الباحث القرآني
(p-٥٧٥)الِاسْتِفْهامُ في ﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهم﴾ لِلْإنْكارِ مِنَ اللَّهِ - تَعالى - عَلى رَسُولِهِ ﷺ حَيْثُ وقَعَ مِنهُ إذْنٌ لِمَنِ اسْتَأْذَنَهُ في القُعُودِ قَبْلَ أنْ يَتَبَيَّنَ مَن هو صادِقٌ مِنهم في عُذْرِهِ الَّذِي أبْداهُ، ومَن هو كاذِبٌ فِيهِ.
وفِي ذِكْرِ العَفْوِ عَنْهُ ﷺ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذا الإذْنَ الصّادِرَ مِنهُ كانَ خِلافَ الأوْلى، وفي هَذا عِتابٌ لَطِيفٌ مِنَ اللَّهِ - سُبْحانَهُ - وقِيلَ: إنَّ هَذا عِتابٌ لَهُ ﷺ في إذْنِهِ لِلْمُنافِقِينَ بِالخُرُوجِ مَعَهُ، لا في إذْنِهِ لَهم بِالقُعُودِ عَنِ الخُرُوجِ، والأوَّلُ أوْلى.
وقَدْ رَخَّصَ لَهُ - سُبْحانَهُ - في سُورَةِ النُّورِ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإذا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَن شِئْتَ مِنهم﴾ ( النُّورِ: ٦٢ ) ويُمْكِنُ أنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الآيَتَيْنِ بِأنَّ العِتابَ هُنا مُوَجَّهٌ إلى الإذْنِ قَبْلَ الِاسْتِثْباتِ حَتّى يَتَبَيَّنَ الصّادِقَ مِنَ الكاذِبِ، والإذْنَ هُنالِكَ مُتَوَجِّهٌ إلى الإذْنِ بَعْدَ الِاسْتِثْباتِ. واللَّهُ أعْلَمُ.
وقِيلَ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ﴾ هي افْتِتاحُ كَلامٍ. كَما تَقُولُ: أصْلَحَكَ اللَّهُ وأعَزَّكَ ورَحِمَكَ كَيْفَ فَعَلْتَ كَذا، وكَذا حَكاهُ مَكِّيٌّ، والنَّحّاسُ،، والمَهْدَوِيُّ، وعَلى هَذا التَّأْوِيلِ يَحْسُنُ الوَقْفُ عَلى ﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ﴾، وعَلى التَّأْوِيلِ الأوَّلِ لا يَحْسُنُ.
ولا يَخْفاكَ أنَّ التَّفْسِيرَ الأوَّلَ هو المُطابِقُ لِما يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ عَلى حَسَبِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، ولا وجْهَ لِإخْراجِهِ عَنْ مَعْناهُ العَرَبِيِّ.
وفِي الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى جَوازِ الِاجْتِهادِ مِنهُ ﷺ، والمَسْألَةُ مُدَوَّنَةٌ في الأُصُولِ، وفِيها أيْضًا دَلالَةٌ عَلى مَشْرُوعِيَّةِ الِاحْتِرازِ عَنِ العَجَلَةِ والِاغْتِرارِ بِظَواهِرِ الأُمُورِ، وحَتّى في ﴿حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ لِلْغايَةِ، كَأنَّهُ قِيلَ: لِما سارَعْتَ إلى الإذْنِ لَهم، وهَلّا تَأنَّيْتَ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكَ صِدْقُ مَن هو صادِقٌ مِنهم في العُذْرِ الَّذِي أبْداهُ، وكَذِبُ مَن هو كاذِبٌ مِنهم في ذَلِكَ ؟
ثُمَّ ذَكَرَ - سُبْحانَهُ - أنَّهُ لَيْسَ مِن عادَةِ المُؤْمِنِينَ أنْ يَسْتَأْذِنُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في القُعُودِ عَنِ الجِهادِ، بَلْ كانَ مِن عادَتِهِمْ أنَّهُ ﷺ إذا أذِنَ لِواحِدٍ مِنهم بِالقُعُودِ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَقالَ: ﴿لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ أنْ يُجاهِدُوا﴾ وهَذا عَلى أنَّ مَعْنى الآيَةِ أنْ لا يُجاهِدُوا عَلى حَذْفِ حَرْفِ النَّفْيِ، وقِيلَ: المَعْنى: لا يَسْتَأْذِنُكَ المُؤْمِنُونَ في التَّخَلُّفِ كَراهَةَ الجِهادِ، وقِيلَ: إنَّ مَعْنى الِاسْتِئْذانِ في الشَّيْءِ الكَراهَةُ لَهُ، وأمّا عَلى ما يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ اللَّفْظِ فالمَعْنى: لا يَسْتَأْذِنُكَ المُؤْمِنُونَ في الجِهادِ بَلْ دَأْبُهم أنْ يُبادِرُوا إلَيْهِ مِن غَيْرِ تَوَقُّفٍ ولا ارْتِقابٍ مِنهم لِوُقُوعِ الإذْنِ مِنكَ فَضْلًا عَنْ أنْ يَسْتَأْذِنُوكَ في التَّخَلُّفِ.
قالَ الزَّجّاجُ: أنْ يُجاهِدُوا في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِإضْمارِ في: أيْ في أنْ يُجاهِدُوا ﴿واللَّهُ عَلِيمٌ بِالمُتَّقِينَ﴾ وهم هَؤُلاءِ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَأْذِنُوا.
إنَّما يَسْتَأْذِنُكَ في القُعُودِ عَنِ الجِهادِ، والتَّخَلُّفِ عَنْهُ ﴿الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ وهُمُ: المُنافِقُونَ، وذَكَرَ الإيمانَ بِاللَّهِ أوَّلًا، ثُمَّ بِاليَوْمِ الآخِرِ ثانِيًا في المَوْضِعَيْنِ، لِأنَّهُما الباعِثانِ عَلى الجِهادِ في سَبِيلِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ: " وارْتابَتْ قُلُوبُهم " عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ: " الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ " . وجاءَ بِالماضِي لِلدَّلالَةِ عَلى تَحَقُّقِ الرَّيْبِ في قُلُوبِهِمْ، وهو الشَّكُّ.
قَوْلُهُ: ﴿فَهم في رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ﴾ أيْ: في شَكِّهِمُ الَّذِي حَلَّ بِقُلُوبِهِمْ يَتَحَيَّرُونَ، والتَّرَدُّدُ التَّحَيُّرُ.
والمَعْنى: فَهَؤُلاءِ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُوكَ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ بَلْ مُرْتابِينَ حائِرِينَ لا يَهْتَدُونَ إلى طَرِيقِ الصَّوابِ، ولا يَعْرِفُونَ الحَقَّ.
قَوْلُهُ: ﴿ولَوْ أرادُوا الخُرُوجَ لَأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً﴾ أيْ لَوْ كانُوا صادِقِينَ فِيما يَدَّعُونَهُ ويُخْبِرُونَكَ بِهِ مِن أنَّهم يُرِيدُونَ الجِهادَ مَعَكَ، ولَكِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهم مِنَ العُدَّةِ لِلْجِهادِ ما يُحْتاجُ إلَيْهِ لَما تَرَكُوا إعْدادَ العُدَّةِ وتَحْصِيلَها قَبْلَ وقْتِ الجِهادِ كَما يَسْتَعِدُّ لِذَلِكَ المُؤْمِنُونَ، فَمَعْنى هَذا الكَلامِ: أنَّهم لا يُرِيدُونَ الخُرُوجَ أصْلًا ولا اسْتَعَدُّوا لِلْغَزْوِ.
والعُدَّةُ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ المُجاهِدُ مِنَ الزّادِ والرّاحِلَةِ والسِّلاحِ.
قَوْلُهُ: ﴿ولَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ﴾ أيْ: ولَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ خُرُوجَهم فَتَثَبَّطُوا عَنِ الخُرُوجِ، فَيَكُونُ المَعْنى: ما خَرَجُوا ولَكِنْ تَثَبَّطُوا؛ لِأنَّ كَراهَةَ اللَّهِ انْبِعاثَهم تَسْتَلْزِمُ تَثَبُّطَهم عَنِ الخُرُوجِ، والِانْبِعاثُ الخُرُوجُ، أيْ: حَبَسَهُمُ اللَّهُ عَنِ الخُرُوجِ مَعَكَ وخَذَلَهم؛ لِأنَّهم قالُوا: إنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَنا في الجُلُوسِ أفْسَدْنا وحَرَّضْنا عَلى المُؤْمِنِينَ، وقِيلَ: المَعْنى: لَوْ أرادُوا الخُرُوجَ لَأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً، ولَكِنْ ما أرادُوهُ لِكَراهَةِ اللَّهِ لَهُ.
قَوْلُهُ: ﴿وقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القاعِدِينَ﴾ قِيلَ: القائِلُ لَهم هو الشَّيْطانُ بِما يُلْقِيهِ إلَيْهِمْ مِنَ الوَسْوَسَةِ، وقِيلَ: قالَهُ بَعْضُهم لِبَعْضٍ، وقِيلَ: قالَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ غَضَبًا عَلَيْهِمْ، وقِيلَ: هو عِبارَةٌ عَنِ الخِذْلانِ: أيْ أوْقَعَ اللَّهُ في قُلُوبِهِمُ القُعُودَ خِذْلانًا لَهم.
ومَعْنى مَعَ القاعِدِينَ، أيْ: مَعَ أُولِي الضَّرَرِ مِنَ العُمْيانِ والمَرْضى والنِّساءِ والصِّبْيانِ، وفِيهِ مِنَ الذَّمِّ لَهم والإزْراءِ عَلَيْهِمْ والتَّنَقُّصِ بِهِمْ ما لا يَخْفى.
قَوْلُهُ: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكم ما زادُوكم إلّا خَبالًا﴾ هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ ولِلْمُؤْمِنِينَ عَنْ تَخَلُّفِ المُنافِقِينَ.
والخَبالُ: الفَسادُ والنَّمِيمَةُ وإيقاعُ الِاخْتِلافِ والأراجِيفِ.
قِيلَ: هَذا الِاسْتِثْناءُ مُنْقَطِعٌ، أيْ: ما زادُوكم قُوَّةً، ولَكِنْ طَلَبُوا الخَبالَ، وقِيلَ: المَعْنى: لا يَزِيدُونَكم فِيما تَرَدَّدُونَ فِيهِ مِنَ الرَّأْيِ إلّا خَبالًا فَيَكُونُ مُتَّصِلًا، وقِيلَ: هو اسْتِثْناءٌ مِن أعَمِّ العامِّ، أيْ: ما زادُوكم شَيْئًا إلّا خَبالًا، فَيَكُونُ الِاسْتِثْناءُ مِن قِسْمِ المُتَّصِلِ؛ لِأنَّ الخَبالَ مِن جُمْلَةِ ما يَصْدُقُ عَلَيْهِ الشَّيْءُ.
قَوْلُهُ: ﴿ولَأوْضَعُوا خِلالَكم يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ﴾ الإيضاعُ: سُرْعَةُ السَّيْرِ، ومِنهُ قَوْلُ ورَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ:
؎يا لَيْتَنِي فِيها جَذَعْ أخُبُّ فِيها وأضَعْ
يُقالُ: أوْضَعَ البَعِيرُ: إذا أسْرَعَ السَّيْرَ، وقِيلَ: الإيضاعُ سَيْرُ الخَبَبِ، والخَلَلُ الفُرْجَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ، والجَمْعُ الخِلالُ: أيِ الفُرَجُ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الصُّفُوفِ.
والمَعْنى: لَسَعَوْا بَيْنَكم بِالإفْسادِ بِما يَخْتَلِقُونَهُ مِنَ الأكاذِيبِ المُشْتَمِلَةِ عَلى الإرْجافِ والنَّمائِمِ المُوجِبَةِ لِفَسادِ ذاتِ البَيْنِ.
قَوْلُهُ: ﴿يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ﴾ يُقالُ: بَغَيْتُهُ كَذا: طَلَبْتُهُ لَهُ، وأبْغَيْتُهُ كَذا: أعَنْتُهُ عَلى طَلَبِهِ.
والمَعْنى: يَطْلُبُونَ لَكُمُ الفِتْنَةَ في ذاتِ بَيْنِكم بِما يَصْنَعُونَهُ مِنَ التَّحْرِيشِ والإفْسادِ، وقِيلَ: الفِتْنَةُ هُنا الشِّرْكُ.
وجُمْلَةُ ﴿وفِيكم سَمّاعُونَ﴾ لَهم في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى (p-٥٧٦)الحالِ: أيْ والحالُ أنَّ فِيكم مَن يَسْتَمِعُ ما يَقُولُونَهُ مِنَ الكَذِبِ فَيَنْقُلُهُ إلَيْكم فَيَتَأثَّرُ مِن ذَلِكَ الِاخْتِلافُ بَيْنَكم، والفَسادُ لِإخْوانِكم ﴿واللَّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ﴾ وبِما يَحْدُثُ مِنهم لَوْ خَرَجُوا مَعَكم، فَلِذَلِكَ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ البالِغَةُ أنْ لا يَخْرُجُوا مَعَكم، وكَرِهَ انْبِعاثَهم مَعَكم، ولا يُنافِي حالُهم هَذا لَوْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ما تَقَدَّمَ مِن عِتابِهِ عَلى الإذْنِ لَهم في التَّخَلُّفِ؛ لِأنَّهُ سارَعَ إلى الإذْنِ لَهم، ولَمْ يَكُنْ قَدْ عَلِمَ مِن أحْوالِهِمْ لَوْ خَرَجُوا أنَّهم يَفْعَلُونَ هَذِهِ الأفاعِيلَ، فَعُوتِبَ ﷺ عَلى تَسَرُّعِهِ إلى الإذْنِ لَهم قَبْلَ أنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ الصّادِقَ مِنهم في عُذْرِهِ مِنَ الكاذِبِ، ولِهَذا قالَ اللَّهُ سُبْحانَهُ فِيما يَأْتِي في هَذِهِ السُّورَةِ: ﴿فَإنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إلى طائِفَةٍ مِنهم فاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أبَدًا﴾ ( التَّوْبَةِ: ٨٣ ) الآيَةَ، وقالَ في سُورَةِ الفَتْحِ: ﴿سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ إذا انْطَلَقْتُمْ إلى مَغانِمَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا﴾ ( الفَتْحِ: ١٥ ) .
قَوْلُهُ: ﴿لَقَدِ ابْتَغَوُا الفِتْنَةَ مِن قَبْلُ﴾ أيْ لَقَدْ طَلَبُوا الإفْسادَ والخَبالَ وتَفْرِيقَ كَلِمَةِ المُؤْمِنِينَ وتَشْتِيتَ شَمْلِهِمْ مِن قَبْلِ هَذِهِ الغَزْوَةِ الَّتِي تَخَلَّفُوا عَنْكَ فِيها كَما وقَعَ مِن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وغَيْرِهِ ﴿ويَأْبى اللَّهُ إلّا أنْ يُتِمَّ نُورَهُ ولَوْ كَرِهَ الكافِرُونَ﴾ [التوبة: ٣٢] .
قَوْلُهُ: ﴿وقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ﴾ أيْ: صَرَفُوها مِن أمْرٍ إلى أمْرٍ، ودَبَّرُوا لَكَ الحِيَلَ والمَكائِدَ، ومِنهُ قَوْلُ العَرَبِ ( حُوَّلٌ قُلَّبٌ ) إذا كانَ دائِرًا حَوْلَ المَكائِدِ والحِيَلِ يُدِيرُ الرَّأْيَ فِيها ويَتَدَبَّرُهُ.
وقُرِئَ " وقَلَبُوا " بِالتَّخْفِيفِ حَتّى جاءَ الحَقُّ أيْ: إلى غايَةٍ هي مَجِيءُ الحَقِّ، وهو النَّصْرُ لَكَ والتَّأْيِيدُ وظَهَرَ أمْرُ اللَّهِ بِإعْزازِ دِينِهِ وإعْلامِ شَرْعِهِ وقَهْرِ أعْدائِهِ، وقِيلَ: الحَقُّ القُرْآنُ وهم كارِهُونَ أيْ: والحالُ أنَّهم كارِهُونَ لِمَجِيءِ الحَقِّ وظُهُورِ أمْرِ اللَّهِ، ولَكِنْ كانَ ذَلِكَ عَلى رُغْمٍ مِنهم.
" ومِنهم " أيْ: مِنَ المُنافِقِينَ مَن يَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ " ائْذَنْ لِي " في التَّخَلُّفِ عَنِ الجِهادِ " ولا تَفْتِنِّي " أيْ: لا تُوقِعْنِي في الفِتْنَةِ أيِ: الإثْمِ إذا لَمْ تَأْذَنْ لِي فَتَخَلَّفْتُ بِغَيْرِ إذْنِكَ، وقِيلَ: مَعْناهُ: لا تُوقِعْنِي في الهَلَكَةِ بِالخُرُوجِ ﴿ألا في الفِتْنَةِ سَقَطُوا﴾ أيْ في نَفْسِ الفِتْنَةِ سَقَطُوا، وهي فِتْنَةُ التَّخَلُّفِ عَنِ الجِهادِ، والِاعْتِذارِ الباطِلِ.
والمَعْنى: أنَّهم ظَنُّوا أنَّهم بِالخُرُوجِ أوْ بِتَرْكِ الإذْنِ لَهم يَقَعُونَ في الفِتْنَةِ، وهم بِهَذا التَّخَلُّفِ سَقَطُوا في الفِتْنَةِ العَظِيمَةِ.
وفِي التَّعْبِيرِ بِالسُّقُوطِ ما يُشْعِرُ بِأنَّهم وقَعُوا فِيها وُقُوعَ مَن يَهْوِي مِن أعْلى إلى أسْفَلَ، وذَلِكَ أشَدُّ مِن مُجَرَّدِ الدُّخُولِ في الفِتْنَةِ، ثُمَّ تَوَعَّدَهم عَلى ذَلِكَ، فَقالَ: ﴿وإنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالكافِرِينَ﴾ أيْ: مُشْتَمِلَةٌ عَلَيْهِمْ مِن جَمِيعِ الجَوانِبِ لا يَجِدُونَ عَنْها مَخْلَصًا، ولا يَتَمَكَّنُونَ مِنَ الخُرُوجِ مِنها بِحالٍ مِنَ الأحْوالِ.
وقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ في المُصَنَّفِ وابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قالَ: «اثْنَتانِ فَعَلَهُما رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِما بِشَيْءٍ: إذْنُهُ لِلْمُنافِقِينَ، وأخْذُهُ مِنَ الأُسارى، فَأنْزَلَ اللَّهُ: عَفا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهم» .
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: سَمِعْتُمْ بِمُعاتِبَةٍ أحْسَنَ مِن هَذا ؟ بَدَأ بِالعَفْوِ قَبْلَ المُعاتَبَةِ، فَقالَ: عَفا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهم.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ﴾ الآيَةَ، قالَ: ناسٌ قالُوا: اسْتَأْذِنُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَإنْ أذِنَ لَكم فاقْعُدُوا، وإنْ لَمْ يَأْذَنْ لَكم فاقْعُدُوا.
وأخْرَجَ النَّحّاسُ في ناسِخِهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ الثَّلاثَ الآياتِ، قالَ: نَسَخَها ﴿فَإذا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَن شِئْتَ مِنهم﴾ ( النُّورِ: ٦٢ ) .
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والنَّحّاسُ، في ناسِخِهِ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ الآيَةَ، قالَ: هَذا تَعْيِيرٌ لِلْمُنافِقِينَ حِينَ اسْتَأْذَنُوا في القُعُودِ عَنِ الجِهادِ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وعَذَرَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ فَقالَ: ﴿فَإذا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَن شِئْتَ مِنهم﴾ ( النُّورِ: ٦٢ ) .
وأخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: لا يَسْتَأْذِنُكَ الآيَتَيْنِ، قالَ: نَسَخَتْها الآيَةُ الَّتِي في سُورَةِ النُّورِ: ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ إلى ﴿إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ ( النُّورِ: ٦٢ ) فَجَعَلَ اللَّهُ النَّبِيَّ ﷺ بِأعْلى النَّظَرَيْنِ في ذَلِكَ، مَن غَزا غَزا في فَضِيلَةٍ، ومَن قَعَدَ قَعَدَ في غَيْرِ حَرَجٍ إنْ شاءَ اللَّهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنِ الضَّحّاكِ، في قَوْلِهِ: ﴿ولَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ﴾ قالَ: خُرُوجَهم.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: فَثَبَّطَهم قالَ: حَبَسَهم.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ في قَوْلِهِ: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكم ما زادُوكم إلّا خَبالًا﴾ قالَ: هَؤُلاءِ المُنافِقُونَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ.
وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: " ﴿ولَأوْضَعُوا خِلالَكم﴾ " قالَ: لَأسْرَعُوا بَيْنَكم.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿ولَأوْضَعُوا خِلالَكم﴾ قالَ: لَأرْفَضُوا " ﴿يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ﴾ " يُبَطِّئُونَكم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلٍ،، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ،، ورِفاعَةُ بْنُ تابُوتَ،، وأوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ ﴿وفِيكم سَمّاعُونَ لَهُمْ﴾ مُحَدِّثُونَ لَهم بِأحادِيثِكم غَيْرُ مُنافِقِينَ، وهم عُيُونٌ لِلْمُنافِقِينَ.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، والطَّبَرانِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وأبُو نُعَيْمٍ في المَعْرِفَةِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «لَمّا أرادَ النَّبِيُّ ﷺ أنْ يَخْرُجَ إلى غَزْوَةِ تَبُوكَ قالَ لِجَدِّ بْنِ قَيْسٍ: يا جَدُّ بْنَ قَيْسٍ ما تَقُولُ في مُجاهَدَةِ بَنِي الأصْفَرِ ؟ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي امْرُؤٌ صاحِبُ نِساءٍ، ومَتى أرى نِساءَ بَنِي الأصْفَرِ أفْتَتِنُ، فَأْذَنْ لِي ولا تَفْتِنِّي، فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿ومِنهم مَن يَقُولُ ائْذَنْ لِي﴾ الآيَةَ» .
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ نَحْوَهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ عائِشَةَ نَحْوَهُ أيْضًا.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، في قَوْلِهِ: ﴿ولا تَفْتِنِّي﴾ قالَ: لا تُخْرِجْنِي ﴿ألا في الفِتْنَةِ سَقَطُوا﴾ يَعْنِي في الخُرُوجِ.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿ولا تَفْتِنِّي﴾، قالَ: لا تُؤَثِّمْنِي ﴿ألا في الفِتْنَةِ﴾ قالَ: ألا في الإثْمِ، وقِصَّةُ تَبُوكَ مَذْكُورَةٌ في كُتُبِ الحَدِيثِ والسِّيَرِ فَلا نُطَوِّلُ بِذِكْرِها.
{"ayahs_start":43,"ayahs":["عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمۡ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَكَ ٱلَّذِینَ صَدَقُوا۟ وَتَعۡلَمَ ٱلۡكَـٰذِبِینَ","لَا یَسۡتَـٔۡذِنُكَ ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ أَن یُجَـٰهِدُوا۟ بِأَمۡوَ ٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِیمُۢ بِٱلۡمُتَّقِینَ","إِنَّمَا یَسۡتَـٔۡذِنُكَ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَٱرۡتَابَتۡ قُلُوبُهُمۡ فَهُمۡ فِی رَیۡبِهِمۡ یَتَرَدَّدُونَ","۞ وَلَوۡ أَرَادُوا۟ ٱلۡخُرُوجَ لَأَعَدُّوا۟ لَهُۥ عُدَّةࣰ وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمۡ فَثَبَّطَهُمۡ وَقِیلَ ٱقۡعُدُوا۟ مَعَ ٱلۡقَـٰعِدِینَ","لَوۡ خَرَجُوا۟ فِیكُم مَّا زَادُوكُمۡ إِلَّا خَبَالࣰا وَلَأَوۡضَعُوا۟ خِلَـٰلَكُمۡ یَبۡغُونَكُمُ ٱلۡفِتۡنَةَ وَفِیكُمۡ سَمَّـٰعُونَ لَهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِیمُۢ بِٱلظَّـٰلِمِینَ","لَقَدِ ٱبۡتَغَوُا۟ ٱلۡفِتۡنَةَ مِن قَبۡلُ وَقَلَّبُوا۟ لَكَ ٱلۡأُمُورَ حَتَّىٰ جَاۤءَ ٱلۡحَقُّ وَظَهَرَ أَمۡرُ ٱللَّهِ وَهُمۡ كَـٰرِهُونَ","وَمِنۡهُم مَّن یَقُولُ ٱئۡذَن لِّی وَلَا تَفۡتِنِّیۤۚ أَلَا فِی ٱلۡفِتۡنَةِ سَقَطُوا۟ۗ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِیطَةُۢ بِٱلۡكَـٰفِرِینَ"],"ayah":"عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمۡ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَكَ ٱلَّذِینَ صَدَقُوا۟ وَتَعۡلَمَ ٱلۡكَـٰذِبِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











