الباحث القرآني

وهي مَكِّيَّةٌ بِلا خِلافٍ. وأخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، والنَّحّاسُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: نَزَلَتْ ﴿والشَّمْسِ وضُحاها﴾ بِمَكَّةَ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ أحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ والنَّسائِيُّ عَنْ بُرَيْدَةَ: «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ يَقْرَأُ في صَلاةِ العِشاءِ ﴿والشَّمْسِ وضُحاها﴾ وأشْباهَها مِنَ السُّوَرِ» وقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ جابِرٍ في الصَّحِيحِ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ لِمُعاذٍ: «هَلّا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلى، والشَّمْسِ وضُحاها، واللَّيْلِ إذا يَغْشى» وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أمَرَهُ أنْ يَقْرَأ في صَلاةِ الصُّبْحِ بِاللَّيْلِ إذا يُغْشى والشَّمْسِ وضُحاها» . وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عامِرٍ قالَ: «أمَرَنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ نُصَلِّيَ رَكْعَتَيِ الضُّحى بِسُورَتَيْهِما بِالشَّمْسِ وضُحاها والضُّحى» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أقْسَمَ سُبْحانَهُ بِهَذِهِ الأُمُورِ، ولَهُ أنْ يُقْسِمَ بِما شاءَ مِن مَخْلُوقاتِهِ، وقالَ قَوْمٌ: إنَّ القَسَمَ بِهَذِهِ الأُمُورِ ونَحْوِها مِمّا تَقَدَّمَ ومِمّا سَيَأْتِي هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ: أيْ ورَبِّ الشَّمْسِ ورَبِّ القَمَرِ، وهَكَذا سائِرُها، ولا مُلْجِئَ إلى هَذا ولا مُوجِبَ لَهُ، وقَوْلُهُ: " وضُحاها " هو قَسَمٌ ثانٍ. قالَ مُجاهِدٌ: " وضُحاها ": أيْ ضَوْئِها وإشْراقِها، وأضافَ الضُّحى إلى الشَّمْسِ لِأنَّهُ إنَّما يَكُونُ عِنْدَ ارْتِفاعِها، وكَذا قالَ الكَلْبِيُّ. وقالَ قَتادَةُ: ضُحاها نَهارُها كُلُّهُ. قالَ الفَرّاءُ: الضُّحى هو النَّهارُ. وقالَ المُبَرِّدُ: أصْلُ الضُّحى الصُّبْحُ، وهو نُورُ الشَّمْسِ. قالَ أبُو الهَيْثَمِ: الضُّحى نَقِيضُ الظِّلِّ، وهو نُورُ الشَّمْسِ عَلى وجْهِ الأرْضِ، وأصْلُهُ الضُّحى، فاسْتَثْقَلُوا الياءَ فَقَلَبُوها ألِفًا. قِيلَ: والمَعْرُوفُ عِنْدَ العَرَبِ أنَّ الضُّحى إذا طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وبُعَيْدَ ذَلِكَ قَلِيلًا، فَإذا زادَ فَهو الضُّحاءُ بِالمَدِّ. قالَ المُبَرِّدُ: الضُّحى والضَّحْوَةُ مُشْتَقّانِ مِنَ الضِّحِّ وهو النُّورُ، فَأُبْدِلَتِ الألِفُ والواوُ مِنَ الحاءِ. واخْتُلِفَ في جَوابِ القَسَمِ ماذا هو ؟ فَقِيلَ هو قَوْلُهُ: ﴿قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها﴾ قالَهُ الزَّجّاجُ وغَيْرُهُ. قالَ الزَّجّاجُ: وحُذِفَتِ اللّامُ؛ لِأنَّ الكَلامَ قَدْ طالَ، فَصارَ طُولُهُ عِوَضًا مِنها، وقِيلَ الجَوابُ مَحْذُوفٌ: أيْ والشَّمْسِ، وكَذا لَتُبْعَثُنَّ، وقِيلَ تَقْدِيرُهُ: لَيُدَمْدِمَنَّ اللَّهُ عَلى أهْلِ مَكَّةَ لِتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَما دَمْدَمَ عَلى ثَمُودَ لِأنَّهم كَذَّبُوا صالِحًا، وأمّا قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها فَكَلامٌ تابِعٌ لِقَوْلِهِ: ﴿فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها﴾ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِطْرادِ، ولَيْسَ مِن جَوابِ القَسَمِ في شَيْءٍ، وقِيلَ هو عَلى التَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ بِغَيْرِ حَذْفٍ، والمَعْنى: قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها وقَدْ خابَ مَن دَسّاها والشَّمْسِ وضُحاها، والأوَّلُ أوْلى. ﴿والقَمَرِ إذا تَلاها﴾ أيْ تَبِعَها، وذَلِكَ بِأنْ طَلَعَ بَعْدَ غُرُوبِها، يُقالُ تَلا يَتْلُو تُلُوًّا: إذا تَبِعَ. قالَ المُفَسِّرُونَ: وذَلِكَ في النِّصْفِ الأوَّلِ مِنَ الشَّهْرِ إذا غَرَبَتِ الشَّمْسُ تَلاها القَمَرُ في الإضاءَةِ وخَلَفَها في النُّورِ. قالَ الزَّجّاجُ: تَلاها حِينَ اسْتَدارَ، فَكانَ يَتْلُو الشَّمْسَ في الضِّياءِ والنُّورِ، يَعْنِي إذا كَمُلَ ضَوْؤُهُ فَصارَ تابِعًا لِلشَّمْسِ في الإنارَةِ، يَعْنِي كانَ مِثْلَها في الإضاءَةِ، وذَلِكَ في اللَّيالِي البِيضِ. وقِيلَ إذا تَلا طُلُوعُهُ طُلُوعَها. قالَ قَتادَةُ: إنَّ ذَلِكَ لَيْلَةَ الهِلالِ إذا سَقَطَتْ رُؤْيا (p-١٦٢٧)الهِلالِ. قالَ ابْنُ زَيْدٍ: إذا غَرَبَتِ الشَّمْسُ في النِّصْفِ الأوَّلِ مِنَ الشَّهْرِ تَلاها القَمَرُ بِالطُّلُوعِ، وفي آخِرِ الشَّهْرِ يَتْلُوها بِالغُرُوبِ، وقالَ الفَرّاءُ تَلاها أخَذَ مِنها: يَعْنِي أنَّ القَمَرَ يَأْخُذُ مِن ضَوْءِ الشَّمْسِ. ﴿والنَّهارِ إذا جَلّاها﴾ أيْ جَلّى الشَّمْسَ، وذَلِكَ أنَّ الشَّمْسَ عِنْدَ انْبِساطِ النَّهارِ تَنْجَلِي تَمامَ الِانْجِلاءِ، فَكَأنَّهُ جَلّاها مَعَ أنَّها الَّتِي تَبْسُطُهُ. وقِيلَ الضَّمِيرُ عائِدٌ إلى الظُّلْمَةِ: أيْ جَلى الظُّلْمَةَ، وإنْ لَمْ يَجْرِ لِلظُّلْمَةِ ذِكْرٌ لِأنَّ المَعْنى مَعْرُوفٌ. قالَ الفَرّاءُ: كَما تَقُولُ أصْبَحَتْ بارِدَةً أيْ: أصْبَحَتْ غَداتُنا بارِدَةً، والأوَّلُ أوْلى. ومِنهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الحَطِيمِ: ؎تَجَلَّتْ لَنا كالشَّمْسِ تَحْتَ غَمامَةٍ بَدا حاجِبٌ مِنها وضَنَّتْ بِحاجِبِ وقِيلَ المَعْنى: جَلّى ما في الأرْضِ مِنَ الحَيَواناتِ وغَيْرِها بَعْدَ أنْ كانَتْ مُسْتَتِرَةً في اللَّيْلِ، وقِيلَ جَلّى الدُّنْيا وقِيلَ جَلّى الأرْضَ. " ﴿واللَّيْلِ إذا يَغْشاها﴾ " أيْ يَغْشى الشَّمْسَ فَيَذْهَبُ بِضَوْئِها فَتَغِيبُ وتُظْلِمُ الآفاقَ، وقِيلَ يَغْشى الآفاقَ، وقِيلَ الأرْضُ، وإنْ لَمْ يَجْرِ لَهُما ذِكْرٌ لِأنَّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ، والأوَّلُ أوْلى. ﴿والسَّماءِ وما بَناها﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ ما مَصْدَرِيَّةً أيْ والسَّماءِ وبُنْيانِها، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً: أيْ والَّذِي بَناها، وإيثارُ " ما " عَلى " مَن " لِإرادَةِ الوَصْفِيَّةِ لِقَصْدِ التَّفْخِيمِ كَأنَّهُ قالَ: والقادِرِ العَظِيمِ الشَّأْنِ الَّذِي بَناها. ورَجَّحَ الأوَّلَ الفَرّاءُ، والزَّجّاجُ، ولا وجْهَ لِقَوْلِ مَن قالَ: إنَّ جَعْلَها مَصْدَرِيَّةً مُخِلٌّ بِالنَّظْمِ. ورَجَّحَ الثّانِيَ ابْنُ جَرِيرٍ. " ﴿والأرْضِ وما طَحاها﴾ " الكَلامُ في " ما " هَذِهِ كالكَلامِ في الَّتِي قَبْلَها، ومَعْنى " طَحاها " بَسَطَها، كَذا قالَ عامَّةُ المُفَسِّرِينَ، كَما في قَوْلِهِ: " دَحاها " قالُوا: " طَحاها " و" دَحاها " واحِدٌ: أيْ بَسَطَها مِن كُلِّ جانِبٍ، والطَّحْوُ: البَسْطُ، وقِيلَ مَعْنى طَحاها قَسَمَها، وقِيلَ خَلَقَها، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎وما يَدْرِي جَذِيمَةُ مَن طَحاها ∗∗∗ ولا مَن ساكِنُ العَرْشِ الرَّفِيعِ والأوَّلُ أوْلى. والطَّحْوُ أيْضًا: الذَّهابُ. قالَ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ: طَحا الرَّجُلُ: إذا ذَهَبَ في الأرْضِ، يُقالُ ما أدْرِي أيْنَ طَحا ؟ ويُقالُ طَحا بِهِ قَلْبُهُ: إذا ذَهَبَ بِهِ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎طَحا بِكَ قَلْبٌ في الحِسانِ طَرُوبُ ∗∗∗ بُعَيْدَ الشَّبابِ عَصْرَ حانَ مَشِيبُ ﴿ونَفْسٍ وما سَوّاها﴾ الكَلامُ في " ما " هَذِهِ كَما تَقَدَّمَ، ومَعْنى سَوّاها خَلَقَها وأنْشَأها وسَوّى أعْضاءَها. قالَ عَطاءٌ: يُرِيدُ جَمِيعَ ما خَلَقَ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ، والتَّنْكِيرُ لِلتَّفْخِيمِ، وقِيلَ المُرادُ نَفْسُ آدَمَ. ﴿فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها﴾ أيْ عَرَّفَها وأفْهَمَها حالَهُما وما فِيهِما مِنَ الحُسْنِ والقُبْحِ. قالَ مُجاهِدٌ: عَرَّفَها طَرِيقَ الفُجُورِ والتَّقْوى والطّاعَةِ والمَعْصِيَةِ. قالَ الفَرّاءُ: فَألْهَمَها عَرَّفَها طَرِيقَ الخَيْرِ وطَرِيقَ الشَّرِّ، كَما قالَ: ﴿وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: ١٠] . قالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إذا أرادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ خَيْرًا ألْهَمَهُ الخَيْرَ فَعَمِلَ بِهِ، وإذا أرادَ بِهِ الشَّرَّ ألْهَمَهُ الشَّرَّ فَعَمِلَ بِهِ. قالَ ابْنُ زَيْدٍ: جَعَلَ فِيها ذَلِكَ بِتَوْفِيقِهِ إيّاها لِلتَّقْوى، وخِذْلانِهِ إيّاها لِلْفُجُورِ، واخْتارَ هَذا الزَّجّاجُ، وحَمَلَ الإلْهامَ عَلى التَّوْفِيقِ والخِذْلانِ. قالَ الواحِدِيُّ: وهَذا هو الوَجْهُ لِتَفْسِيرِ الإلْهامِ فَإنَّ التَّبْيِينَ والتَّعْلِيمَ والتَّعْرِيفَ دُونَ الإلْهامِ، والإلْهامُ أنْ يُوقَعَ في قَلْبِهِ ويُجْعَلَ فِيهِ، وإذا أوْقَعَ اللَّهُ في قَلْبِ عَبْدِهِ شَيْئًا ألْزَمَهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ. قالَ: وهَذا صَرِيحٌ في أنَّ اللَّهَ خَلَقَ في المُؤْمِنِ تَقْواهُ، وفي الكافِرِ فُجُورَهُ. " ﴿قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها﴾ " أيْ قَدْ فازَ مَن زَكّى نَفْسَهُ وأنْماها وأعْلاها بِالتَّقْوى بِكُلِّ مَطْلُوبٍ وظَفِرَ بِكُلِّ مَحْبُوبٍ، وقَدْ قَدَّمْنا أنَّ هَذا جَوابُ القَسَمِ عَلى الرّاجِحِ، وأصْلُ الزَّكاةِ: النُّمُوُّ والزِّيادَةُ، ومِنهُ زَكا الزَّرْعُ: إذا كَثُرَ. ﴿وقَدْ خابَ مَن دَسّاها﴾ أيْ خَسِرَ مَن أضَلَّها وأغْواها. قالَ أهْلُ اللُّغَةِ: " دَسّاها " أصْلُهُ دَسَّسَها، مِنَ التَّدْسِيسِ، وهو إخْفاءُ الشَّيْءِ في الشَّيْءِ، فَمَعْنى " دَسّاها " في الآيَةِ: أخْفاها وأخْمَلَها ولَمْ يُشْهِرْها بِالطّاعَةِ والعَمَلِ الصّالِحِ، وكانَتْ أجْوادُ العَرَبِ تَنْزِلُ الأمْكِنَةَ المُرْتَفِعَةَ لِيَشْتَهِرَ مَكانُها فَيَقْصِدَها الضُّيُوفُ، وكانَتْ لِئامُ العَرَبِ تَنْزِلُ الهِضابَ والأمْكِنَةَ المُنْخَفِضَةَ لِيَخْفى مَكانُها عَنِ الوافِدِينَ. وقِيلَ مَعْنى " دَسّاها ": أغْواها. ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎وأنْتَ الَّذِي دَسَّيْتَ عَمْرًا فَأصْبَحَتْ ∗∗∗ حَلائِلُهُ مِنهُ أرامِلَ ضُيَّعا وقالَ ابْنُ الأعْرابِيِّ " وقَدْ خابَ مَن دَسّاها " أيْ دَسَّ نَفْسَهُ في جُمْلَةِ الصّالِحِينَ ولَيْسَ مِنهم. كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها الطَّغْوى: اسْمٌ مِنَ الطُّغْيانِ حَمَلَتْهم عَلى التَّكْذِيبِ، والطُّغْيانُ مُجاوَزَةُ الحَدِّ في المَعاصِي، والباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ. وقِيلَ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها أيْ بِعَذابِها الَّذِي وُعِدَتْ بِهِ، وسُمِّيَ العَذابُ طَغْوى لِأنَّهُ طَغى عَلَيْهِمْ فَتَكُونُ الباءُ عَلى هَذا لِلتَّعْدِيَةِ. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: " بِطَغْواها ": أيْ بِأجْمَعِها. قَرَأ الجُمْهُورُ " بِطَغْواها " بِفَتْحِ الطّاءِ. وقَرَأ الحَسَنُ، والجَحْدَرِيُّ، ومُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وحَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ بِضَمِّ الطّاءِ، فَعَلى القِراءَةِ الأوْلى هو مَصْدَرٌ بِمَعْنى الطُّغْيانِ، وإنَّما قُلِبَتِ الياءُ والواوُ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْمِ والصِّفَةِ لِأنَّهم يَقْلِبُونَ الياءَ في الأسْماءِ كَثِيرًا نَحْوَ تَقْوى وسَرْوى، وعَلى القِراءَةِ الثّانِيَةِ هو مَصْدَرٌ كالرُّجْعى والحُسْنى ونَحْوِهِما، وقِيلَ هُما لُغَتانِ. ﴿إذِ انْبَعَثَ أشْقاها﴾ العامِلُ في الظَّرْفِ كَذَّبَتْ، أوْ بِطَغْواها: أيْ حِينَ قامَ أشْقى ثَمُودَ، وهو قِدارُ بْنُ سالِفٍ فَعَقَرَ النّاقَةَ، ومَعْنى انْبَعَثَ: انْتَدَبَ لِذَلِكَ وقامَ بِهِ، يُقالُ بَعَثْتُهُ عَلى الأمْرِ فانْبَعَثَ لَهُ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ هَذا في الأعْرافِ. ﴿فَقالَ لَهم رَسُولُ اللَّهِ﴾ يَعْنِي صالِحًا ﴿ناقَةَ اللَّهِ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: ناقَةَ اللَّهِ مَنصُوبَةٌ عَلى مَعْنى ذَرُوا ناقَةَ اللَّهِ. قالَ الفَرّاءُ: حَذَّرَهم إيّاها، وكُلُّ تَحْذِيرٍ فَهو نَصْبٌ " وسُقْياها " مَعْطُوفٌ عَلى " ناقَةَ "، وهو شُرْبُها مِنَ الماءِ. قالَ الكَلْبِيُّ، ومُقاتِلٌ: قالَ لَهم صالِحٌ: ذَرُوا ناقَةَ اللَّهِ فَلا تَعْقِرُوها وذَرُوا سُقْياها، وهو شُرْبُها مِنَ النَّهْرِ فَلا تَعَرَّضُوا لَهُ يَوْمَ شُرْبِها فَكَذَّبُوا بِتَحْذِيرِهِ إيّاهم. فَعَقَرُوها أيْ عَقَرَها الأشْقى وإنَّما أسْنَدَ العَقْرَ إلى الجَمِيعِ لِأنَّهم رَضُوا بِما فَعَلَهُ. قالَ قَتادَةُ: إنَّهُ لَمْ يَعْقِرْها حَتّى تابَعَهُ صَغِيرُهم وكَبِيرُهم وذَكَرُهم وأُنْثاهم. قالَ الفَرّاءُ: عَقَرَها اثْنانِ، والعَرَبُ تَقُولُ: هَذانِ أفْضَلُ (p-١٦٢٨)النّاسِ، وهَذانِ خَيْرُ النّاسِ، فَلِهَذا لَمْ يَقُلْ أشْقِياها ﴿فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهم بِذَنْبِهِمْ فَسَوّاها﴾ أيْ أهْلَكَهم وأطْبَقَ عَلَيْهِمُ العَذابَ وحَقِيقَةُ الدَّمْدَمَةِ: تَضْعِيفُ العَذابِ وتَرْدِيدُهُ، يُقالُ دَمْدَمْتُ عَلى الشَّيْءِ: أيْ أطْبَقْتُ عَلَيْهِ، ودَمْدَمَ عَلَيْهِ القَبْرُ: أيْ أطْبَقَهُ، وناقَةٌ مَدْمُومَةٌ: إذا لَبِسَها الشَّحْمُ، والدَّمْدَمَةُ: إهْلاكٌ بِاسْتِئْصالٍ، كَذا قالَ المُؤَرِّجُ. قالَ في الصِّحاحِ: دَمْدَمْتُ الشَّيْءَ: إذا ألْزَقْتَهُ بِالأرْضِ وطَحْطَحْتَهُ، ودَمْدَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ: أيْ أهْلَكَهم. وقالَ ابْنُ الأعْرابِيِّ: دَمْدَمَ إذا عَذَّبَ عَذابًا تامًّا. والضَّمِيرُ في فَسَوّاها يَعُودُ إلى الدَّمْدَمَةِ: أيْ فَسَوّى الدَّمْدَمَةَ عَلَيْهِمْ وعَمَّهم بِها فاسْتَوَتْ عَلى صَغِيرِهِمْ وكَبِيرِهِمْ، وقِيلَ يَعُودُ إلى الأرْضِ: أيْ فَسَوّى الأرْضَ عَلَيْهِمْ فَجَعَلَهم تَحْتَ التُّرابِ، وقِيلَ يَعُودُ إلى الأُمَّةِ: أيْ ثَمُودَ. قالَ الفَرّاءُ: سَوّى الأُمَّةَ: أنْزَلَ العَذابَ بِصَغِيرِها وكَبِيرِها بِمَعْنى سَوّى بَيْنَهم. قَرَأ الجُمْهُورُ فَدَمْدَمَ بِمِيمٍ بَيْنَ الدّالَيْنِ، وقَرَأ ابْنُ الزُّبَيْرِ " فَدَهْدَمَ " بَهاءٍ بَيْنَ الدّالَيْنِ. قالَ القُرْطُبِيُّ: وهُما لُغَتانِ كَما يُقالُ: امْتُقِعَ لَوْنُهُ، واهْتُقِعَ لَوْنُهُ. ﴿ولا يَخافُ عُقْباها﴾ أيْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِهِمْ غَيْرَ خائِفٍ مِن عاقِبَةٍ ولا تَبِعَةٍ، والضَّمِيرُ في عُقْباها يَرْجِعُ إلى الفِعْلَةِ، أوْ إلى الدَّمْدَمَةِ المَدْلُولِ عَلَيْها بِدَمْدَمَ. وقالَ السُّدِّيُّ، والضَّحّاكُ، والكَلْبِيُّ: إنَّ الكَلامَ يَرْجِعُ إلى العاقِرِ لا إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ: أيْ لَمْ يَخَفِ الَّذِي عَقَرَها عُقْبى ما صَنَعَ. وقِيلَ لا يَخافُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عاقِبَةَ إهْلاكِ قَوْمِهِ ولا يَخْشى ضَرَرًا يَعُودُ عَلَيْهِ مِن عَذابِهِمْ؛ لِأنَّهُ قَدْ أنْذَرَهم، والأوَّلُ أوْلى. قَرَأ الجُمْهُورُ ولا يَخافُ بِالواوِ، وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ بِالفاءِ. وقَدْ أخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وضُحاها قالَ: ضَوْئِها ﴿والقَمَرِ إذا تَلاها﴾ قالَ: تَبِعَها ﴿والنَّهارِ إذا جَلّاها﴾ قالَ: أضاءَها ﴿والسَّماءِ وما بَناها﴾ قالَ: اللَّهُ بَنى السَّماءَ والأرْضَ وما طَحاها قالَ: دَحاها ﴿فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها﴾ قالَ: عَلَّمَها الطّاعَةَ والمَعْصِيَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ: ﴿والأرْضِ وما طَحاها﴾ يَقُولُ: قَسَّمَها ﴿فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها﴾ قالَ: مِنَ الخَيْرِ والشَّرِّ. وأخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْهُ أيْضًا فَألْهَمَها قالَ: ألْزَمَها فُجُورَها وتَقْواها. وأخْرَجَ أحْمَدُ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، ومُسْلِمٌ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ «أنَّ رَجُلًا قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أرَأيْتَ ما يَعْمَلُ النّاسُ اليَوْمَ ويَكْدَحُونَ فِيهِ، شَيْءٌ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ ومَضى في قَدَرٍ قَدْ سَبَقَ، أوْ فِيما يَسْتَقْبِلُونَ مِمّا أتاهم نَبِيُّهم واتَّخَذْتَ عَلَيْهِمْ بِهِ الحُجَّةَ، قالَ: بَلْ شَيْءٌ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ. قالَ: فَلِمَ يَعْمَلُونَ إذَنْ ؟ قالَ: مَن كانَ اللَّهُ خَلَقَهُ لِواحِدَةٍ مِنَ المَنزِلَتَيْنِ يُهَيِّئُهُ لِعَمَلِها وتَصْدِيقُ ذَلِكَ في كِتابِ اللَّهِ ﴿ونَفْسٍ وما سَوّاها﴾ ﴿فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها﴾» وسَيَأْتِي في السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ نَحْوُ هَذا الحَدِيثِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وأحْمَدُ، والنَّسائِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ أرْقَمَ قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْواها، وزَكِّها أنْتَ خَيْرُ مَن زَكّاها، أنْتَ ولِيُّها ومَوْلاها» . وأخْرَجَهُ ابْنُ المُنْذِرِ والطَّبَرانِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ، وزادَ كانَ إذا تَلا هَذِهِ الآيَةَ ﴿ونَفْسٍ وما سَوّاها﴾ ﴿فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها﴾ قالَ: فَذَكَرَهُ وزادَ أيْضًا: وهو في الصَّلاةِ. وأخْرَجَ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ أرْقَمَ، مُسْلِمٌ أيْضًا. وأخْرَجَ نَحْوَهُ أحْمَدُ مِن حَدِيثِ عائِشَةَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها﴾ يَقُولُ: قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّى اللَّهُ نَفْسَهُ ﴿وقَدْ خابَ مَن دَسّاها﴾ يَقُولُ: قَدْ خابَ مَن دَسَّ اللَّهُ نَفْسَهُ فَأضَلَّهُ ﴿ولا يَخافُ عُقْباها﴾ قالَ: لا يَخافُ مِن أحَدٍ تَبِعَةً. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ ﴿وقَدْ خابَ مَن دَسّاها﴾ يَعْنِي مَكَرَ بِها. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والدَّيْلَمِيُّ مِن طَرِيقِ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحّاكِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ في قَوْلِهِ: ﴿قَدْ أفْلَحَ مَن زَكّاها﴾ الآيَةَ: أفْلَحَتْ نَفْسٌ زَكّاها اللَّهُ، وخابَتْ نَفْسٌ خَيَّبَها اللَّهُ مِن كُلِّ خَيْرٍ» وجُوَيْبِرٌ ضَعِيفٌ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أيْضًا بِطَغْواها قالَ: اسْمُ العَذابِ الَّذِي جاءَها الطَّغْوى، فَقالَ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِعَذابِها. وأخْرَجَ البُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُما عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ قالَ: «خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَذَكَرَ النّاقَةَ وذَكَرَ الَّذِي عَقَرَها، فَقالَ: ﴿إذِ انْبَعَثَ أشْقاها﴾ قالَ: انْبَعَثَ لَها رَجُلٌ عارِمٌ عَزِيزٌ مَنِيعٌ في رَهْطِهِ مِثْلُ أبِي زَمْعَةَ» . وأخْرَجَ أحْمَدُ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والبَغَوِيُّ، والطَّبَرانِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والحاكِمُ، وأبُو نُعَيْمٍ في الدَّلائِلِ عَنْ عَمّارِ بْنِ ياسِرٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعَلِيٍّ: «ألا أُحَدِّثُكَ بِأشْقى النّاسِ ؟ قالَ بَلى. قالَ: رَجُلانِ: أُحَيْمِرُ ثَمُودَ الَّذِي عَقَرَ النّاقَةَ، والَّذِي يَضْرِبُكَ عَلى هَذا - يَعْنِي قَرْنَهُ - حَتّى تَبْتَلَّ مِنهُ هَذِهِ. يَعْنِي لِحْيَتَهُ» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب