيَّةُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْها في عَلى حَقِيقَتِها، ويَكُونُ الشَّكُّ قَدْ أُطْلِقَ وأُرِيدَ بِهِ أصْحابُهُ، أيْ فَإنْ كُنْتَ في قَوْمٍ أهْلِ شَكٍّ مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ، أيْ يَشُكُّونَ في وُقُوعِ هَذِهِ القَصَصِ، كَما يُقالُ: دَخَلَ في الفِتْنَةِ، أيْ في أهْلِها. ويَكُونُ مَعْنى ﴿فاسْألِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتابَ مِن قَبْلِكَ﴾ فاسْألْ أهْلَ الكِتابِ سُؤالَ تَقْرِيرٍ وإشْهادٍ عَنْ صِفَةِ تِلْكَ الأخْبارِ يُخْبِرُوا بِمِثْلِ ما أخْبَرْتَهم بِهِ، فَيَزُولُ الشَّكُّ مِن نُفُوسِ أهْلِ الشَّكِّ إذْ لا يُحْتَمَلُ تَواطُؤَكَ مَعَ أهْلِ الكِتابِ عَلى صِفَةٍ واحِدَةٍ لِتِلْكَ الأخْبارِ. فالمَقْصُودُ مِنَ الآيَةِ إقامَةُ الحُجَّةِ عَلى المُشْرِكِينَ بِشَهادَةِ أهْلِ الكِتابِ مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى قَطْعًا لِمَعْذِرَتِهِمْ.
(p-٢٨٥)وثانِيهِما أنْ تَكُونَ في لِلظَّرْفِيَّةِ المَجازِيَّةِ كالَّتِي في قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿فَلا تَكُ في مِرْيَةٍ مِمّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ﴾ [هود: ١٠٩] ويَكُونُ سَوْقُ هَذِهِ المُحاوَرَةِ إلى النَّبِيءِ ﷺ عَلى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ لِقَصْدِ أنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ المُشْرِكُونَ فَيَكُونُ اسْتِقْرارُ حاصِلِ المُحاوَرَةِ في نُفُوسِهِمْ أمْكَنَ مِمّا لَوْ أُلْقِيَ إلَيْهِمْ مُواجَهَةً. وهَذِهِ طَرِيقَةٌ في الإلْقاءِ التَّعْرِيضِيِّ يَسْلُكُها الحُكَماءُ وأصْحابُ الأخْلاقِ مَتى كانَ تَوْجِيهُ الكَلامِ إلى الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ مَظِنَّةَ نُفُورٍ كَما في قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ولَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ [الزمر: ٦٥] أوْ كانَ في ذَلِكَ الإلْقاءِ وفْقٌ بِالَّذِي يُقْصَدُ سَوْقُ الكَلامِ إلَيْهِ كَما في قِصَّةِ الخَصْمِ مِنَ اللَّذَيْنِ اخْتَصَما إلى داوُدَ المَذْكُورَةِ في سُورَةِ ص.
وكِلا الِاحْتِمالَيْنِ يُلاقِي قَوْلَهُ: ﴿فاسْألِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتابَ مِن قَبْلِكَ﴾ فَإنَّهُ يَقْتَضِي أنَّ المَسْؤُولَ عَنْهُ مِمّا لا يَكْتُمُهُ أهْلُ الكِتابِ، وأنَّهم يَشْهَدُونَ بِهِ، وإنَّما يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ في القَصَصِ المُوافَقَةُ لِما في كُتُبِهِمْ فَإنَّهم لا يَتَحَرَّجُونَ مِن إعْلانِها والشَّهادَةِ بِها. وغَيْرُ هَذَيْنِ الِاحْتِمالَيْنِ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ بَعْضَ ما في الآيَةِ، ويَقْتَضِي أنَّ المُخاطَبَ النَّبِيءُ ﷺ لِمَكانِ قَوْلِهِ: مَن قَبْلِكَ
ولَيْسَ المُرادُ بِضَمائِرِ الخِطابِ كُلَّ مَن يَصِحُّ أنْ يُخاطَبَ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿مِمّا أنْزَلْنا إلَيْكَ﴾ يُناكِدُ ذَلِكَ إلّا بِتَعَسُّفٍ.
وإنَّما تَكُونُ جُمْلَةُ ﴿فاسْألِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الكِتابَ مِن قَبْلِكَ﴾ جَوابًا لِلشَّرْطِ بِاعْتِبارِ ما تُفِيدُهُ مادَّةُ السُّؤالِ مِن كَوْنِهِمْ يُجِيبُونَ بِما يُزِيلُ الشَّكَّ، فَبِذَلِكَ يَلْتَئِمُ التَّلازُمُ بَيْنَ الشَّرْطِ والجَوابِ، كَما دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ ﴿لَقَدْ جاءَكَ الحَقُّ مِن رَبِّكَ﴾
وقَرَأ الجُمْهُورُ فاسْألْ بِهَمْزَةِ وصْلٍ وسُكُونِ السِّينِ وهَمْزَةٍ بَعْدَ السِّينِ. وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ والكِسائِيُّ ”فَسَلْ“ بِفَتْحِ السِّينِ دُونَ هَمْزَةِ الوَصْلِ وبِحَذْفِ الهَمْزَةِ الَّتِي بَعْدَ السِّينِ مُخَفَّفُ سَألَ.
فَجُمْلَةُ ﴿لَقَدْ جاءَكَ الحَقُّ مِن رَبِّكَ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بَيانِيًّا لِجَوابِ سُؤالٍ ناشِئٍ عَنِ الشَّرْطِ وجَوابِهِ، كَأنَّ السّامِعَ يَقُولُ: فَإذا سَألْتَهم ماذا يَكُونُ، فَقِيلَ: ﴿لَقَدْ جاءَكَ الحَقُّ مِن رَبِّكَ﴾ .
(p-٢٨٦)ولَمّا كانَ المَقْصُودُ مِن ذَلِكَ عِلْمَ السّامِعِينَ بِطَرِيقِ التَّعْرِيضِ لا عِلْمَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ - لِأنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلِّ الحاجَةِ لِإعْلامِهِ بِأنَّهُ عَلى الحَقِّ قُرِنَتِ الجُمْلَةُ بِحَرْفَيِ التَّأْكِيدِ، وهُما: لامُ القَسَمِ وقَدْ، لِدَفْعِ إنْكار المُعَرَّضِ بِهِمْ.
وبِذَلِكَ كانَ تَفْرِيعُ ﴿فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ﴾ تَعْرِيضًا أيْضًا بِالمُشْرِكِينَ بِأنَّهم بِحَيْثُ يَحْذَرُ الكَوْنُ مِنهم.
والِامْتِراءُ: الشَّكُّ فِيما لا شُبْهَةَ لِلشَّكِّ فِيهِ. فَهو أخَصُّ مِنَ الشَّكِّ.
وكَذَلِكَ عَطَفَ ﴿ولا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ﴾ وهو أصْرَحُ في التَّعْرِيضِ بِهِمْ ﴿فَتَكُونَ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ . وهَذا يَقْتَضِي أنَّهم خاسِرُونَ. ونَظِيرُهُ ﴿لَئِنْ أشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ولَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ [الزمر: ٦٥]، وحاصِلُ المَعْنى: فَإنْ كُنْتُمْ شاكِّينَ في صِدْقِ ما أنْزَلْنا عَلى مُحَمَّدٍ مِمّا أصابَ المُكَذِّبِينَ قَبْلَكم فاسْألُوا أهْلَ الكِتابِ يُخْبِرُوكم بِأنَّ ذَلِكَ صِدْقٌ، لَقَدْ جاءَكُمُ الحَقُّ مِن رَبِّ مُحَمَّدٍ ﷺ فَلا تَكُونُوا شاكِّينَ ولا تُكَذِّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونُوا خاسِرِينَ.
{"ayahs_start":94,"ayahs":["فَإِن كُنتَ فِی شَكࣲّ مِّمَّاۤ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ فَسۡـَٔلِ ٱلَّذِینَ یَقۡرَءُونَ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلِكَۚ لَقَدۡ جَاۤءَكَ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُمۡتَرِینَ","وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ"],"ayah":"وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ ٱلۡخَـٰسِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق