الباحث القرآني

وهي مَدَنِيَّةٌ في قَوْلِ الجُمْهُورِ، وقِيلَ مَكِّيَّةٌ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ لَمْ يَكُنْ بِالمَدِينَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: نَزَلَتْ سُورَةُ لَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ. وأخْرَجَ أبُو نُعَيْمٍ في المَعْرِفَةِ عَنْ إسْماعِيلَ بْنِ أبِي حَكِيمٍ المُزَنِيِّ، حَدَّثَنِي فَضْلٌ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ يَسْتَمِعُ قِراءَةَ ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فَيَقُولُ: أبْشِرْ عَبْدِي وعِزَّتِي وجَلالِي لَأُمْكِنَنَّ لَكَ في الجَنَّةِ حَتّى تَرْضى» قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا. وأخْرَجَهُ أبُو مُوسى المَدِينِيُّ عَنْ مَطَرٍ المُزَنِيِّ، أوِ المَدَنِيِّ بِنَحْوِهِ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُما عَنْ أنَسٍ قالَ: «قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: إنَّ اللَّهَ أمَرَنِي أنْ أقْرَأ عَلَيْكَ ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قالَ: وسَمّانِي لَكَ ؟ قالَ: نَعَمْ. فَبَكى» . وأخْرَجَ أحْمَدُ وابْنُ قانِعٍ في مُعْجَمِ الصَّحابَةِ والطَّبَرانِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبِي حَيَّةَ البَدْرِيِّ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ﴾ إلى آخِرِها قالَ جِبْرِيلُ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أنْ تُقْرِئَها أُبَيًّا، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأُبَيٍّ: إنَّ جِبْرِيلَ أمَرَنِي أنْ أُقْرِئَكَ هَذِهِ السُّورَةَ، فَقالَ أُبَيٌّ: وقَدْ ذُكِرْتُ ثَمَّ يا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قالَ: نَعَمْ، فَبَكى» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ المُرادُ بِـ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ﴾ اليَهُودُ والنَّصارى، والمُرادُ بِـ المُشْرِكِينَ مُشْرِكُو العَرَبِ، وهم عَبَدَةُ الأوْثانِ، ومُنْفَكِّينَ خَبَرُ كانَ، يُقالُ فَكَكْتُ الشَّيْءَ فانْفَكَّ: أيِ انْفَصَلَ، والمَعْنى: أنَّهم لَمْ يَكُونُوا مُفارِقِينَ لِكُفْرِهِمْ ولا مُنْتَهِينَ عَنْهُ ﴿حَتّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ﴾ وقِيلَ الِانْفِكاكُ بِمَعْنى الِانْتِهاءِ وبُلُوغِ الغايَةِ: أيْ لَمْ يَكُونُوا يَبْلُغُونَ نِهايَةَ أعْمارِهِمْ فَيَمُوتُوا حَتّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ، وقِيلَ مُنْفَكِّينَ: زائِلِينَ: أيْ لَمْ تَكُنْ مُدَّتُهم لِتَزُولَ حَتّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ، يُقالُ ما انْفَكَّ فُلانٌ قائِمًا: أيْ ما زالَ قائِمًا، وأصْلُ الفَكِّ الفَتْحُ، ومِنهُ فَكُّ الخَلْخالِ. وقِيلَ مُنْفَكِّينَ بارِحِينَ: أيْ لَمْ يَكُونُوا لِيَبْرَحُوا أوْ يُفارِقُوا الدُّنْيا حَتّى تَأْتِيَهُمُ البَيِّنَةُ. وقالَ ابْنُ كَيْسانَ: المَعْنى (p-١٦٤٣)لَمْ يَكُنْ أهْلُ الكِتابِ تارِكِينَ صِفَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ حَتّى يُبْعَثَ، فَلَمّا بُعِثَ حَسَدُوهُ وجَحَدُوهُ، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿فَلَمّا جاءَهم ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩] وعَلى هَذا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: والمُشْرِكِينَ أنَّهم ما كانُوا يُسِيئُونَ القَوْلَ في مُحَمَّدٍ ﷺ حَتّى بُعِثَ، فَإنَّهم كانُوا يُسَمُّونَهُ الأمِينَ، فَلَمّا بُعِثَ عادَوْهُ وأساءُوا القَوْلَ فِيهِ. وقِيلَ: مُنْفَكِّينَ هالِكِينَ، مِن قَوْلِهِمُ: انْفَكَّ صُلْبُهُ: أيِ انْفَصَلَ فَلَمْ يَلْتَئِمْ فَيَهْلِكُ، والمَعْنى: لَمْ يَكُونُوا مُعَذَّبِينَ ولا هالِكِينَ إلّا بَعْدَ قِيامِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. وقِيلَ إنَّ المُشْرِكِينَ هم أهْلُ الكِتابِ، فَيَكُونُ وصْفًا لَهم لِأنَّهم قالُوا المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وعُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. قالَ الواحِدِيُّ: ومَعْنى الآيَةِ إخْبارُ اللَّهِ تَعالى عَنِ الكُفّارِ أنَّهم لَنْ يَنْتَهُوا عَنْ كُفْرِهِمْ وشِرْكِهِمْ بِاللَّهِ حَتّى أتاهم مُحَمَّدٌ ﷺ بِالقُرْآنِ، فَبَيَّنَ لَهم ضَلالَتَهم وجَهالَتَهم ودَعاهم إلى الإيمانِ، وهَذا بَيانٌ عَنِ النِّعْمَةِ والإنْقاذِ بِهِ مِنَ الجَهْلِ والضَّلالَةِ والآيَةُ في مَن آمَنَ مِنَ الفَرِيقَيْنِ. قالَ: وهَذِهِ الآيَةُ مِن أصْعَبِ ما في القُرْآنِ نَظْمًا وتَفْسِيرًا، وقَدْ تَخَبَّطَ فِيها الكِبارُ مِنَ العُلَماءِ، وسَلَكُوا في تَفْسِيرِها طُرُقًا لا تُفْضِي بِهِمْ إلى الصَّوابِ. والوَجْهُ ما أخْبَرْتُكَ فاحْمَدِ اللَّهَ إذْ أتاكَ بَيانُها مِن غَيْرِ لَبْسٍ ولا إشْكالٍ. قالَ: ويَدُلُّ عَلى أنَّ البَيِّنَةَ مُحَمَّدٌ ﷺ أنَّهُ فَسَّرَها وأُبْدِلَ مِنها فَقالَ: ﴿رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً﴾ يَعْنِي ما تَتَضَمَّنُهُ الصُّحُفُ مِنَ المَكْتُوبِ فِيها، وهو القُرْآنُ، ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أنَّهُ كانَ يَتْلُو عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ، لا عَنْ كِتابٍ. انْتَهى كَلامُهُ. وقِيلَ إنَّ الآيَةَ حِكايَةٌ لِما كانَ يَقُولُهُ أهْلُ الكِتابِ والمُشْرِكُونَ إنَّهم لا يُفارِقُونَ دِينَهم حَتّى يُبْعَثَ النَّبِيُّ المَوْعُودُ بِهِ، فَلَمّا بُعِثَ تَفَرَّقُوا كَما حَكاهُ اللَّهُ عَنْهم في هَذِهِ السُّورَةِ. والبَيِّنَةُ عَلى ما قالَهُ الجُمْهُورُ هو مُحَمَّدٌ ﷺ، لِأنَّهُ في نَفْسِهِ بَيِّنَةٌ وحُجَّةٌ ولِذَلِكَ سَمّاهُ سِراجًا مُنِيرًا. وقَدْ فَسَّرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ هَذِهِ البَيِّنَةَ المُجْمَلَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ﴾ فاتَّضَحَ الأمْرُ وتَبَيَّنَ أنَّهُ المُرادُ بِالبَيِّنَةِ. وقالَ قَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ: البَيِّنَةُ هي القُرْآنُ كَقَوْلِهِ: ﴿أوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما في الصُّحُفِ الأُولى﴾ [طه: ١٣٣] وقالَ أبُو مُسْلِمٍ: المُرادُ بِالبَيِّنَةِ مُطْلَقُ الرُّسُلِ، والمَعْنى: حَتّى تَأْتِيَهم رُسُلٌ مِنَ اللَّهِ، وهُمُ المَلائِكَةُ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ صُحُفًا مُطَهَّرَةً، والأوَّلُ أوْلى. قَرَأ الجُمْهُورُ ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ﴾ وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ " لَمْ يَكُنِ المُشْرِكُونَ وأهْلُ الكِتابِ " قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: وهي قِراءَةٌ في مَعْرِضِ البَيانِ، لا في مَعْرِضِ التِّلاوَةِ. وقَرَأ الأعْمَشُ، والنَّخَعِيُّ: " والمُشْرِكُونَ " بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلى المَوْصُولِ. وقَرَأ أُبَيٌّ " فَما كانَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكُونَ " . قَرَأ الجُمْهُورُ ﴿رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ﴾ بِرَفْعِ " رَسُولٍ " عَلى أنَّهُ بَدَلٌ كُلٍّ مِن كُلٍّ مُبالَغَةً، أوْ بَدَلُ اشْتِمالٍ. قالَ الزَّجّاجُ: رَسُولٌ رُفِعَ عَلى البَدَلِ مِنَ البَيِّنَةِ. وقالَ الفَرّاءُ: رُفِعَ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ: أيْ هي رَسُولٌ أوْ هو رَسُولٌ. وقَرَأ أُبَيٌّ، وابْنُ مَسْعُودٍ " رَسُولًا " بِالنَّصْبِ عَلى القَطْعِ، وقَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هو صِفَةٌ لِرَسُولٍ: أيْ كائِنٌ مِنَ اللَّهِ، ويَجُوزُ تَعَلُّقُهُ بِنَفْسِ رَسُولٍ، وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ أنْ يَكُونَ حالًا مِن صُحُفٍ، والتَّقْدِيرُ: يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً مُنَزَّلَةً مِنَ اللَّهِ، وقَوْلُهُ: ﴿يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ صِفَةً أُخْرى لِرَسُولٍ، أوْ حالًا مِن مُتَعَلِّقِ الجارِّ والمَجْرُورِ قَبْلَهُ. ومَعْنى يَتْلُو: يَقْرَأُ، يُقالُ تَلا يَتْلُو تِلاوَةً، والصُّحُفُ جَمْعُ صَحِيفَةٍ، وهي ظَرْفُ المَكْتُوبِ، ومَعْنى مُطَهَّرَةً: أنَّها مُنَزَّهَةٌ مِنَ الزُّورِ والضَّلالِ. قالَ قَتادَةُ: مُطَهَّرَةٌ مِنَ الباطِلِ، وقِيلَ مُطَهَّرَةٌ مِنَ الكَذِبِ والشُّبُهاتِ والكُفْرِ، والمَعْنى واحِدٌ، والمَعْنى: أنَّهُ يَقْرَأُ ما تَتَضَمَّنُهُ الصُّحُفُ مِنَ المَكْتُوبِ فِيها لِأنَّهُ كانَ ﷺ يَتْلُو عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ، لا عَنْ كِتابٍ كَما تَقَدَّمَ. وقَوْلُهُ: ﴿فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ صِفَةٌ لِ صُحُفًا أوْ حالٌ مِن ضَمِيرِها، والمُرادُ الآياتُ والأحْكامُ المَكْتُوبَةُ فِيها، والقِيمَةُ المُسْتَقِيمَةُ المُسْتَوِيَةُ المَحْكَمَةُ، مِن قَوْلِ العَرَبِ: قامَ الشَّيْءُ: إذا اسْتَوى وصَحَّ. وقالَ صاحِبُ النَّظْمِ: الكُتُبُ بِمَعْنى الحُكْمِ كَقَوْلِهِ: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأغْلِبَنَّ أنا ورُسُلِي﴾ [المجادلة: ٢١] أيْ حَكَمَ، وقَوْلِهِ ﷺ في قِصَّةِ العَسِيفِ: لَأقْضِيَنَّ بَيْنَكُما بِكِتابِ اللَّهِ ثُمَّ قَضى بِالرَّجْمِ، ولَيْسَ الرَّجْمُ في كِتابِ اللَّهِ، فالمَعْنى: لَأقْضِيَنَّ بَيْنَكُما بِحُكْمِ اللَّهِ، وبِهَذا يَنْدَفِعُ ما قِيلَ إنَّ الصُّحُفَ هي الكُتُبُ، فَكَيْفَ قالَ ﴿صُحُفًا مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ وقالَ الحَسَنُ: يَعْنِي بِالصُّحُفِ المُطَهَّرَةِ الَّتِي في السَّماءِ، يَعْنِي في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿بَلْ هو قُرْآنٌ مَجِيدٌ في لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [البروج: ٢٢، ٢١] ﴿وما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ﴾ هَذِهِ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَوْبِيخِ أهْلِ الكِتابِ وتَقْرِيعِهِمْ، وبَيانِ أنَّ ما نُسِبَ إلَيْهِمْ مِن عَدَمِ الِانْفِكاكِ لَمْ يَكُنْ لِاشْتِباهِ الأمْرِ، بَلْ كانَ بَعْدَ وُضُوحِ الحَقِّ وظُهُورِ الصَّوابِ. قالَ المُفَسِّرُونَ: لَمْ يَزَلْ أهْلُ الكِتابِ مُجْتَمِعِينَ حَتّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا، فَلَمّا بُعِثَ تَفَرَّقُوا في أمْرِهِ واخْتَلَفُوا، فَآمَنَ بِهِ بَعْضُهم وكَفَرَ آخَرُونَ. وخَصَّ أهْلَ الكِتابِ، وإنْ كانَ غَيْرُهم مِثْلَهم في التَّفَرُّقِ بَعْدَ مَجِيءِ البَيِّنَةِ لِأنَّهم كانُوا أهْلَ عِلْمٍ، فَإذا تَفَرَّقُوا كانَ غَيْرُهم مِمَّنْ لا كِتابَ لَهُ أُدْخِلَ في هَذا الوَصْفِ، والِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِ: ﴿إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ﴾ مُفَرَّغٌ مِن أعَمِّ الأوْقاتِ: أيْ وما تَفَرَّقُوا في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الحُجَّةُ الواضِحَةُ، وهي بَعْثَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالشَّرِيعَةِ الغَرّاءِ والمَحَجَّةِ البَيْضاءِ. وقِيلَ: البَيِّنَةُ: البَيانُ الَّذِي في كُتُبِهِمْ أنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ كَقَوْلِهِ: ﴿وما اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلّا مِن بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ﴾ [آل عمران: ١٩] قالَ القُرْطُبِيُّ: قالَ العُلَماءُ: مِن أوَّلِ السُّورَةِ إلى قَوْلِهِ: ﴿كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ حُكْمُها فِيمَن آمَنَ مِن أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ. وقَوْلُهُ: ﴿وما تَفَرَّقَ﴾ إلَخْ فِيمَن لَمْ يُؤْمِنُوا مِن أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ بَعْدَ قِيامِ الحُجَجِ. وجُمْلَةُ ﴿وما أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مُفِيدَةٌ لِتَقْرِيعِهِمْ وتَوْبِيخِهِمْ بِما فَعَلُوا مِنَ التَّفَرُّقِ بَعْدَ مَجِيءِ البَيِّنَةِ: أيْ والحالُ أنَّهم ما أُمِرُوا في كُتُبِهِمْ إلّا لِأجْلِ أنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ ويُوَحِّدُوهُ حالَ كَوْنِهِمْ ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ أيْ جاعِلِينَ دِينَهم خالِصًا لَهُ سُبْحانَهُ أوْ جاعِلِينَ أنْفُسَهم خالِصَةً لَهُ في الدِّينِ، وقِيلَ إنَّ اللّامَ في لِيَعْبُدُوا بِمَعْنى أنْ: أيْ ما أُمِرُوا إلّا (p-١٦٤٤)بِأنْ يَعْبُدُوا كَقَوْلِهِ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكم﴾ [النساء: ٢٦] أيْ أنْ يُبَيِّنَ، و﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ﴾ [الصف: ٨] أيْ أنْ يُطْفِئُوا. قَرَأ الجُمْهُورُ مُخْلِصِينَ بِكَسْرِ اللّامِ. وقَرَأ الحَسَنُ بِفَتْحِها. وهَذِهِ الآيَةُ مِنَ الأدِلَّةِ الدّالَّةِ عَلى وُجُوبِ النِّيَّةِ في العِباداتِ لِأنَّ الإخْلاصَ مِن عَمَلِ القَلْبِ، وانْتِصابُ حُنَفاءَ عَلى الحالِ مِن ضَمِيرِ مُخْلِصِينَ، فَتَكُونُ مِن بابِ التَّداخُلِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مِن فاعِلِ يَعْبُدُوا، والمَعْنى: مائِلِينَ عَنِ الأدْيانِ كُلِّها إلى دِينِ الإسْلامِ. قالَ أهْلُ اللُّغَةِ: أصْلُهُ أنْ يَحْنِفَ إلى دِينِ الإسْلامِ: أيْ يَمِيلَ إلَيْهِ ﴿ويُقِيمُوا الصَّلاةَ ويُؤْتُوا الزَّكاةَ﴾ أيْ يَفْعَلُوا الصَّلَواتِ في أوْقاتِها، ويُعْطُوا الزَّكاةَ عِنْدَ مَحَلِّها، وخَصَّ الصَّلاةَ والزَّكاةَ لِأنَّهُما مِن أعْظَمِ أرْكانِ الدِّينِ. قِيلَ إنْ أُرِيدَ بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ ما في شَرِيعَةِ أهْلِ الكِتابِ مِنَ الصَّلاةِ والزَّكاةِ فالأمْرُ ظاهِرٌ، وإنْ أُرِيدَ ما في شَرِيعَتِنا فَمَعْنى أمَرَهم بِهِما في الكِتابَيْنِ أمَرَهم بِاتِّباعِ شَرِيعَتِنا، وهُما مِن جُمْلَةِ ما وقَعَ الأمْرُ بِهِ فِيها ﴿وذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ﴾ أيْ وذَلِكَ المَذْكُورُ مِن عِبادَةِ اللَّهِ وإخْلاصِها وإقامَةِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ ﴿دِينُ القَيِّمَةِ﴾ أيْ دِينُ المِلَّةِ المُسْتَقِيمَةِ. قالَ الزَّجّاجُ: أيْ ذَلِكَ دِينُ المِلَّةِ المُسْتَقِيمَةِ، فالقَيِّمَةُ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ. قالَ الخَلِيلُ: القَيِّمَةُ جَمْعُ القَيِّمِ، والقَيِّمُ: القائِمُ. قالَ الفَرّاءُ: أضافَ الدِّينَ إلى القَيِّمَةِ، وهو نَعْتُهُ لِاخْتِلافِ اللَّفْظَيْنِ. وقالَ أيْضًا: هو مِن إضافَةِ الشَّيْءِ إلى نَفْسِهِ، ودَخَلَتِ الهاءُ لِلْمَدْحِ والمُبالَغَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ حالَ الفَرِيقَيْنِ في الآخِرَةِ بَعْدَ بَيانِ حالِهِمْ في الدُّنْيا فَقالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ في نارِ جَهَنَّمَ﴾ المَوْصُولُ اسْمُ إنَّ، والمُشْرِكِينَ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وخَبَرُها في نارِ جَهَنَّمَ وخالِدِينَ فِيها حالٌ مِنَ المُسْتَكِنِّ في الخَبَرِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ والمُشْرِكِينَ مَجْرُورًا عَطْفًا عَلى أهْلِ الكِتابِ. ومَعْنى كَوْنِهِمْ في نارِ جَهَنَّمَ أنَّهم يَصِيرُونَ إلَيْها يَوْمَ القِيامَةِ، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: أُولَئِكَ إلى مَن تَقَدَّمَ ذِكْرُهم مِن أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ المُتَّصِفِينَ بِالكَوْنِ في نارِ جَهَنَّمَ والخُلُودِ فِيها ﴿هم شَرُّ البَرِيَّةِ﴾ أيِ الخَلِيقَةِ، يُقالُ بَرَأ: أيْ خَلَقَ، والبارِئُ الخالِقُ، والبَرِيَّةُ الخَلِيقَةُ. قَرَأ الجُمْهُورُ البَرِيَّةِ بِغَيْرِ هَمْزٍ في المَوْضِعَيْنِ وقَرَأ نافِعٌ وابْنُ ذَكْوانَ فِيهِما بِالهَمْزِ. قالَ الفَرّاءُ: إنْ أخَذْتَ البَرِيَّةَ مِنَ البَراءِ وهو التُّرابُ لَمْ تَدْخُلِ المَلائِكَةُ تَحْتَ هَذا اللَّفْظِ، وإنْ أخَذْتَها مَن بَرَيْتُ القَلَمَ: أيْ قَدَرْتُهُ دَخَلَتْ. وقِيلَ إنَّ الهَمْزَ هو الأصْلُ لِأنَّهُ يُقالُ بَرَأ اللَّهُ الخَلْقَ بِالهَمْزِ: أيِ ابْتَدَعَهُ واخْتَرَعَهُ ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿مِن قَبْلِ أنْ نَبْرَأها﴾ [الحديد: ٢٢] ولَكِنَّها خُفِّفَتِ الهَمْزَةُ، والتُزِمَ تَخْفِيفُها عِنْدَ عامَّةِ العَرَبِ. ثُمَّ بَيَّنَ حالَ الفَرِيقِ الآخَرِ فَقالَ: إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ أيْ جَمَعُوا بَيْنَ الإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ أُولَئِكَ المَنعُوتُونَ بِهَذا ﴿هم خَيْرُ البَرِيَّةِ﴾ قالَ: والمُرادُ أنَّ أُولَئِكَ شَرُّ البَرِيَّةِ في عَصْرِهِ ﷺ، ولا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ في كُفّارِ الأُمَمِ مَن هو شَرُّ مِنهم، وهَؤُلاءِ خَيْرُ البَرِيَّةِ في عَصْرِهِ ﷺ، ولا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ في مُؤْمِنِي الأُمَمِ السّابِقَةِ مَن هو خَيْرٌ مِنهم. ﴿جَزاؤُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ أيْ ثَوابُهم عِنْدَ خالِقِهِمْ بِمُقابَلَةِ ما وقَعَ مِنهم مِنَ الإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ والمُرادُ بِجَنّاتِ عَدْنٍ هي أوْسَطُ الجَنّاتِ وأفْضَلُها، يُقالُ عَدَنَ بِالمَكانِ يَعْدُنُ عَدْنًا: أيْ أقامَ، ومَعْدِنُ الشَّيْءِ: مَرْكَزُهُ ومُسْتَقَرُّهُ، ومِنهُ قَوْلُ الأعْشى: ؎وإنْ يَتَضافُوا إلى عِلْمِهِ يُضافُوا إلى راجِحٍ قَدْ عَدَنْ وقَدْ قَدَّمْنا في غَيْرِ مَوْضِعٍ أنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالجَنّاتِ الأشْجارُ المُلْتَفَّةُ، فَجَرَيانُ الأنْهارِ مِن تَحْتِها ظاهِرٌ، وإنْ أُرِيدَ مَجْمُوعُ قَرارِ الأرْضِ والشَّجَرِ، فَجَرْيُ الأنْهارِ مِن تَحْتِها بِاعْتِبارِ جُزْئِها الظّاهِرِ، وهو الشَّجَرُ خالِدِينَ فِيها أبَدًا لا يَخْرُجُونَ مِنها ولا يَظْعَنُونَ عَنْها، بَلْ هم دائِمُونَ في نَعِيمِها مُسْتَمِرُّونَ في لَذّاتِها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم ورَضُوا عَنْهُ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيانِ ما تَفَضَّلَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ الزِّيادَةِ عَلى مُجَرَّدِ الجَزاءِ، وهو رِضْوانُهُ عَنْهم حَيْثُ أطاعُوا أمْرَهُ وقَبِلُوا شَرائِعَهُ، ورِضاهم عَنْهُ حَيْثُ بَلَغُوا مِنَ المَطالِبِ ما لا عَيْنٌ رَأتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ خَبَرًا ثانِيًا، وأنْ تَكُونَ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ بِإضْمارِ قَدْ ﴿ذَلِكَ لِمَن خَشِيَ رَبَّهُ﴾ أيْ ذَلِكَ الجَزاءُ والرِّضْوانُ لِمَن وقَعَتْ مِنهُ الخَشْيَةُ لِلَّهِ سُبْحانَهُ في الدُّنْيا وانْتَهى عَنْ مَعاصِيهِ بِسَبَبِ تِلْكَ الخَشْيَةِ الَّتِي وقَعَتْ لَهُ لا مُجَرَّدِ الخَشْيَةِ مَعَ الِانْهِماكِ في مَعاصِي اللَّهِ سُبْحانَهُ فَإنَّها لَيْسَتْ بِخَشْيَةٍ عَلى الحَقِيقَةِ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: مُنْفَكِّينَ قالَ: بَرِحِينَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: «أتَعْجَبُونَ مِن مَنزِلَةِ المَلائِكَةِ مِنَ اللَّهِ، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَمَنزِلَةُ العَبْدِ المُؤْمِنِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيامَةِ أعْظَمُ مِن مَنزِلَةِ مَلَكٍ، واقْرَأُوا إنْ شِئْتُمْ ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولَئِكَ هم خَيْرُ البَرِيَّةِ﴾» . وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: «قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ مَن أكْرَمُ الخَلْقِ عَلى اللَّهِ ؟ قالَ: يا عائِشَةُ أما تَقْرَئِينَ ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولَئِكَ هم خَيْرُ البَرِيَّةِ﴾» . وأخْرَجَ ابْنُ عَساكِرَ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: «كُنّا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فَأقْبَلَ عَلِيٌّ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ هَذا وشِيعَتَهُ لَهُمُ الفائِزُونَ يَوْمَ القِيامَةِ، ونَزَلَتْ ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولَئِكَ هم خَيْرُ البَرِيَّةِ﴾ فَكانَ أصْحابُ مُحَمَّدٍ ﷺ إذا أقْبَلَ قالُوا: قَدْ جاءَ خَيْرُ البَرِيَّةِ» . وأخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ، وابْنُ عَساكِرَ عَنْ أبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا «عَلِيٌّ خَيْرُ البَرِيَّةِ» . وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولَئِكَ هم خَيْرُ البَرِيَّةِ﴾ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعَلِيٍّ: هو أنْتَ وشِيعَتُكَ يَوْمَ القِيامَةِ راضِينَ مَرْضِيِّينَ» . وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وأخْرَجَ أحْمَدُ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ألا أُخْبِرُكم بِخَيْرِ البَرِيَّةِ ؟ قالُوا: بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ. قالَ: رَجُلٌ أخَذَ بِعِنانِ فَرَسِهِ في سَبِيلِ اللَّهِ كُلَّما كانَتْ هَيْعَةٌ اسْتَوى عَلَيْهِ، ألا أُخْبِرُكم بِشَرِّ البَرِيَّةِ ؟ قالُوا بَلى، (p-١٦٤٥)قالَ: الَّذِي يَسْألُ بِاللَّهِ ولا يُعْطِي بِهِ» . قالَ أحْمَدُ: حَدَّثَنا إسْحاقُ بْنُ عِيسى، حَدَّثَنا أبُو مَعْشَرٍ عَنْ أبِي وهْبٍ مَوْلى أبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَذَكَرَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب