الباحث القرآني
﴿ثُمَّ بَعَثْنا مِن بَعْدِهِمْ مُوسى وهارُونَ إلى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ بِآياتِنا فاسْتَكْبَرُوا وكانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾
ثُمَّ لِلتَّراخِي الرُّتْبِيِّ لِأنَّ بَعْثَةَ مُوسى وهارُونَ - عَلَيْهِما السَّلامُ - كانَتْ أعْظَمَ مِن بِعْثَةِ مَن سَبَقَهُما مِنَ الرُّسُلِ، وخُصَّتْ بِعْثَةُ مُوسى وهارُونَ بِالذِّكْرِ لِأنَّها كانَتِ انْقِلابًا عَظِيمًا وتَطَوُّرًا جَدِيدًا في تارِيخِ الشَّرائِعِ وفي نِظامِ الحَضارَةِ العَقْلِيَّةِ والتَّشْرِيعِيَّةِ فَإنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ كانُوا قَبْلَ مُوسى إنَّما بُعِثُوا في أُمَمٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وكانَتْ أدْيانُهم مُقْتَصِرَةً عَلى الدَّعْوَةِ إلى إصْلاحِ العَقِيدَةِ، وتَهْذِيبِ النُّفُوسِ، وإبْطالِ ما عَظُمَ مِن مَفاسِدَ في المُعامَلاتِ، ولَمْ تَكُنْ شَرائِعَ شامِلَةً لِجَمِيعِ ما يُحْتاجُ إلَيْهِ مِن نَظْمِ الأُمَّةِ وتَقْرِيرِ حاضِرِها ومُسْتَقْبَلِها.
فَأمّا بِعْثَةُ مُوسى فَقَدْ أتَتْ بِتَكْوِينِ أُمَّةٍ، وتَحْرِيرِها مِنِ اسْتِعْبادِ أُمَّةٍ أُخْرى إيّاها، وتَكْوِينِ وطَنٍ مُسْتَقِلٍّ لَها، وتَأْسِيسِ قَواعِدِ اسْتِقْلالِها، وتَأْسِيسِ جامِعَةٍ كامِلَةٍ لَها، ووَضْعِ نِظامِ سِياسَةِ الأُمَّةِ، ووَضْعِ سِياسَةٍ يُدَبِّرُونَ شُئُونَها، ونِظامِ دِفاعٍ يَدْفَعُ المُعْتَدِينَ عَلَيْها مِنَ الأُمَمِ، ويُمَكِّنُها مِنِ اقْتِحامِ أوْطانِ أُمَمٍ أُخْرى، وإعْطاءِ كِتابٍ يَشْتَمِلُ عَلى قَوانِينِ حَياتِها الِاجْتِماعِيَّةِ مِن كَثِيرِ نَواحِيها، فَبَعْثَةُ مُوسى كانَتْ أوَّلَ مَظْهَرٍ عامٍّ مِن مَظاهِرِ الشَّرائِعِ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ نَظِيرٌ في تارِيخِ الشَّرائِعِ ولا في تارِيخِ نِظامِ الأُمَمِ، (p-٢٤٧)وهُوَ مَعَ تَفَوُّقِهِ عَلى جَمِيعِ ما تَقَدَّمَهُ مِنَ الشَّرائِعِ قَدِ امْتازَ بِكَوْنِهِ تَلْقِينًا مِنَ اللَّهِ المُطَّلِعِ عَلى حَقائِقِ الأُمُورِ، المُرِيدِ إقْرارَ الصّالِحِ وإزالَةَ الفاسِدِ.
وجَعَلَ مُوسى وهارُونَ مَبْعُوثَيْنِ كِلَيْهِما مِن حَيْثُ إنَّ اللَّهَ اسْتَجابَ طَلَبَ مُوسى أنْ يَجْعَلَ مَعَهُ أخاهُ هارُونَ مُؤَيِّدًا ومُعْرِبًا عَنْ مَقاصِدَ مُوسى فَكانَ بِذَلِكَ مَأْمُورًا مِنَ اللَّهِ بِالمُشارَكَةِ في أعْمالِ الرِّسالَةِ، وقَدْ بَيَّنَتْهُ سُورَةُ القَصَصِ، فالمَبْعُوثُ أصالَةً هو مُوسى وأمّا هارُونُ فَبُعِثَ مُعِينًا لَهُ وناصِرًا؛ لِأنَّ تِلْكَ الرِّسالَةَ كانَتْ أوَّلُ رِسالَةٍ يَصْحَبُها تَكْوِينُ أُمَّةٍ.
وفِرْعَوْنُ مَلِكُ مِصْرَ، وقَدْ مَضى الكَلامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنا مِن بَعْدِهِمْ مُوسى وهارُونَ إلى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ﴾ في سُورَةِ الأعْرافِ، وعَلى صِفَةِ إرْسالِ مُوسى إلى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ، وفِرْعَوْنُ هَذا هو مِنِفْطاحُ الثّانِي أحَدُ فَراعِنَةِ العائِلَةِ التّاسِعَةَ عَشَرَةَ مِنَ الأُسَرِ الَّتِي مَلَكَتْ بِلادَ القِبْطِ.
والمُرادُ بِالمَلَأِ خاصَةُ النّاسِ وسادَتُهم وذَلِكَ أنَّ مُوسى بُعِثَ إلى بَنِي إسْرائِيلَ وبُعِثَ إلى فِرْعَوْنَ وأهْلِ دَوْلتِهِ لِيُطْلِقُوا بَنِي إسْرائِيلَ.
والسَّينُ والتّاءُ في اسْتَكْبَرُوا لِلْمُبالَغَةِ في التَّكَبُّرِ، والمُرادُ أنَّهم تَكَبَّرُوا عَنْ تَلَقِّي الدَّعْوَةِ مِن مُوسى؛ لِأنَّهم احْتَقَرُوهُ وأحالُوا أنْ يَكُونَ رَسُولًا مِن اللهِ وهو مِن قَوْمٍ مُسْتَعْبَدِينَ اسْتَعْبَدَهم فِرْعَوْنُ وقَوْمُهُ، وهَذا وجْهُ اخْتِيارِ التَّعْبِيرِ عَنْ إعْراَضِهِمْ عَنْ دَعْوَتِهِ بِالِاسْتِكْبارِ كَما حَكى اللهُ عَنْهم فَقالُوا ﴿أنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ﴾ [المؤمنون: ٤٧]
وتَفْرِيعُ اسْتَكْبَرُوا عَلى جُمْلَةِ بَعَثْنا يَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّ إعْراضٍ مِنهم وإنْكارٍ في مُدَّةِ الدَّعْوَةِ والبَعْثَةِ هو اسْتِكْبارٌ.
وجُمْلَةُ ﴿وكانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ وقَدْ كانَ الإجْرامُ دَأْبَهم وخُلُقَهم فَكانَ اسْتِكْبارُهم عَلى مُوسى مِن جُمْلَةِ إجْرامِهِمْ.
(p-٢٤٨)والإجْرامُ: فِعْلُ الجُرْمِ، وهو الجِنايَةُ والذَّنْبُ العَظِيمُ. وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ - تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِينَ﴾ [الأعراف: ٤٠] في سُورَةِ الأعْرافِ.
وقَدْ كانَ الفَراعِنَةُ طُغاةً جَبابِرَةً فَكانُوا يَعْتَبِرُونَ أنْفُسَهم آلِهَةً لِلْقِبْطِ وكانُوا قَدْ وضَعُوا شَرائِعَ لا تَخْلُو عَنْ جَوْرٍ، وكانُوا يَسْتَعْبِدُونَ الغُرَباءَ، وقَدِ اسْتَعْبَدُوا بَنِي إسْرائِيلَ وأذَلُّوهم قُرُونًا فَإذا سَألُوا حَقَّهُمُ اسْتَأْصَلُوهم ومَثَّلُوا بِهِمْ وقَتَلُوهم، كَما حَكى اللَّهُ عَنْهم ﴿إنَّ فِرْعَوْنَ عَلا في الأرْضِ وجَعَلَ أهْلَها شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنهم يُذَبِّحُ أبْناءَهم ويَسْتَحْيِي نِساءَهم إنَّهُ كانَ مِنَ المُفْسِدِينَ﴾ [القصص: ٤]، وكانَ القِبْطُ يَعْتَقِدُونَ أوْهامًا ضالَّةً وخُرافاتٍ، فَلِذَلِكَ قالَ اللَّهُ - تَعالى: ﴿وكانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾، أيْ فَلا يُسْتَغْرَبُ اسْتِكْبارُهم عَنِ الحَقِّ والرَّشادِ، ألا تَرى إلى قَوْلِهِمْ في مُوسى وهارُونَ ﴿إنْ هَذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أنْ يُخْرِجاكم مِن أرْضِكم بِسِحْرِهِما ويَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ المُثْلى﴾ [طه: ٦٣] فَأغْراهُمُ الغَرُورُ عَلى أنَّ سَمَّوْا ضَلالَهم وخَوَرَهم طَرِيقَةً مُثْلى.
وعَبَّرَ بِـ قَوْمًا مُجْرِمِينَ دُونَ كانُوا مُجْرِمِينَ لِلْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ وفي مَواضِعَ مِن هَذِهِ السُّورَةِ.
{"ayah":"ثُمَّ بَعَثۡنَا مِنۢ بَعۡدِهِم مُّوسَىٰ وَهَـٰرُونَ إِلَىٰ فِرۡعَوۡنَ وَمَلَإِی۟هِۦ بِـَٔایَـٰتِنَا فَٱسۡتَكۡبَرُوا۟ وَكَانُوا۟ قَوۡمࣰا مُّجۡرِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق