الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ﴿بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ﴾ أيْ قُلُوبُهم مُتَّحِدَةٌ في التَّوادُدِ، والتَّحابُبِ، والتَّعاطُفِ بِسَبَبِ ما جَمَعَهم مِن أمْرِ الدِّينِ وضَمَّهم مِنَ الإيمانِ بِاللَّهِ، ثُمَّ بَيَّنَ أوْصافَهُمُ الحَمِيدَةَ كَما بَيَّنَ أوْصافَ مَن قَبْلَهم مِنَ المُنافِقِينَ فَقالَ: ﴿يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ﴾ أيْ بِما هو مَعْرُوفٌ في الشَّرْعِ غَيْرُ مُنْكَرٍ، ومِن ذَلِكَ تَوْحِيدُ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَرْكُ عِبادَةِ غَيْرِهِ ﴿ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ﴾ أيْ عَمّا هو مُنْكَرٌ في الدِّينِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وخَصَّصَ إقامَةَ الصَّلاةِ وإيتاءَ الزَّكاةِ بِالذِّكْرِ مِن جُمْلَةِ العِباداتِ؛ لِكَوْنِهِما الرُّكْنَيْنِ العَظِيمَيْنِ فِيما يَتَعَلَّقُ بِالأبْدانِ (p-٥٨٥)والأمْوالِ، وقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنى هَذا ﴿ويُطِيعُونَ اللَّهَ﴾ في صُنْعِ ما أمَرَهم بِفِعْلِهِ أوْ نَهاهم عَنْ تَرْكِهِ، والإشارَةُ بِـ ( أُولَئِكَ ) إلى المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ المُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الأوْصافِ، والسِّينُ في ﴿سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ﴾ لِلْمُبالَغَةِ في إنْجازِ الوَعْدِ ( إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ) لا يُغالَبُ ( حَكِيمٌ ) في أقْوالِهِ وأفْعالِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ تَفْصِيلَ ما يَدْخُلُ تَحْتَ الرَّحْمَةِ إجْمالًا بِاعْتِبارِ الرَّحْمَةِ في الدّارِ الآخِرَةِ فَقالَ: ﴿وعَدَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ والإظْهارُ في مَوْقِعِ الإضْمارِ لِزِيادَةِ التَّقْرِيرِ، ومَعْنى جَرْيِ الأنْهارِ مِن تَحْتِ الجَنّاتِ أنَّها تَجْرِي تَحْتَ أشْجارِها وغُرَفِها، وقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ في البَقَرَةِ ﴿ومَساكِنَ طَيِّبَةً﴾ أيْ مَنازِلَ يَسْكُنُونَ فِيها مِنَ الدُّرِّ والياقُوتِ، و( جَنّاتِ عَدْنٍ ) يُقالُ: عَدَنَ بِالمَكانِ: إذا أقامَ بِهِ، ومِنهُ المَعْدِنُ، قِيلَ: هي أعْلى الجَنَّةِ، وقِيلَ: أوْسَطُها، وقِيلَ: قُصُورٌ مِن ذَهَبٍ لا يَدْخُلُها إلّا نَبِيٌّ أوْ صِدِّيقٌ أوْ شَهِيدٌ. وصَفَ الجَنَّةَ بِأوْصافٍ: الأوَّلُ: جَرْيُ الأنْهارِ مِن تَحْتِها، والثّانِي: أنَّهم فِيها خالِدُونَ، والثّالِثُ: طِيبُ مَساكِنِها، والرّابِعُ: أنَّها دارُ عَدْنٍ: أيْ إقامَةٍ غَيْرِ مُنْقَطِعَةٍ، هَذا عَلى ما هو مَعْنى عَدْنٍ لُغَةً، وقِيلَ: هو عَلَمٌ، والتَّنْكِيرُ في ( رِضْوانٌ ) لِلتَّحْقِيرِ: أيْ ورِضْوانٌ حَقِيرٌ يُسْتَرُ ( مِنَ ) رِضْوانِ ( اللَّهِ أكْبَرُ ) مِن ذَلِكَ كُلِّهِ الَّذِي أعْطاهُمُ اللَّهُ إيّاهُ، وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ لا شَيْءَ مِنَ النِّعَمِ وإنْ جَلَّتْ وعَظُمَتْ يُماثِلُ رِضْوانَ اللَّهِ سُبْحانَهُ، وأنَّ أدْنى رِضْوانٍ مِنهُ لا يُساوِيهِ شَيْءٌ مِنَ اللَّذّاتِ الجُسْمانِيَّةِ، وإنْ كانَتْ عَلى غايَةٍ لَيْسَ وراءَها غايَةٌ، اللَّهُمَّ ارْضَ عَنّا رِضًا لا يَشُوبُهُ سَخَطٌ، ولا يُكَدِّرُهُ نَكَدٌ، يا مَن بِيَدِهِ الخَيْرُ كُلُّهُ دِقُّهُ وجِلُّهُ، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ( ذَلِكَ ) إلى ما تَقَدَّمَ مِمّا وعَدَ اللَّهُ بِهِ المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ ( هو الفَوْزُ العَظِيمُ ) دُونَ كُلِّ فَوْزٍ مِمّا يَعُدُّهُ النّاسُ فَوْزًا. وقَدْ أخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، عَنِ الضَّحّاكِ، في قَوْلِهِ: ﴿يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ﴾ قالَ: يَدْعُونَ إلى الإيمانِ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ، والنَّفَقاتِ في سَبِيلِ اللَّهِ، وما كانَ مِن طاعَةِ اللَّهِ ﴿ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ﴾ عَنِ الشِّرْكِ والكُفْرِ قالَ: الأمْرُ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ فَرِيضَةٌ مِن فَرائِضِ اللَّهِ، كَتَبَها اللَّهُ عَلى المُؤْمِنِينَ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، في قَوْلِهِ: ﴿بَعْضُهم أوْلِياءُ بَعْضٍ﴾ قالَ: إخاؤُهم في اللَّهِ يَتَحابُّونَ بِجَلالِ اللَّهِ والوِلايَةِ لِلَّهِ، وقَدْ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - في الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ مِنَ الأحادِيثِ ما هو مَعْرُوفٌ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ الحَسَنِ قالَ: «سَألْتُ عِمْرانَ بْنَ حُصَيْنٍ، وأبا هُرَيْرَةَ عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَساكِنَ طَيِّبَةً في جَنّاتِ عَدْنٍ﴾ قالا: عَلى الخَبِيرِ سَقَطْتَ، سَألْنا عَنْها رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَقالَ: قَصْرٌ مِن لُؤْلُؤَةٍ في الجَنَّةِ، في ذَلِكَ القَصْرِ سَبْعُونَ دارًا مِن ياقُوتَةٍ حَمْراءَ، في كُلِّ دارٍ سَبْعُونَ بَيْتًا مِن زُمُرُّدَةٍ خَضْراءَ، في كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ سَرِيرًا، عَلى كُلِّ سَرِيرٍ سَبْعُونَ فِراشًا مِن كُلِّ لَوْنٍ، عَلى كُلِّ فِراشٍ امْرَأةٌ مِنَ الحُورِ العِينِ، في كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ مائِدَةً، في كُلِّ مائِدَةٍ سَبْعُونَ لَوْنًا مِن كُلِّ طَعامٍ، في كُلِّ بَيْتٍ سَبْعُونَ وصِيفًا ووَصِيفَةً، فَيُعْطى المُؤْمِنُ مِنَ القُوَّةِ في كُلِّ غَداةٍ ما يَأْتِي عَلى ذَلِكَ كُلِّهِ» . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، في قَوْلِهِ: ﴿جَنّاتِ عَدْنٍ﴾ قالَ: مَعْدِنُ الرَّجُلِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْهُ قالَ: مَعْدِنُهم فِيها أبَدًا. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، في قَوْلِهِ: ﴿ورِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أكْبَرُ﴾ يَعْنِي: إذا أُخْبِرُوا أنَّ اللَّهَ عَنْهم راضٍ، فَهو أكْبَرُ عِنْدَهم مِنَ التُّحَفِ والتَّسْنِيمِ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ، وغَيْرُهُما، مِن حَدِيثِ أبِي سَعِيدٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأهْلِ الجَنَّةِ: يا أهْلَ الجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنا وسَعْدَيْكَ والخَيْرُ في يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ ؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنا وما لَنا لا نَرْضى وقَدْ أعْطَيْتَنا ما لَمْ تُعْطِهِ أحَدًا مِن خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: ألا أُعْطِيكم أفْضَلَ مِن ذَلِكَ ؟ قالُوا: يا رَبَّنا وأيُّ شَيْءٍ أفْضَلُ مِن ذَلِكَ ؟ قالَ: أُحِلُّ عَلَيْكم رِضْوانِي، فَلا أسْخَطُ عَلَيْكم بَعْدَهُ أبَدًا» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب