الباحث القرآني
﴿هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ والنَّهارَ مُبْصِرًا إنَّ في ذَلِكَ لِآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ﴿إنْ يَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ﴾ [يونس: ٦٦] وجُمْلَةِ ﴿قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ﴾ [يونس: ٦٨] ولَدًا جاءَتْ مَجِيءَ الِاسْتِدْلالِ عَلى فَسادِ ظَنِّهِمْ وخَرْصِهِمْ بِشَواهِدِ خَلْقِ اللَّيْلِ والنَّهارِ المُشاهَدِ في كُلِّ يَوْمٍ مِنَ العُمْرِ مَرَّتَيْنِ وهم في غَفْلَةٍ عَنْ دَلالَتِهِ، وهو خَلْقُ نِظامِ النَّهارِ واللَّيْلِ.
وكَيْفَ كانَ النَّهارُ وقْتًا يَنْتَشِرُ فِيهِ النُّورُ فَيُناسِبُ المُشاهَدَةَ لِاحْتِياجِ النّاسِ في حَرَكاتِ أعْمالِهِمْ إلى إحْساسِ البَصَرِ الَّذِي بِهِ تَتَبَيَّنُ ذَواتُ الأشْياءِ وأحْوالُها لِتَناوُلِ الصّالِحِ مِنها في العَمَلِ ونَبْذِ غَيْرِ الصّالِحِ لِلْعَمَلِ.
وكَيْفَ كانَ اللَّيْلُ وقْتًا تَغْشاهُ الظُّلْمَةُ فَكانَ مُناسِبًا لِلسُّكُونِ لِاحْتِياجِ النّاسِ فِيهِ إلى الرّاحَةِ مِن تَعَبِ الأعْمالِ الَّتِي كَدَحُوا لَها في النَّهارِ. فَكانَتِ الظُّلْمَةُ باعِثَةً النّاسَ عَلى الرّاحَةِ ومُحَدِّدَةً لَهم إبّانَها بِحَيْثُ يَسْتَوِي في ذَلِكَ الفَطِنُ والغافِلُ.
(p-٢٢٧)ولَمّا قابَلَ السُّكُونَ في جانِبِ اللَّيْلِ بِالإبْصارِ في جانِبِ النَّهارِ، واللَّيْلُ والنَّهارُ ضِدّانِ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ عِلَّةَ السُّكُونِ عَدَمُ الإبْصارِ وأنَّ الإبْصارَ يَقْتَضِي الحَرَكَةَ فَكانَ في الكَلامِ احْتِباكٌ.
ووَصْفُ النَّهارِ بِمُبْصِرٍ مَجازٌ عَقْلِيٌّ لِلْمُبالَغَةِ في حُصُولِ الإبْصارِ فِيهِ حَتّى جَعَلَ النَّهارَ هو المُبْصِرَ. والمُرادُ: مُبْصِرًا فِيهِ النّاسُ.
ومِن لَطائِفِ المُناسَبَةِ أنَّ النُّورَ الَّذِي هو كَيْفِيَّةُ زَمَنِ النَّهارِ شَيْءٌ وُجُودِيٌّ فَكانَ زَمانُهُ حَقِيقًا بِأنْ يُوصَفَ بِأوْصافِ العُقَلاءِ، بِخِلافِ اللَّيْلِ فَإنَّ ظُلْمَتَهُ عَدَمِيَّةٌ فاقْتَصَرَ في العِبْرَةِ بِهِ عَلى ذِكْرِ الفائِدَةِ الحاصِلَةِ فِيهِ وهي أنْ يَسْكُنُوا فِيهِ.
وفِي قَوْلِهِ: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ﴾ طَرِيقٌ مِن طُرُقِ القَصْرِ وهو تَعْرِيفُ المُسْنَدِ والمُسْنَدِ إلَيْهِ. وهو هُنا قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ ولَيْسَ إضافِيًّا كَما تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الكاتِبِينَ إذْ جَعَلَهُ قَصْرَ تَعْيِينٍ، وهم مُعْتَرِفُونَ بِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ دَفْعَ هَذا الِاسْتِدْلالِ، فالمَقْصُودُ الِاسْتِدْلالُ عَلى انْفِرادِهِ - تَعالى - بِخَصائِصِ الإلَهِيَّةِ الَّتِي مِنها الخَلْقُ والتَّقْدِيرُ، وأنَّ آلِهَتَهُمُ انْتَفَتْ عَنْها خَصائِصُ الإلَهِيَّةِ، وقَدْ حَصَلَ مَعَ الِاسْتِدْلالِ امْتِنانٌ عَلى النّاسِ بِجَعْلِ اللَّيْلِ والنَّهارِ عَلى هَذا النِّظامِ. وهَذا الِامْتِنانُ مُسْتَفادٌ مِن قَوْلِهِ: ﴿جَعَلَ لَكُمْ﴾، ومِن تَعْلِيلِ خَلْقِ اللَّيْلِ بِعِلَّةِ سُكُونِ النّاسِ فِيهِ، وخَلْقِ النَّهارِ بِعِلَّةِ إبْصارِ النّاسِ، وكُلُّ النّاسِ يَعْلَمُونَ ما في سُكُونِ اللَّيْلِ مِن نِعْمَةٍ وما في إبْصارِهِمْ بِالنَّهارِ مِن نِعْمَةٍ كَذَلِكَ، فَإنَّ في العَمَلِ بِالنَّهارِ نِعَمًا جَمَّةً مِن تَحْصِيلِ رَغَباتٍ، ومُشاهَدَةِ مَحْبُوباتٍ، وتَحْصِيلِ أمْوالٍ وأقْواتٍ، وأنَّ في السُّكُونِ بِاللَّيْلِ نِعَمًا جَمَّةً مِنِ اسْتِجْمامِ القُوى المَنهُوكَةِ والإخْلادِ إلى مُحادَثَةِ الأهْلِ والأوْلادِ، عَلى أنَّ في اخْتِلافِ الأحْوالِ، ما يَدْفَعُ عَنِ المَرْءِ المَلالَ.
وفِي إدْماجِ الِاسْتِدْلالِ بِالِامْتِنانِ تَعْرِيضٌ بِأنَّ الَّذِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ جَمَعُوا وصْمَتَيْنِ هُما: وصْمَةُ مُخالَفَةِ الحَقِّ، ووَصْمَةُ كُفْرانِ النِّعْمَةِ.
وجُمْلَةُ ﴿إنَّ في ذَلِكَ لِآياتٍ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ. والآياتُ: الدَّلائِلُ الدّالَّةُ عَلى وحْدانِيَّةِ اللَّهِ - تَعالى - بِالإلَهِيَّةِ، فَإنَّ النِّظامَ الَّذِي نَشَأ عَنْهُ اللَّيْلُ والنَّهارُ مُشْتَمِلٌ عَلى دَقائِقَ كَثِيرَةٍ مِنَ العِلْمِ والحِكْمَةِ والقُدْرَةِ وإتْقانِ الصُّنْعِ.
(p-٢٢٨)فَمِن تِلْكَ الآياتِ: خَلْقُ الشَّمْسِ، وخَلْقُ الأرْضِ، وخَلْقُ النُّورِ في الشَّمْسِ وخَلْقُ الظُّلْمَةِ في الأرْضِ، ووُصُولُ شُعاعِ الشَّمْسِ إلى الأرْضِ، ودَوَرانُ الأرْضِ كُلَّ يَوْمٍ بِحَيْثُ يَكُونُ نِصْفُ كُرَتِها مُواجِهًا لِلشُّعاعِ ونِصْفُها الآخَرُ مَحْجُوبًا عَنِ الشُّعاعِ، وخَلْقُ الإنْسانِ، وجَعْلُ نِظامِ مِزاجِهِ العَصَبِيِّ مُتَأثِّرًا بِالشُّعاعِ نَشاطًا، وبِالظُّلْمَةِ فُتُورًا، وخَلْقُ حاسَّةِ البَصَرِ، وجَعْلُها مُقْتَرِنَةً بِتَأثُّرِ الضَّوْءِ؛ وجَعْلُ نِظامِ العَمَلِ مُرْتَبِطًا بِحاسَّةِ البَصَرِ؛ وخَلْقُ نِظامِ المِزاجِ الإنْسانِيِّ مُشْتَمِلًا عَلى قُوى قابِلَةٍ لِلْقُوَّةِ والضَّعْفِ ثُمَّ مَدْفُوعًا إلى اسْتِعْمالِ قُواهُ بِقَصْدٍ وبِغَيْرِ قَصْدٍ بِسَبَبِ نَشاطِهِ العَصَبِيِّ، ثُمَّ فاقِدًا بِالعَمَلِ نَصِيبًا مِن قُواهُ مُحْتاجًا إلى الِاعْتِياضِ بِقُوى تَخَلُّفِها بِالسُّكُونِ والفُتُورِ الَّذِي يُلْجِئُهُ إلى تَطَلُّبِ الرّاحَةِ. وأيَّةُ آياتٍ أعْظَمُ مِن هَذِهِ، وأيَّةُ مِنَّةٍ عَلى الإنْسانِ أعْظَمُ مِن إيداعٍ لِلَّهِ فِيهِ دَواعِيَ تَسُوقُهُ إلى صَلاحِهِ وصَلاحِ نَوْعِهِ بِداعٍ مِن نَفْسِهِ.
ووُصِفَ ”قَوْمٌ“ بِأنَّهم ”يَسْمَعُونَ“ إشارَةً إلى أنَّ تِلْكَ الآياتِ والدَّلائِلَ تَنْهَضُ دَلالَتُها لِلْعُقُولِ بِالتَّأمُّلِ فِيها، وأنَّ تَوَجُّهَ التَّفْكِيرِ إلى دَلائِلِها غَيْرُ مُحْتاجٍ إلّا إلى التَّنْبِيهِ عَلَيْها ولَفْتِهِ إلَيْها، فَلَمّا كانَ سَماعُ تَذْكِيرِ اللَّهِ بِها هو الأصْلُ الأصِيلُ في اسْتِخْراجِ دَلالَتِها أوْ تَفْرِيعِ مَدْلُولاتِها عَلى تَفاوُتِ الأذْهانِ في الفِطْنَةِ وتَرْتِيبِ الأدِلَّةِ جَعَلَ آياتِ دَلالَتِها حاصِلَةً لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ.
ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ يَسْمَعُونَ تَفاصِيلَ تِلْكَ الدَّلائِلِ في تَضاعِيفِ سُوَرِ القُرْآنِ. وعَلى كِلا الِاحْتِمالَيْنِ فالوَصْفُ بِالسَّمْعِ تَعْرِيضٌ بِأنَّ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِها ولا تَفَطَّنُوا لِدَلالَتِها بِمَنزِلَةِ الصُّمِّ، كَقَوْلِهِ - تَعالى: ﴿أفَأنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أوْ تَهْدِي العُمْيَ﴾ [الزخرف: ٤٠]
{"ayah":"هُوَ ٱلَّذِی جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّیۡلَ لِتَسۡكُنُوا۟ فِیهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَسۡمَعُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق