الباحث القرآني
﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكائِكم مَن يَهْدِي إلى الحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أفَمَن يَهْدِي إلى الحَقِّ أحَقُّ أنْ يُتَّبَعَ أمَّنْ لا يَهَدِّي إلّا أنْ يُهْدى فَما لَكم كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾
هَذا تَكْرِيرٌ آخَرُ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿قُلْ هَلْ مِن شُرَكائِكم مَن يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ [يونس: ٣٤] . وهَذا اسْتِدْلالٌ بِنُقْصانِ آلِهَتِهِمْ عَنِ الإرْشادِ إلى الكَمالِ النَّفْسانِيِّ بِنَشْرِ الحَقِّ، وبِأنَّ اللَّهَ - تَعالى - (p-١٦٢)هُوَ الهادِي إلى الكَمالِ والحَقِّ، ومَجْمُوعُ الجُمْلَتَيْنِ مُفِيدٌ قَصْرَ صِفَةِ الهِدايَةِ إلى الحَقِّ عَلى اللَّهِ - تَعالى - دُونَ آلِهَتِهِمْ قَصْرَ إفْرادٍ، كَما تَقَدَّمَ في نَظِيرِهِ آنِفًا. ومَعْلُومٌ أنَّ مِنَّةَ الهِدايَةِ إلى الحَقِّ أعْظَمُ المِنَنِ لِأنَّ بِها صَلاحَ المُجْتَمِعِ وسَلامَةَ أفْرادِهِ مِنِ اعْتِداءِ قَوِيِّهِمْ عَلى ضَعِيفِهِمْ، ولَوْلا الهِدايَةُ لَكانَتْ نِعْمَةُ الإيجادِ مُخْتَلَّةً أوْ مُضْمَحِلَّةً.
والمُرادُ بِالحَقِّ الدِّينُ، وهو الأعْمالُ الصّالِحَةُ، وأُصُولُهُ وهي الِاعْتِقادُ الصَّحِيحُ.
وقَدْ أتْبَعَ الِاسْتِدْلالَ عَلى كَمالِ الخالِقِ بِبَدْءِ الخَلْقِ وإعادَتِهِ بِالِاسْتِدْلالِ عَلى كَمالِهِ بِالهِدايَةِ كَما في قَوْلِ إبْراهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهو يَهْدِينِ﴾ [الشعراء: ٧٨] وقَوْلِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - ﴿رَبُّنا الَّذِي أعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى﴾ [طه: ٥٠] وقَوْلِهِ - تَعالى: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلى الَّذِي خَلَقَ فَسَوّى والَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) . وذَلِكَ أنَّ الإنْسانَ الَّذِي هو أكْمَلُ ما عَلى الأرْضِ مُرَكَّبٌ مِن جَسَدٍ ورُوحٍ، فالِاسْتِدْلالُ عَلى وُجُودِ الخالِقِ وكَمالِهِ بِإيجادِ الأجْسادِ وما فِيها هو الخَلْقُ، والِاسْتِدْلالُ عَلَيْهِ بِنِظامِ أحْوالِ الأرْواحِ وصَلاحِها هو الهِدايَةُ.
وقَوْلُهُ: ﴿أفَمَن يَهْدِي إلى الحَقِّ أحَقُّ أنْ يُتَّبَعَ﴾ إلى آخِرِهِ تَفْرِيعُ اسْتِفْهامٍ تَقْرِيرِيٍّ عَلى ما أفادَتْهُ الجُمْلَتانِ السّابِقَتانِ مِن قَصْرِ الهِدايَةِ إلى الحَقِّ عَلى اللَّهِ - تَعالى - دُونَ آلِهَتِهِمْ. وهَذا مِمّا لا يَنْبَغِي أنْ يَخْتَلِفَ فِيهِ أهْلُ العُقُولِ بِأنَّ الَّذِي يَهْدِي إلى الحَقِّ يُوصِلُ إلى الكَمالِ الرُّوحانِيِّ وهو الكَمالُ الباقِي إلى الأبَدِ وهو الكَوْنُ المَصُونُ عَنِ الفَسادِ فَإنَّ خَلْقَ الأجْسادِ مَقْصُودٌ لِأجْلِ الأرْواحِ، والأرْواحُ مُرادٌ مِنها الِاهْتِداءُ، فالمَقْصُودُ الأعْلى هو الهِدايَةُ. وإذْ قَدْ كانَتِ العُقُولُ عُرْضَةً لِلِاضْطِرابِ والخَطَأِ احْتاجَتِ النُّفُوسُ إلى هَدْيٍ يُتَلَقّى مِنَ الجانِبِ المَعْصُومِ عَنِ الخَطَأِ وهو جانِبُ اللَّهِ تَعالى، فَلِذَلِكَ كانَ الَّذِي يَهْدِي إلى الحَقِّ أحَقُّ أنْ يُتَّبَعَ لِأنَّهُ مُصْلِحُ النُّفُوسِ ومُصْلِحُ نِظامِ العالَمِ البِشْرِيِّ، فاتِّباعُهُ واجِبٌ عَقْلًا واتِّباعُ غَيْرِهِ لا مُصَحِّحَ لَهُ، إذْ لا غايَةَ تُرْجى مِنِ اتِّباعِهِ. وأفْعالُ العُقَلاءِ تُصانُ عَنِ العَبَثِ.
وقَوْلُهُ: ﴿أمَّنْ لا يَهَدِّي إلّا أنْ يُهْدى﴾ أيِ الَّذِي لا يَهْتَدِي فَضْلًا عَنْ أنْ يَهْدِيَ غَيْرَهُ، أيْ لا يَقْبَلُ الهِدايَةَ فَكَيْفَ يَهْدِي غَيْرَهُ فَلا يَحِقُّ لَهُ أنْ يُتَّبَعَ.
(p-١٦٣)والمُرادُ بِـ (مَن لا يَهِدِّي) الأصْنامُ فَإنَّها لا تَهْتَدِي إلى شَيْءٍ، كَما قالَ إبْراهِيمُ ﴿يا أبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ ولا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ [مريم: ٤٢]
وقَدِ اخْتَلَفَ القُرّاءُ في قَوْلِهِ: ﴿أمَّنْ لا يَهَدِّي﴾ فَقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو عَمْرٍو - بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وفَتْحِ الهاءِ - عَلى أنَّ أصْلَهُ يَهْتَدِي، أُبْدِلَتِ التّاءُ دالًا لِتَقارُبِ مَخْرَجَيْهِما وأُدْغِمَتْ في الدّالِ ونُقِلَتْ حَرَكَةُ التّاءِ إلى الهاءِ السّاكِنَةِ (ولا أهَمِّيَّةَ إلى قِراءَةِ قالُونَ عَنْ نافِعٍ وإلى قِراءَةِ أبِي عَمْرٍو بِجَعْلِ فَتْحِ الهاءِ مُخْتَلَسًا بَيْنَ الفَتْحِ والسُّكُونِ لِأنَّ ذَلِكَ مِن وُجُوهِ الأداءِ فَلا يُعَدُّ خِلافًا في القِراءَةِ) .
وقَرَأ حَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ، ويَعْقُوبُ - بِفَتْحِ الياءِ وكَسْرِ الهاءِ وتَشْدِيدِ الدّالِ - عَلى اعْتِبارِ طَرْحِ حَرَكَةِ التّاءِ المُدْغَمَةِ واخْتِلافِ كَسْرَةٍ عَلى الهاءِ عَلى أصْلِ التَّخَلُّصِ مِنِ التِقاءِ السّاكِنَيْنِ. وقَرَأ أبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ - بِكَسْرِ الياءِ وكَسْرِ الهاءِ - بِإتْباعِ كَسْرَةِ الياءِ لِكَسْرَةِ الهاءِ. وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ وخَلَفٌ - بِفَتْحِ الياءِ وسُكُونِ الهاءِ وتَخْفِيفِ الدّالِ - عَلى أنَّهُ مُضارِعُ ”هَدى“ القاصِرِ بِمَعْنى اهْتَدى، كَما يُقالُ: شَرى بِمَعْنى اشْتَرى.
والِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِ: ﴿إلّا أنْ يُهْدى﴾ تَهَكُّمٌ مِن تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِما يُشْبِهُ ضِدَّهُ. وأُرِيدَ بِالهَدْيِ النَّقْلُ مِن مَوْضِعٍ إلى مَوْضِعٍ أيْ لا تَهْتَدِي إلى مَكانٍ إلّا إذا نَقَلَها النّاسُ ووَضَعُوها في المَكانِ الَّذِي يُرِيدُونَهُ لَها، فَيَكُونُ النَّقْلُ مِن مَكانٍ إلى آخَرَ شُبِّهَ بِالسَّيْرِ فَشُبِّهَ المَنقُولُ بِالسّائِرِ عَلى طَرِيقَةِ المَكْنِيَّةِ، ورَمَزَ إلى ذَلِكَ بِما هو مِن لَوازِمِ السَّيْرِ وهو الهِدايَةُ في ﴿لا يَهَدِّي إلّا أنْ يُهْدى﴾
وجَوَّزَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ أنْ يَكُونَ فِعْلُ ﴿إلّا أنْ يُهْدى﴾ بِمَعْنى إهْداءِ العَرُوسِ، أيْ نَقْلِها مِن بَيْتِ أهْلِها إلى بَيْتِ زَوْجِها، فَيُقالُ: هُدِيَتْ إلى زَوْجِها.
وجُمْلَةُ ﴿فَما لَكم كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ تَفْرِيعُ اسْتِفْهامٍ تَعْجِيبِيٍّ عَلى اتِّباعِهِمْ مَن لا يَهْتَدِي بِحالٍ. واتِّباعُهم هو عِبادَتُهم إيّاهم.
فـَ ما اسْتِفْهامِيَّةٌ مُبْتَدَأٌ، ولَكم خَبَرٌ، واللّامُ لِلِاخْتِصاصِ. والمَعْنى: أيُّ شَيْءٍ ثَبَتَ لَكم فاتَّبَعْتُمْ مَن لا يَهْتَدِي بِنَفْسِهِ نَقْلًا مِن مَكانٍ إلى مَكانٍ.
(p-١٦٤)وقَوْلُ العَرَبِ: ما لَكَ ؟ ونَحْوَهُ اسْتِفْهامٌ يُعامَلُ مُعامَلَةَ الِاسْتِفْهامِ في حَقِيقَتِهِ ومَجازِهِ. وفي الحَدِيثِ «أنَّ رَجُلًا قالَ لِلنَّبِيءِ ﷺ دُلَّنِي عَلى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ، فَقالَ النّاسُ ”ما لَهُ ! ما لَهُ“ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أرَبٌ. . . ما لَهُ» ؟ . فَإذا كانَ المُسْتَفْهَمُ عَنْهُ حالًا ظاهِرَةً لَمْ يَحْتَجْ إلى ذِكْرِ شَيْءٍ بَعْدَ (ما لَهُ) كَما وقَعَ في الحَدِيثِ.
وجَعَلَ الزَّجّاجُ هَذِهِ الآيَةَ مِنهُ فَقالَ: ما لَكم: كَلامٌ تامٌّ، أيْ أيُّ شَيْءٍ لَكم في عِبادَةِ الأوْثانِ.
قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ووَقَفَ القُرّاءُ فَما لَكم ثُمَّ يَبْدَأُ ﴿كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ .
وإذا كانَ بِخِلافِ ذَلِكَ أتْبَعُوا الِاسْتِفْهامَ بِحالٍ وهو الغالِبُ كَقَوْلِهِ - تَعالى: ﴿ما لَكم لا تَناصَرُونَ﴾ [الصافات: ٢٥] ﴿فَما لَهم عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾ [المدثر: ٤٩] ولِذَلِكَ قالَ بَعْضُ النُّحاةِ: مِثْلُ هَذا الكَلامِ لا يَتِمُّ بِدُونِ ذِكْرِ حالٍ بَعْدَهُ، فالخِلافُ بَيْنَ كَلامِهِمْ وكَلامِ الزَّجّاجِ لَفْظِيٌّ.
وجُمْلَةُ ﴿كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ اسْتِفْهامٌ يَتَنَزَّلُ مَنزِلَةَ البَيانِ لِما في جُمْلَةِ ما لَكم مِنَ الإجْمالِ ولِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنْها فَهو مِثْلُهُ اسْتِفْهامٌ تَعْجِيبِيٌّ مِن حُكْمِهِمُ الضّالِّ إذْ حَكَمُوا بِإلَهِيَّةِ مَن لا يَهْتَدِي فَهو تَعْجِيبٌ عَلى تَعْجِيبٍ.
ولَكَ أنْ تَجْعَلَ هَذِهِ الجُمْلَةَ دَلِيلًا عَلى حالٍ مَحْذُوفَةٍ.
{"ayah":"قُلۡ هَلۡ مِن شُرَكَاۤىِٕكُم مَّن یَهۡدِیۤ إِلَى ٱلۡحَقِّۚ قُلِ ٱللَّهُ یَهۡدِی لِلۡحَقِّۗ أَفَمَن یَهۡدِیۤ إِلَى ٱلۡحَقِّ أَحَقُّ أَن یُتَّبَعَ أَمَّن لَّا یَهِدِّیۤ إِلَّاۤ أَن یُهۡدَىٰۖ فَمَا لَكُمۡ كَیۡفَ تَحۡكُمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق