الباحث القرآني
وهي مَكِّيَّةٌ في قَوْلِ الجُمْهُورِ، ورَوى القُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّها مَدَنِيَّةٌ، ويُخالِفُ هَذِهِ الرِّوايَةَ ما أخْرَجَهُ ابْنُ الضُّرَيْسِ، والنَّحّاسُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: أُنْزِلَتْ سُورَةُ التِّينِ بِمَكَّةَ.
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ.
وأخْرَجَ البُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ وأهْلُ السُّنَنِ وغَيْرُهم عَنِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ قالَ: «كانَ النَّبِيُّ ﷺ في سَفَرٍ فَصَلّى العِشاءَ فَقَرَأ في إحْدى الرَّكْعَتَيْنِ بِالتِّينِ والزَّيْتُونِ، فَما سَمِعْتُ أحَدًا أحْسَنَ صَوْتًا ولا قِراءَةً مِنهُ» .
وأخْرَجَ الخَطِيبُ عَنْهُ قالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ المَغْرِبَ، فَقَرَأ: ﴿والتِّينِ والزَّيْتُونِ﴾» .
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ في المُصَنَّفِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ في مُسْنَدِهِ والطَّبَرانِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَرَأ في المَغْرِبِ والتِّينِ والزَّيْتُونِ» .
وأخْرَجَ ابْنُ قانِعٍ، وابْنُ السَّكَنِ، والشِّيرازِيُّ في الألْقابِ عَنْ زُرْعَةَ بْنِ خَلِيفَةَ قالَ: «أتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ مِنَ اليَمامَةِ، فَعَرَضَ عَلَيْنا الإسْلامَ فَأسْلَمْنا، فَلَمّا صَلَّيْنا الغَداةَ قَرَأ بِالتِّينِ والزَّيْتُونِ، وإنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ القَدْرِ» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قالَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ: هو التِّينُ الَّذِي يَأْكُلُهُ النّاسُ والزَّيْتُونُ الَّذِي يَعْصِرُونَ مِنهُ الزَّيْتَ، وإنَّما أقْسَمَ بِالتِّينِ؛ لِأنَّهُ فاكِهَةٌ مُخْلَصَةٌ مِن شَوائِبِ التَّنْغِيصِ وفِيها أعْظَمُ عِبْرَةٍ لِدَلالَتِها عَلى مَن هَيَّأها لِذَلِكَ، وجَعَلَها عَلى مِقْدارِ اللُّقْمَةِ.
قالَ كَثِيرٌ مِن أهْلِ الطِّبِّ: إنَّ التِّينَ أنْفَعُ الفَواكِهِ لِلْبَدَنِ وأكْثَرُها غِذاءً، وذَكَرُوا لَهُ فَوائِدَ كَما في كُتُبِ المُفْرَداتِ والمُرَكَّباتِ، وأمّا الزَّيْتُونُ فَإنَّهُ يُعْصَرُ مِنهُ الزَّيْتُ الَّذِي هو إدامُ غالِبِ البُلْدانِ ودَهْنُهم، ويَدْخُلُ في كَثِيرٍ مِنَ الأدْوِيَةِ.
وقالَ الضَّحّاكُ: التِّينُ: المَسْجِدُ الحَرامُ، والزَّيْتُونُ: المَسْجِدُ الأقْصى.
وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: التِّينُ: مَسْجِدُ دِمَشْقَ، والزَّيْتُونُ: مَسْجِدُ بَيْتِ المَقْدِسِ.
وقالَ قَتادَةُ: التِّينُ: الجَبَلُ الَّذِي عَلَيْهِ دِمَشْقُ، والزَّيْتُونُ الجَبَلُ الَّذِي عَلَيْهِ بَيْتُ المَقْدِسِ.
وقالَ عِكْرِمَةُ، وكَعْبُ الأحْبارِ: التِّينُ دِمَشْقُ، والزَّيْتُونُ بَيْتُ المَقْدِسِ.
ولَيْتَ شِعْرِي ما الحامِلُ لِهَؤُلاءِ الأئِمَّةِ عَلى العُدُولِ عَنِ المَعْنى الحَقِيقِيِّ في اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، والعُدُولِ إلى هَذِهِ التَّفْسِيراتِ البَعِيدَةِ عَنِ المَعْنى، المَبْنِيَّةِ عَلى خَيالاتٍ لا تَرْجِعُ إلى عَقْلٍ ولا نَقْلٍ.
وأعْجَبُ مِن هَذا اخْتِيارُ ابْنِ جَرِيرٍ لِلْآخَرِ مِنها مَعَ طُولِ باعِهِ في عِلْمِ الرِّوايَةِ والدِّرايَةِ.
قالَ الفَرّاءُ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَقُولُ: التِّينُ: جِبالُ حُلْوانَ إلى هَمْدانَ، والزَّيْتُونُ: جِبالُ الشّامِ.
قُلْتُ: هَبْ أنَّكَ سَمِعْتَ هَذا الرَّجُلَ، فَكانَ ماذا ؟ فَلَيْسَ بِمِثْلِ هَذا تَثْبُتُ اللُّغَةُ، ولا هو نَقْلٌ عَنِ الشّارِعِ.
وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: التِّينُ: مَسْجِدُ أصْحابِ الكَهْفِ، والزَّيْتُونُ: مَسْجِدُ إيلِياءَ، وقِيلَ إنَّهُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ: أيْ ومَنابِتِ التِّينِ والزَّيْتُونِ.
قالَ النَّحّاسُ: لا دَلِيلَ عَلى هَذا مِن ظاهِرِ التَّنْزِيلِ، (p-١٦٣٧)ولا مِن قَوْلِ مَن لا يَجُوزُ خِلافُهُ.
﴿وطُورِ سِينِينَ﴾ هو الجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسى اسْمُهُ الطُّورُ، ومَعْنى سِنِينَ: المُبارَكُ الحَسَنُ بِلُغَةِ الحَبَشَةِ قالَهُ قَتادَةُ: وقالَ مُجاهِدٌ: هو المُبارَكُ بِالسُّرْيانِيَّةِ.
وقالَ مُجاهِدٌ، والكَلْبِيُّ: سِينِينَ كُلُّ جَبَلٍ فِيهِ شَجَرٌ مُثْمِرٌ فَهو سِينَيْنُ وسَيْناءُ لِأنَّهُ جُعِلَ اسْمًا لِلْبُقْعَةِ، وإنَّما أقْسَمَ بِهَذا الجَبَلِ لِأنَّهُ بِالشّامِ، وهي الأرْضُ المُقَدَّسَةُ كَما في قَوْلِهِ ﴿إلى المَسْجِدِ الأقْصى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ﴾ [الإسراء: ١] وأعْظَمُ بَرَكَةٍ حَلَّتْ بِهِ ووَقَعَتْ عَلَيْهِ تَكْلِيمُ اللَّهِ لِمُوسى عَلَيْهِ.
قَرَأ الجُمْهُورُ " سِينِينَ " بِكَسْرِ السِّينِ، وقَرَأ ابْنُ إسْحاقَ، وعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وأبُو رَجاءٍ بِفَتْحِها، وهي لُغَةُ بَكْرٍ وتَمِيمٍ.
وقَرَأ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ، وابْنُ مَسْعُودٍ، والحَسَنُ وطَلْحَةُ " سِيناءَ " بِالكَسْرِ والمَدِّ.
﴿وهَذا البَلَدِ الأمِينِ﴾ يَعْنِي مَكَّةَ، سَمّاهُ أمِينًا لِأنَّهُ آمَنَ كَما قالَ: ﴿أنّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا﴾ [العنكبوت: ٦٧] يُقالُ أمِنَ الرَّجُلُ أمانَةً فَهو أمِينٌ.
قالَ الفَرّاءُ وغَيْرُهُ: الأمِينُ بِمَعْنى الآمِنِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ فَعِيلًا بِمَعْنى مَفْعُولٍ مِن أمِنَهُ لِأنَّهُ مَأْمُونُ الغَوائِلِ.
﴿لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ هَذا جَوابُ القَسَمِ: أيْ خَلَقْنا جِنْسَ الإنْسانِ كائِنًا في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ وتَعْدِيلٍ.
قالَ الواحِدِيُّ: قالَ المُفَسِّرُونَ: إنَّ اللَّهَ خَلَقَ كُلَّ ذِي رُوحٍ مُكِبًّا عَلى وجْهِهِ إلّا الإنْسانَ، خَلَقَهُ مَدِيدَ القامَةِ يَتَناوَلُ مَأْكُولَهُ بِيَدِهِ، ومَعْنى التَّقْوِيمِ: التَّعْدِيلُ، يُقالُ: قَوَّمْتُهُ فاسْتَقامَ.
قالَ القُرْطُبِيُّ: هو اعْتِدالُهُ واسْتِواءُ شَأْنِهِ، كَذا قالَ عامَّةُ المُفَسِّرِينَ.
قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: لَيْسَ لِلَّهِ تَعالى خَلْقٌ أحْسَنُ مِنَ الإنْسانِ، فَإنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ حَيًّا عالِمًا قادِرًا مُرِيدًا مُتَكَلِّمًا سَمِيعًا بَصِيرًا مُدَبِّرًا حَكِيمًا، وهَذِهِ صِفاتُ الرَّبِّ سُبْحانَهُ، وعَلَيْها حَمَلَ بَعْضُ العُلَماءِ قَوْلَهُ ﷺ: «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ عَلى صَوْتِهِ» يَعْنِي عَلى صِفاتِهِ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُها.
قُلْتُ: ويَنْبَغِي أنَّ يُضَمَّ إلى كَلامِهِ هَذا قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: ١١] وقَوْلُهُ: ﴿ولا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه: ١١٠] ومَن أرادَ أنْ يَقِفَ عَلى حَقِيقَةِ ما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الإنْسانُ مِن بَدِيعِ الخَلْقِ وعَجِيبِ الصُّنْعِ فَلْيَنْظُرْ في كِتابِ العِبَرِ والِاعْتِبارِ لِلْجاحِظِ، وفي الكِتابِ الَّذِي عَقَدَهُ النَّيْسابُورِيُّ عَلى قَوْلِهِ: ﴿وفِي أنْفُسِكم أفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: ٢١] وهو في مُجَلَّدَيْنِ ضَخْمَيْنِ.
﴿ثُمَّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ﴾ أيْ رَدَدْناهُ إلى أرْذَلِ العُمُرِ، وهو الهَرَمُ والضَّعْفُ بَعْدَ الشَّبابِ والقُوَّةِ حَتّى يَصِيرَ كالصَّبِيِّ فَيَخْرُفُ ويَنْقُصُ عَقْلُهُ، كَذا قالَ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ.
قالَ الواحِدِيُّ: والسّافِلُونَ هُمُ الضُّعَفاءُ والزُّمَناءُ والأطْفالُ، والشَّيْخُ الكَبِيرُ أسْفَلُ هَؤُلاءِ جَمِيعًا.
وقالَ مُجاهِدٌ، وأبُو العالِيَةِ، والحَسَنُ: المَعْنى ثُمَّ رَدَدْنا الكافِرَ إلى النّارِ، وذَلِكَ أنَّ النّارَ دَرَجاتٌ بَعْضُها أسْفَلُ مِن بَعْضٍ، فالكافِرُ يَرِدُ إلى أسْفَلِ الدَّرَجاتِ السّافِلَةِ، ولا يُنافِي هَذا قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّ المُنافِقِينَ في الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ﴾ [النساء: ١٤٥] فَلا مانِعَ مِن كَوْنِ الكُفّارِ والمُنافِقِينَ مُجْتَمِعِينَ في ذَلِكَ الدَّرْكِ الأسْفَلِ، وقَوْلُهُ: أسْفَلَ سافِلِينَ إمّا حالٌ مِنَ المَفْعُولِ: أيْ رَدَدْناهُ حالَ كَوْنِهِ أسْفَلَ سافِلِينَ، أوْ صِفَةٌ لِمُقَدَّرٍ مَحْذُوفٍ: أيْ مَكانًا أسْفَلَ سافِلِينَ.
إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ هَذا الِاسْتِثْناءُ عَلى القَوْلِ الأوَّلِ مُنْقَطِعٌ: أيْ لَكِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إلَخْ، ووَجْهُهُ أنَّ الهَرَمَ والرَّدَّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ يُصابُ بِهِ المُؤْمِنُ كَما يُصابُ بِهِ الكافِرُ فَلا يَكُونُ لِاسْتِثْناءِ المُؤْمِنِينَ عَلى وجْهِ الِاتِّصالِ مَعْنًى.
وعَلى القَوْلِ الثّانِي يَكُونُ الِاسْتِثْناءُ مُتَّصِلًا مِن ضَمِيرِ رَدَدْناهُ، فَإنَّهُ في مَعْنى الجَمْعِ: أيْ رَدَدْنا الإنْسانَ أسْفَلَ سافِلِينَ مِنَ النّارِ إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ، ﴿فَلَهم أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ أيْ غَيْرُ مَقْطُوعٍ: أيْ فَلَهم ثَوابٌ دائِمٌ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ عَلى طاعاتِهِمْ، الِاسْتِثْناءُ مِن خُرُوجِ المُؤْمِنِينَ عَنْ حُكْمِ الرَّدِّ، وقالَ: أسْفَلَ سافِلِينَ عَلى الجَمْعِ؛ لِأنَّ الإنْسانَ في مَعْنى الجَمْعِ، ولَوْ قالَ أسْفَلَ سافِلٍ لَجازَ؛ لِأنَّ الإنْسانَ بِاعْتِبارِ اللَّفْظِ واحِدٌ.
وقِيلَ مَعْنى رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ: رَدَدْناهُ إلى الضَّلالِ، كَما قالَ: ﴿إنَّ الإنْسانَ لَفي خُسْرٍ﴾ ﴿إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ [العصر: ٣] أيْ إلّا هَؤُلاءِ فَلا يُرَدُّونَ إلى ذَلِكَ.
﴿فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ﴾ الخِطابُ لِلْإنْسانِ الكافِرِ، والِاسْتِفْهامُ لِلتَّقْرِيعِ والتَّوْبِيخِ وإلْزامِ الحُجَّةِ: أيْ إذا عَرَفْتَ أيُّها الإنْسانُ أنَّ اللَّهَ خَلَقَكَ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وأنَّهُ يَرُدُّكَ أسْفَلَ سافِلِينَ، فَما يَحْمِلُكَ عَلى أنْ تُكَذِّبَ بِالبَعْثِ والجَزاءِ ؟ وقِيلَ الخِطابُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: أيْ أيُّ شَيْءٍ يُكَذِّبُكَ يا مُحَمَّدُ بَعْدَ ظُهُورِ هَذِهِ الدَّلائِلِ النّاطِقَةِ، فاسْتَيْقِنْ مَعَ ما جاءَكَ مِنَ اللَّهِ أنَّهُ أحْكَمُ الحاكِمِينَ.
قالَ الفَرّاءُ، والأخْفَشُ: المَعْنى فَمَن يُكَذِّبُكَ أيُّها الرَّسُولُ بَعْدَ هَذا البَيانِ بِالدِّينِ، كَأنَّهُ قالَ: مَن يَقْدِرُ عَلى ذَلِكَ ؟ أيْ عَلى تَكْذِيبِكَ بِالثَّوابِ والعِقابِ بَعْدَ ما ظَهَرَ مِن قُدْرَتِنا عَلى خَلْقِ الإنْسانِ ما ظَهَرَ، واخْتارَ هَذا ابْنُ جَرِيرٍ.
والدِّينُ: الجَزاءُ. ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
دِنّا تَمِيمًا كَما كانَتْ أوائِلُنا دانَتْ أوائِلَهم مِن سالِفِ الزَّمَنِ وقالَ الآخَرُ:
ولَمّا صَرَّحَ الشَّرُّ فَأمْسى وهو عُرْيانُ ولَمْ يَبْقَ سِوى العُدْوانِ دِنّاهم كَما دانُوا ﴿ألَيْسَ اللَّهُ بِأحْكَمِ الحاكِمِينَ﴾ أيْ ألَيْسَ الَّذِي فَعَلَ ما فَعَلَ مِمّا ذَكَرْنا بِأحْكَمِ الحاكِمِينَ صُنْعًا وتَدْبِيرًا ؟ حَتّى تَتَوَهَّمَ عَدَمَ الإعادَةِ والجَزاءِ، وفِيهِ وعِيدٌ شَدِيدٌ لِلْكُفّارِ، ومَعْنى أحْكَمِ الحاكِمِينَ: أتْقَنُ الحاكِمِينَ في كُلِّ ما يَخْلُقُ، وقِيلَ أحْكَمُ الحاكِمِينَ قَضاءً وعَدْلًا.
والِاسْتِفْهامُ إذا دَخَلَ عَلى النَّفْيِ صارَ الكَلامُ إيجابًا كَما تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: ﴿ألَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ﴾ .
وقَدْ أخْرَجَ الخَطِيبُ، وابْنُ عَساكِرَ - قالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ فِيهِ مَجْهُولٍ - عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أنَسٍ قالَ: «لَمّا أُنْزِلَتْ سُورَةُ التِّينِ (p-١٦٣٨)والزَّيْتُونِ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَرِحَ فَرَحًا شَدِيدًا حَتّى تَبَيَّنَ لَنا شِدَّةُ فَرَحِهِ»، فَسَألْنا ابْنَ عَبّاسٍ عَنْ تَفْسِيرِها فَقالَ: التِّينُ بِلادُ الشّامِ، والزَّيْتُونُ بِلادُ فِلَسْطِينَ، وطُورُ سِيناءَ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسى " وهَذا البَلَدِ الأمِينِ " مَكَّةُ ﴿لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ مُحَمَّدًا ﴿ثُمَّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ﴾ عَبْدَةُ اللّاتِ والعُزّى ﴿إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهم أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ أبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ، وعُثْمانُ، وعَلِيٌّ ﴿فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ألَيْسَ اللَّهُ بِأحْكَمِ الحاكِمِينَ﴾ إذْ بَعَثَكَ فِيهِمْ نَبِيًّا وجَمَعَكَ عَلى التَّقْوى يا مُحَمَّدُ، ومِثْلُ هَذا التَّفْسِيرِ مِنَ ابْنِ عَبّاسٍ لا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ لِما تَقَدَّمَ مِن كَوْنِ في إسْنادِهِ ذَلِكَ المَجْهُولُ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿والتِّينِ والزَّيْتُونِ﴾ قالَ: مَسْجِدُ نُوحٍ الَّذِي بُنِيَ عَلى الجُودِيِّ، والزَّيْتُونُ قالَ: بَيْتُ المَقْدِسِ ﴿وطُورِ سِينِينَ﴾ قالَ: مَسْجِدُ الطُّورِ ﴿وهَذا البَلَدِ الأمِينِ﴾ قالَ: مَكَّةُ ﴿لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ . ﴿ثُمَّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ﴾ يَقُولُ: يُرَدُّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ، كَبِرَ حَتّى ذَهَبَ عَقْلُهُ، هم نَفَرٌ كانُوا عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ سَفِهَتْ عُقُولُهم، فَأنْزَلَ اللَّهُ عُذْرَهم أنَّ لَهم أجْرَهُمُ الَّذِي عَمِلُوا قَبْلَ أنْ تَذْهَبَ عُقُولُهم ﴿فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ﴾ يَقُولُ: بِحُكْمِ اللَّهِ.
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ نَحْوَهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْهُ أيْضًا ﴿والتِّينِ والزَّيْتُونِ﴾ قالَ: الفاكِهَةُ الَّتِي يَأْكُلُها النّاسُ ﴿وطُورِ سِينِينَ﴾ قالَ: الطُّورُ الجَبَلُ، والسِّينِينُ المُبارَكُ.
وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أيْضًا ﴿لَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ قالَ في أعْدَلِ خَلْقٍ ﴿ثُمَّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ﴾ يَقُولُ: إلى أرْذَلِ العُمُرِ ﴿إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ فَلَهم أجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ يَعْنِي غَيْرَ مَنقُوصٍ، يَقُولُ فَإذا بَلَغَ المُؤْمِنُ أرْذَلَ العُمُرِ وكانَ يَعْمَلُ في شَبابِهِ عَمَلًا صالِحًا كُتِبَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلُ ما كانَ يَعْمَلُ في صِحَّتِهِ وشَبابِهِ ولَمْ يَضُرَّهُ ما عَمِلَ في كِبَرِهِ، ولَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ الخَطايا الَّتِي يَعْمَلُ بَعْدَ ما يَبْلُغُ أرْذَلَ العُمُرِ.
وأخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: مَن قَرَأ القُرْآنَ لَمْ يُرَدَّ إلى أرْذَلِ العُمُرِ، وذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ قالَ: لا يَكُونُ حَتّى لا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ ﴿ثُمَّ رَدَدْناهُ أسْفَلَ سافِلِينَ﴾ يَقُولُ: إلى الكِبَرِ وضَعْفِهِ، فَإذا كَبِرَ وضَعُفَ عَنِ العَمَلِ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أجْرِ ما كانَ يَعْمَلُ في شَبِيبَتِهِ.
وأخْرَجَ أحْمَدُ، والبُخارِيُّ وغَيْرُهُما عَنْ أبِي مُوسى قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إذا مَرِضَ العَبْدُ أوْ سافَرَ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلَ ما كانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا» .
وأخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا «مَن قَرَأ " التِّينِ والزَّيْتُونِ "، فَقَرَأ ﴿ألَيْسَ اللَّهُ بِأحْكَمِ الحاكِمِينَ﴾ فَلْيَقُلْ: بَلى وأنا عَلى ذَلِكَ مِنَ الشّاهِدِينَ» وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جابِرٍ مَرْفُوعًا «إذا قَرَأْتَ " التِّينِ والزَّيْتُونِ " فَقَرَأْتَ ﴿ألَيْسَ اللَّهُ بِأحْكَمِ الحاكِمِينَ﴾ فَقُلْ بَلى» .
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ كانَ إذا قَرَأ ﴿ألَيْسَ اللَّهُ بِأحْكَمِ الحاكِمِينَ﴾ قالَ: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ فَبَلى اهـ.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["وَٱلتِّینِ وَٱلزَّیۡتُونِ","وَطُورِ سِینِینَ","وَهَـٰذَا ٱلۡبَلَدِ ٱلۡأَمِینِ","لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَـٰنَ فِیۤ أَحۡسَنِ تَقۡوِیمࣲ","ثُمَّ رَدَدۡنَـٰهُ أَسۡفَلَ سَـٰفِلِینَ","إِلَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَیۡرُ مَمۡنُونࣲ","فَمَا یُكَذِّبُكَ بَعۡدُ بِٱلدِّینِ","أَلَیۡسَ ٱللَّهُ بِأَحۡكَمِ ٱلۡحَـٰكِمِینَ"],"ayah":"فَمَا یُكَذِّبُكَ بَعۡدُ بِٱلدِّینِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق