الباحث القرآني

﴿وأوْحَيْنا إلى مُوسى وأخِيهِ أنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بِيُوتًا واجْعَلُوا بِيُوتَكم قِبْلَةً وأقِيمُوا الصَّلاةَ وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى جُمْلَةِ ﴿وقالَ مُوسى يا قَوْمِ﴾ [يونس: ٨٤]، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَطْفَ قِصَّةٍ عَلى قِصَّةٍ، أيْ عَلى مَجْمُوعِ الكَلامِ السّابِقِ؛ لِأنَّ مَجْمُوعَ قَصَصَهِ هي حِكايَةُ أطْوارٍ لِقِصَّةِ مُوسى وقَوْمِهِ. ووَقَعَ الوَحْيُ بِهَذا الأمْرِ إلى مُوسى وهارُونَ - عَلَيْهِما السَّلامُ - لِأنَّهُ مِنَ الأعْمالِ الرّاجِعَةِ إلى تَدْبِيرِ أمْرِ الأُمَّةِ، فَيُمْكِنُ الِاشْتِراكُ فِيها بَيْنَ الرَّسُولِ ومُؤازِرِهِ. والتَّبَوُّءُ: اتِّخاذُ مَكانٍ يَسْكُنُهُ، وهو تَفَعُّلٌ مِنَ البَوْءِ، أيِ الرُّجُوعِ، كَأنَّ صاحِبَ المَسْكَنِ يُكَلِّفُ نَفْسَهُ الرُّجُوعَ إلى مَحَلِّ سَكَنِهِ ولَوْ كانَ تَباعَدَ عَنْهُ في شُئُونِ اكْتِسابِهِ بِالسَّيْرِ إلى السُّوقِ أوِ الصَّيْدِ أوِ الِاحْتِطابِ أوْ قَطْفِ الثِّمارِ أوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وتَقَدَّمَ (p-٢٦٥)عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ﴾ [آل عمران: ١٢١] في آلِ عِمْرانَ. فَمَعْنى ﴿تَبَوَّآ لِقَوْمِكُما﴾ اجْعَلا قَوْمَكُما مُتَبَوِّئِينَ بُيُوتًا. وفاعِلُ هَذا الفِعْلِ في الأصْلِ هو السّاكِنُ بِالمَباءَةِ، وإنَّما أُسْنِدَ هُنا إلى ضَمِيرِ مُوسى وهارُونَ - عَلَيْهِما السَّلامُ - عَلى طَرِيقَةِ المَجازِ العَقْلِيِّ، إذْ كانا سَبَبَ تَبَوُّءِ قَوْمِهِما لِلْبُيُوتِ. والقَرِينَةُ قَوْلُهُ: ﴿لِقَوْمِكُما﴾ إذْ جَعَلَ التَّبَوُّؤَ لِأجْلِ القَوْمِ. ومَعْنى تَبَوُّءِ البُيُوتِ لِقَوْمِهِما أنْ يَأْمُرا قَوْمَهُما بِاتِّخاذِ البُيُوتِ عَلى الوَصْفِ الَّذِي يَأْمُرانِهِمْ بِهِ. وإذْ قَدْ كانَلِبَنِي إسْرائِيلَ دِيارٌ في مِصْرَ مِن قَبْلُ، إذْ لا يَكُونُونَ قاطِنِينَ مِصْرَ بِدُونِ مَساكِنَ، وقَدْ كانُوا ساكِنِينَ أرْضَ (جاسانَ) قُرْبَ مَدِينَةِ (مَنفِيسَ) قاعِدَةِ المَمْلَكَةِ يَوْمَئِذٍ في جَنُوبِ البِلادِ المِصْرِيَّةِ، كَما بَيَّنّاهُ في سُورَةِ البَقَرَةِ، لا جَرَمَ أنْ تَكُونَ البُيُوتُ المَأْمُورُ بِتَبَوُّئِها غَيْرَ البُيُوتِ الَّتِي كانُوا ساكِنِيها. واضْطَرَبَ المُفَسِّرُونَ في المُرادِ مِن هَذِهِ البُيُوتِ وذَكَرُوا رِواياتٍ غَيْرَ مُلائِمَةٍ لِحالَةِ القَوْمِ يَوْمَئِذٍ. فَقِيلَ: أُرِيدَ بِالبُيُوتِ بُيُوتُ العِبادَةِ أيْ مَساجِدُ يُصَلُّونَ فِيها، ورُبَّما حَمَلَ عَلى هَذا التَّفْسِيرِ مَن تَأوَّلَهُ وُقُوعُ قَوْلِهِ: ﴿وأقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ عَقِبَهُ، وهَذا بِعِيدٌ لِأنَّ اللَّهَ عَلِمَ أنَّ بَنِي إسْرائِيلَ مُفارِقُونَ مِصْرَ قَرِيبًا بِإذْنِهِ. وقِيلَ: البُيُوتُ بُيُوتُ السُّكْنى وأمْسَكُوا عَنِ المَقْصُودِ مِن هَذِهِ البُيُوتِ. وهَذا القَوْلُ هو المُناسِبُ لِلتَّبَوُّءِ لِأنَّ التَّبَوُّءَ السُّكْنى، والمُناسِبُ أيْضًا لِإطْلاقِ البُيُوتِ، وكَوْنِها بِمِصْرَ. فالَّذِي يَظْهَرُ بِناءً عَلَيْهِ أنَّ هَذِهِ البُيُوتَ خِيامٌ أوْ أخْصاصٌ أمَرَهُمُ اللَّهُ بِاتِّخاذِها تَهْيِئَةً لِلِارْتِحالِ وهي غَيْرُ دِيارِهِمُ الَّتِي كانُوا يَسْكُنُونَها في (جاسانَ) قُرْبَ مَدِينَةِ فِرْعَوْنَ وقَدْ جاءَ في التَّوْراةِ ما يَشْهَدُ بِهَذا التَّأْوِيلِ في الفَصْلِ الرّابِعِ مِن سِفْرِ الخُرُوجِ: إنَّ اللَّهَ أمَرَ مُوسى أنْ يَخْرُجَ بِبَنِي إسْرائِيلَ إلى البادِيَةِ لِيَعْمَلُوا عِيدَ الفِصْحِ ثَلاثَةَ أيّامٍ وأنَّ ذَلِكَ أوَّلُ ما سَألَهُ مُوسى مِن فِرْعَوْنَ، وأنَّ فِرْعَوْنَ مَنَعَهم مِن ذَلِكَ، وأنَّ مُوسى كَرَّرَ طَلَبَ ذَلِكَ مِن فِرْعَوْنَ كُلُّ ذَلِكَ يَمْنَعُهُ كَما في الفَصْلِ السّابِعِ والفَصْلِ الثّامِنِ مِن سِفْرِ الخُرُوجِ، وقَدْ صارَ لَهم ذَلِكَ عِيدًا بَعْدَ خُرُوجِهِمْ. (p-٢٦٦)وقَوْلُهُ: ﴿واجْعَلُوا بُيُوتَكم قِبْلَةً﴾ أيْ هَذِهِ الخِيامَ أوِ الأخْصاصَ الَّتِي تَتَّخِذُونَها تَجْعَلُونَها مَفْتُوحَةً إلى القِبْلَةِ. قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والقِبْلَةُ: اسْمٌ في العَرَبِيَّةِ لِجِهَةِ الكَعْبَةِ. وتِلْكَ الجِهَةُ هي ما بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ لِأنَّ قِبْلَةَ بِلادِ مِصْرَ كَقِبْلَةِ المَدِينَةِ ما بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ وهي الجَنُوبُ، فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّعْبِيرُ عَنْ تِلْكَ الجِهَةِ بِالقِبْلَةِ في الآيَةِ حِكايَةً لِتَعْبِيرِ مُوسى عَنْها بِما يَدُلُّ عَلى مَعْنى التَّوَجُّهِ إلى الجِهَةِ الَّتِي يُصَلُّونَ إلَيْها، وهي قِبْلَةُ إبْراهِيمَ، فَيَكُونُ أمْرُ بَنِي إسْرائِيلَ يَوْمَئِذٍ جارِيًا عَلى المِلَّةِ الحَنِيفِيَّةِ قَبْلَ أنْ يُنْسَخَ بِالِاسْتِقْبالِ إلى صَخْرَةِ القُدْسِ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُوسى قَدْ عَبَّرَ بِما يُفِيدُ مَعْنى الجَنُوبِ فَحُكِيَتْ عِبارَتُهُ في القُرْآنِ بِاللَّفْظِ المُرادِفِ لَهُ الشّائِعِ في التَّعْبِيرِ عَنِ الجَنُوبِ عِنْدَ العَرَبِ وهو كَلِمَةُ قِبْلَةٍ. والحِكْمَةُ في جَعْلِ البُيُوتِ إلى القِبْلَةِ أنَّ الشَّمْسَ تَدْخُلُها مِن أبْوابِها في غالِبِ أوْقاتِ النَّهارِ في جَمِيعِ الفُصُولِ وفي ذَلِكَ مَنافِعُ كَثِيرَةٌ. والَّذِينَ فَسَّرُوا البُيُوتَ بِأنَّها بُيُوتُ السُّكْنى فَسَّرُوا قِبْلَةً: إمّا بِمَعْنى مُتَقابِلَةً، وإمّا بِمَعْنى اجْعَلُوا بُيُوتَكم مَحَلَّ صَلاتِكم، وكِلا التَّفْسِيرَيْنِ بَعِيدٌ عَنِ الِاسْتِعْمالِ. وأمّا الَّذِينَ تَأوَّلُوا البُيُوتَ بِالمَساجِدِ فَقَدْ فَسَّرُوا القِبْلَةَ بِأنَّها قِبْلَةُ الصَّلاةِ، أيْ جِهَةُ الكَعْبَةِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: كانَتِ الكَعْبَةُ قِبْلَةَ مُوسى. وعَنِ الحَسَنِ: كانَتِ الكَعْبَةُ قِبْلَةَ كُلِّ الأنْبِياءِ. وهَذا التَّفْسِيرُ يُلائِمُ تَرْكِيبَ ﴿واجْعَلُوا بُيُوتَكم قِبْلَةً﴾ لِأنَّ التَّرْكِيبَ اقْتَضى أنَّ المَجْعُولَ قِبْلَةً هو البُيُوتُ أنْفُسُها لا أنْ تُجْعَلَ الصَّلاةُ فِيها إلى جِهَةِ القِبْلَةِ فَإذا افْتَقَدْنا التَّأْوِيلاتِ كُلَّها لا نَجِدُها إلّا مُفَكَّكَةً مُتَعَسِّفَةً خَلا التَّفْسِيرِ الَّذِي عَوَّلْنا عَلَيْهِ، وقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدانا اللَّهُ إلَيْهِ. وأُسْنِدَ فِعْلُ اجْعَلُوا إلى ضَمِيرِ الجَماعَةِ لِأنَّ ذَلِكَ الجَعْلَ مِن عَمَلِ مُوسى وأخِيهِ وقَوْمِهِما إذْ كُلُّ أحَدٍ مُكَلَّفٌ بِأنْ يَجْعَلَ بَيْتَهُ قِبْلَةً. (p-٢٦٧)وأمَرَهم بِإقامَةِ الصَّلاةِ، أيِ الَّتِي فَرَضَها اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَلى لِسانِ مُوسى، والَّتِي كانُوا يُصَلُّونَها مِن قَبْلِ مَجِيءِ مُوسى اتِّباعًا لِإبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وأبْنائِهِ. والظّاهِرُ أنَّ الدّاعِيَ إلى أمْرِهِمْ بِإقامَةِ الصَّلاةِ أنَّ اتِّخاذَ البُيُوتِ كانَ في حالَةِ رَحِيلٍ فَكانَتْ حالَتُهم مَظِنَّةَ الشُّغُلِ عَنْ إقامَةِ الصَّلَواتِ فَلِذَلِكَ أُمِرُوا بِالمُحافَظَةِ عَلى إقامَةِ الصَّلاةِ في مُدَّةِ رِحْلَتِهِمْ. وعَطْفُ جُمْلَةِ ﴿وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ﴾ عَلى ما قَبْلَها يُؤْذِنُ بِأنَّ ما أُمِرُوا بِهِ مِنِ اتِّخاذِ البُيُوتِ أمْرٌ بِحالَةٍ مُشْعِرَةٍ بِتَرَقُّبِ أخْطارٍ وتَخَوُّفٍ فَإنَّهم قالُوا ﴿رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً﴾ [يونس: ٨٥] فَأمَرَ مُوسى أنْ يُبَشِّرَهم بِحُسْنِ العاقِبَةِ، وأنَّهم مَنصُورُونَ عَلى عَدُوِّهِمْ وناجُونَ مِنهُ، والمُؤْمِنُونَ هم قَوْمُ مُوسى الَّذِينَ ذُكِرُوا في قَوْلِهِ: ﴿فَما آمَنَ لِمُوسى إلّا ذُرِّيَّةٌ مِن قَوْمِهِ﴾ [يونس: ٨٣] وفي قَوْلِهِ: ﴿إنْ كُنْتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾ [يونس: ٨٤] ﴿فَقالُوا عَلى اللَّهِ تَوَكَّلْنا﴾ [يونس: ٨٥]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب