الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ لَمّا شَرَحَ مَعايِبَ أُولَئِكَ الكُفّارِ عادَ إلى تَرْغِيبِ المُؤْمِنِينَ في قِتالِهِمْ، والِاسْتِفْهامِ في: ما لَكم ؟ لِلْإنْكارِ والتَّوْبِيخِ، أيْ: أيُّ شَيْءٍ يَمْنَعُكم مِن ذَلِكَ، ولا خِلافَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ عِتابًا لِمَن تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في غَزْوَةِ تَبُوكَ، وكانَتْ سَنَةَ تِسْعٍ مِنَ الهِجْرَةِ، بَعْدَ الفَتْحِ بِعامٍ، والنَّفْرُ: هو الِانْتِقالُ بِسُرْعَةٍ مِن مَكانٍ إلى مَكانٍ لِأمْرٍ يَحْدُثُ. قَوْلُهُ: ﴿اثّاقَلْتُمْ إلى الأرْضِ﴾ أصْلُهُ تَثاقَلْتُمْ أُدْغِمَتِ التّاءُ في الثّاءِ لِقُرْبِها مِنها، وجِيءَ بِألِفِ الوَصْلِ لِيُتَوَصَّلَ بِها إلى النُّطْقِ بِالسّاكِنِ، ومِثْلُهُ: ادّارَكُوا، واطَّيَّرْتُمْ، واطَّيَّرُوا، وأنْشَدَ الكِسائِيُّ: ؎تَوالى الضَّجِيعُ إذا ما اشْتاقَها حَضَرا عَذْبُ المَذاقِ إذا ما اتّابَعَ القُبَلَ وقَرَأ الأعْمَشُ: " تَثاقَلْتُمْ " عَلى الأصْلِ، ومَعْناهُ تَباطَأْتُمْ، وعُدِّيَ بِـ " إلى " لِتَضَمُّنِهِ مَعْنى المَيْلِ والإخْلادِ، وقِيلَ: مَعْناهُ: مِلْتُمْ إلى الإقامَةِ بِأرْضِكم والبَقاءِ فِيها، وقُرِئَ: " آثاقَلْتُمْ " عَلى الِاسْتِفْهامِ، ومَعْناهُ التَّوْبِيخُ، والعامِلُ في الظَّرْفِ " ما " في: " ما لَكم " مِن مَعْنى الفِعْلِ، كَأنَّهُ قِيلَ: ما يَمْنَعُكم، أوْ ما تَصْنَعُونَ إذا قِيلَ لَكم ؟ و" إلى الأرْضِ " مُتَعَلِّقٌ بِـ " اثّاقَلْتُمْ " وكَما مَرَّ. قَوْلُهُ: ﴿أرَضِيتُمْ بِالحَياةِ الدُّنْيا﴾ أيْ: بِنَعِيمِها بَدَلًا مِنَ الآخِرَةِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنكم مَلائِكَةً في الأرْضِ يَخْلُفُونَ﴾ ( الزُّخْرُفِ: ٦٠ ) أيْ بَدَلًا مِنكم، ومَثَلُهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎قَلَبَتْ لَنا مِن ماءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً ∗∗∗ مُبَرَّدَةً باتَتْ عَلى طَهَيانِ أيْ: بَدَلًا مِن ماءِ زَمْزَمَ. والطَّهَيانُ: عُودٌ يُنْصَبُ في ناحِيَةِ الدّارِ لِلْهَواءِ يُعَلَّقُ عَلَيْهِ الماءَ لِيَبْرُدَ، ومَعْنى " في الآخِرَةِ " أيْ: في جَنْبِ الآخِرَةِ، وفي مُقابِلِها. " إلّا قَلِيلٌ " أيْ: إلّا مَتاعٌ حَقِيرٌ لا يُعْبَأُ بِهِ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالقَلِيلِ العَدَمُ، إذْ لا نِسْبَةَ لِلْمُتَناهِي الزّائِلِ إلى غَيْرِ المُتَناهِي الباقِي، والظّاهِرُ أنَّ هَذا التَّثاقُلَ لَمْ يَصْدُرْ مِنَ الكُلِّ، إذْ مِنَ البَعِيدِ أنْ يُطْبِقُوا جَمِيعًا عَلى التَّباطُؤِ والتَّثاقُلِ، وإنَّما هو مِن بابِ نِسْبَةِ ما يَقَعُ مِنَ البَعْضِ إلى الكُلِّ، وهو كَثِيرٌ شائِعٌ. قَوْلُهُ: ﴿إلّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ﴾ هَذا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، ووَعِيدٌ مُؤَكَّدٌ لِمَن تَرَكَ النَّفِيرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ﴿يُعَذِّبْكم عَذابًا ألِيمًا﴾ أيْ: يُهْلِكْكم بِعَذابٍ شَدِيدٍ مُؤْلِمٍ، قِيلَ: في الدُّنْيا فَقَطْ، وقِيلَ: هو أعَمُّ مِن ذَلِكَ. قَوْلُهُ: ﴿ويَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ أيْ: يَجْعَلْهُ لِرُسُلِهِ بَدَلًا مِنكم، مِمَّنْ لا يَتَباطَأُ عِنْدَ حاجَتِهِمْ إلَيْهِمْ. واخْتُلِفَ في هَؤُلاءِ القَوْمِ مَن هم ؟ فَقِيلَ: أهْلُ اليَمَنِ، وقِيلَ: أهْلُ فارِسَ، ولا وجْهَ لِلتَّعْيِينِ بِدُونِ دَلِيلٍ. قَوْلُهُ: ﴿ولا تَضُرُّوهُ شَيْئًا﴾ مَعْطُوفٌ عَلى " يَسْتَبْدِلْ " والضَّمِيرُ، قِيلَ: لِلَّهِ، وقِيلَ: لِلنَّبِيِّ ﷺ أيْ: ولا تَضُرُّوا اللَّهَ بِتَرْكِ امْتِثالِ أمْرِهِ بِالنَّفِيرِ شَيْئًا، أوْ لا تَضُرُّوا رَسُولَ اللَّهِ بِتَرْكِ نَصْرِهِ والنَّفِيرِ مَعَهُ شَيْئًا: ﴿واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، ومِن جُمْلَةِ مَقْدُوراتِهِ (p-٥٧٣)تَعْذِيبُكم والِاسْتِبْدالُ بِكم. قَوْلُهُ: ﴿إلّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ أيْ: إنْ تَرَكْتُمْ نَصْرَهُ فاللَّهُ مُتَكَفِّلٌ بِهِ، فَقَدْ نَصَرَهُ في مَواطِنِ القِلَّةِ، وأظْهَرَهُ عَلى عَدُوِّهِ بِالغَلَبَةِ والقَهْرِ، أوْ فَسَيَنْصُرُهُ مَن نَصَرَهُ حِينَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلّا رَجُلٌ واحِدٌ وقْتَ إخْراجِ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُ حالَ كَوْنِهِ ثانِيَ اثْنَيْنِ، أيْ: أحَدَ اثْنَيْنِ، وهُما: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقُرِئَ بِسُكُونِ الياءِ. قالَ ابْنُ جِنِّي:: حَكاها أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ، ووَجْهُها أنْ تُسَكَّنَ الياءُ تَشْبِيهًا بِالألِفِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَهي كَقِراءَةِ الحَسَنِ ﴿ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا﴾ ( البَقَرَةِ: ٢٧٨ )، وكَقَوْلِ جَرِيرٍ: ؎هُوَ الخَلِيفَةُ فارْضُوا ما رَضِيَهُ لَكم ∗∗∗ ماضِي العَزِيمَةِ ما في حُكْمِهِ جَنَفُ قَوْلُهُ: ﴿إذْ هُما في الغارِ﴾ بَدَلٌ مِن " إذْ أخْرَجَهُ " بَدَلُ بَعْضٍ، والغارُ: ثُقْبٌ في الجَبَلِ المُسَمّى ثَوْرًا، وهو المَشْهُورُ بِغارِ ثَوْرٍ، وهو جَبَلٌ قَرِيبٌ مِن مَكَّةَ، وقِصَّةُ خُرُوجِهِ ﷺ مِن مَكَّةَ إلى المَدِينَةِ، هو وأبُو بَكْرٍ ودُخُولِهِما الغارَ مَشْهُورَةٌ مَذْكُورَةٌ في كُتُبِ السِّيَرِ والحَدِيثِ. قَوْلُهُ: ﴿إذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ﴾ بَدَلٌ ثانٍ، أيْ: وقْتَ قَوْلِهِ لِأبِي بَكْرٍ: ﴿لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنا﴾ أيْ: دَعِ الحُزْنَ، فَإنَّ اللَّهَ بِنَصْرِهِ وعَوْنِهِ وتَأْيِيدِهِ مَعَنا، ومَن كانَ اللَّهُ مَعَهُ فَلَنْ يُغْلَبَ، ومَن لا يُغْلَبُ فَيَحِقُّ لَهُ أنْ لا يَحْزَنَ. قَوْلُهُ: ﴿فَأنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ السَّكِينَةُ: تَسْكِينُ جَأْشِهِ وتَأْمِينُهُ حَتّى ذَهَبَ رَوْعُهُ وحَصَلَ لَهُ الأمْنُ، عَلى أنَّ الضَّمِيرَ في عَلَيْهِ لِأبِي بَكْرٍ، وقِيلَ: هو لِلنَّبِيِّ ﷺ ويَكُونُ المُرادُ بِالسَّكِينَةِ النّازِلَةِ عَلَيْهِ: عِصْمَتَهُ عَنْ حُصُولِ سَبَبٍ مِن أسْبابِ الخَوْفِ لَهُ، ويُؤَيِّدُ كَوْنَ الضَّمِيرِ في " عَلَيْهِ " لِلنَّبِيِّ ﷺ الضَّمِيرُ في ﴿وأيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها﴾ فَإنَّهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ لِأنَّهُ المُؤَيَّدُ بِهَذِهِ الجُنُودِ الَّتِي هي المَلائِكَةُ كَما كانَ في يَوْمِ بَدْرٍ، وقِيلَ: إنَّهُ لا مَحْذُورَ في رُجُوعِ الضَّمِيرِ مِن " عَلَيْهِ " إلى أبِي بَكْرٍ ومِن " وأيَّدَهُ " إلى النَّبِيِّ ﷺ فَإنَّ ذَلِكَ كَثِيرٌ في القُرْآنِ وفي كَلامِ العَرَبِ ﴿وجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى﴾ أي: كَلِمَةَ الشِّرْكِ، وهي: دَعْوَتُهم إلَيْهِ ونِداؤُهم لِلْأصْنامِ ﴿وكَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيا﴾ . قَرَأ الأعْمَشُ، ويَعْقُوبُ بِنَصْبِ كَلِمَةٍ حَمْلًا عَلى " جَعَلَ "، وقَرَأ الباقُونَ بِرَفْعِها عَلى الِاسْتِئْنافِ. وقَدْ ضَعَّفَ قِراءَةَ النَّصْبِ الفَرّاءُ، وأبُو حاتِمٍ، وفي ضَمِيرِ الفَصْلِ - أعْنِي هي - تَأْكِيدٌ لِفَضْلِ كَلِمَتِهِ في العُلُوِّ، وأنَّها المُخْتَصَّةُ بِهِ دُونَ غَيْرِها، وكَلِمَةُ اللَّهِ هي كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ والدَّعْوَةِ إلى الإسْلامِ. ﴿واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أيْ: غالِبٌ قاهِرٌ، لا يَفْعَلُ إلّا ما فِيهِ حِكْمَةٌ وصَوابٌ. ثُمَّ لَمّا تَوَّعَدَ مَن لَمْ يَنْفِرْ مَعَ الرَّسُولِ ﷺ وضَرَبَ لَهُ مِنَ الأمْثالِ ما ذَكَرَهُ، عَقَّبَهُ بِالأمْرِ الجَزْمِ، فَقالَ: ﴿انْفِرُوا خِفافًا وثِقالًا﴾ أيْ: حالَ كَوْنِكم خِفافًا وثِقالًا، قِيلَ: المُرادُ مُنْفَرِدِينَ أوْ مُجْتَمِعِينَ، وقِيلَ: نَشاطًا وغَيْرَ نَشاطٍ، وقِيلَ: فُقَراءَ وأغْنِياءَ، وقِيلَ: شَبابًا وشُيُوخًا، وقِيلَ: رِجالًا وفِرْسانًا، وقِيلَ: مَن لا عِيالَ لَهُ ومَن لَهُ عِيالٌ، وقِيلَ: مَن يَسْبِقُ إلى الحَرْبِ كالطَّلائِعِ، ومَن يَتَأخَّرُ كالجَيْشِ، وقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. ولا مانِعَ مِن حَمْلِ الآيَةِ عَلى جَمِيعِ هَذِهِ المَعانِي؛ لِأنَّ مَعْنى الآيَةِ: انْفِرُوا خَفَّتْ عَلَيْكُمُ الحَرَكَةُ أوْ ثَقُلَتْ. قِيلَ: وهَذِهِ الآيَةُ مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ - تَعالى -: ﴿لَيْسَ عَلى الضُّعَفاءِ ولا عَلى المَرْضى﴾ ( التَّوْبَةِ: ٩١ )، وقِيلَ: النّاسِخُ لَها قَوْلُهُ: ﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنهم طائِفَةٌ﴾ ( التَّوْبَةِ: ١٢٢ ) الآيَةَ، وقِيلَ: هي مُحْكَمَةٌ ولَيْسَتْ بِمَنسُوخَةٍ، ويَكُونُ إخْراجُ الأعْمى والأعْرَجِ بِقَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ عَلى الأعْمى حَرَجٌ ولا عَلى الأعْرَجِ حَرَجٌ﴾ ( النُّورِ: ٦١ ) وإخْراجُ الضَّعِيفِ والمَرِيضِ بِقَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ عَلى الضُّعَفاءِ ولا عَلى المَرْضى﴾ ( التَّوْبَةِ: ٩١ ) مِن بابِ التَّخْصِيصِ، لا مِن بابِ النَّسْخِ عَلى فَرْضِ دُخُولِ هَؤُلاءِ تَحْتَ قَوْلِهِ: خِفافًا وثِقالًا والظّاهِرُ عَدَمُ دُخُولِهِمْ تَحْتَ العُمُومِ. قَوْلُهُ: ﴿وجاهِدُوا بِأمْوالِكم وأنْفُسِكم في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ فِيهِ الأمْرُ بِالجِهادِ بِالأنْفُسِ والأمْوالِ وإيجابُهُ عَلى العِبادِ، فالفُقَراءُ يُجاهِدُونَ بِأنْفُسِهِمْ، والأغْنِياءُ بِأمْوالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ. والجِهادُ مِن آكَدِ الفَرائِضِ وأعْظَمِها، وهو فَرْضُ كِفايَةٍ مَهْما كانَ البَعْضُ يَقُومُ بِجِهادِ العَدُوِّ وبِدَفْعِهِ، فَإنْ كانَ لا يَقُومُ بِالعَدُوِّ إلّا جَمِيعُ المُسْلِمِينَ في قُطْرٍ مِنَ الأرْضِ، أوْ أقْطارٍ وجَبَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ وُجُوبَ عَيْنٍ، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: " ذَلِكم " إلى ما تَقَدَّمَ مِنَ الأمْرِ بِالنَّفِيرِ والأمْرِ بِالجِهادِ. " خَيْرٌ لَكم " أيْ: خَيْرٌ عَظِيمٌ في نَفْسِهِ، وخَيْرٌ مِنَ السُّكُونِ والدَّعَةِ، إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ وتَعْرِفُونَ الأشْياءَ الفاضِلَةَ وتُمَيِّزُونَها عَنِ المَفْضُولَةِ. قَوْلُهُ: ﴿لَوْ كانَ عَرَضًا قَرِيبًا وسَفَرًا قاصِدًا لاتَّبَعُوكَ﴾ . قالَ الزَّجّاجُ: لَوْ كانَ المَدْعُوُّ إلَيْهِ، فَحُذِفَ لِدَلالَةِ ما تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، والعَرَضُ: ما يَعْرِضُ مِن مَنافِعِ الدُّنْيا. والمَعْنى: غَنِيمَةٌ قَرِيبَةٌ غَيْرُ بَعِيدَةٍ ﴿وسَفَرًا قاصِدًا﴾ عَطْفٌ عَلى ما قَبْلَهُ: أيْ: سَفَرًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ القُرْبِ والبُعْدِ، وكُلُّ مُتَوَسِّطٍ بَيْنَ الإفْراطِ والتَّفْرِيطِ فَهو قاصِدٌ ﴿ولَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ﴾ . قالَ أبُو عُبَيْدَةَ وغَيْرُهُ: إنَّ الشُّقَّةَ السَّفَرُ إلى أرْضٍ بَعِيدَةٍ، يُقالُ مِنهُ شُقَّةٌ شاقَّةٌ. قالَ الجَوْهَرِيُّ: الشُّقَّةُ بِالضَّمِّ مِنَ الثِّيابِ، والشُّقَّةُ أيْضًا: السَّفَرُ البَعِيدُ، ورُبَّما قالُوهُ بِالكَسْرِ، والمُرادُ بِهَذا غَزْوَةُ تَبُوكَ فَإنَّها كانَتْ سَفْرَةً بَعِيدَةً شاقَّةً. وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ: " بَعِدَتْ عَلَيْهِمُ الشِّقَّةُ " بِكَسْرِ العَيْنِ والشِّينِ. " وسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ " أيِ: المُتَخَلِّفُونَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ حالَ كَوْنِكم قائِلِينَ ﴿لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكم﴾ أيْ: لَوْ قَدَرْنا عَلى الخُرُوجِ ووَجَدْنا ما نَحْتاجُ إلَيْهِ فِيهِ مِمّا لا بُدَّ مِنهُ لَخَرَجْنا مَعَكم. هَذِهِ الجُمْلَةُ سادَّةٌ مَسَدَّ جَوابِ القَسَمِ والشَّرْطِ. قَوْلُهُ: ﴿يُهْلِكُونَ أنْفُسَهُمْ﴾ هو بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ: سَيَحْلِفُونَ لِأنَّ مَن حَلَفَ كاذِبًا فَقَدْ أهْلَكَ نَفْسَهُ. أوْ يَكُونُ حالًا، أيْ: مُهْلِكِينَ أنْفُسَهم مُوقِعِينَ لَها مَوْقِعَ الهَلاكِ ﴿واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّهم لَكاذِبُونَ﴾ في حَلِفِهِمُ الَّذِي سَيَحْلِفُونَ بِهِ لَكم. وقَدْ أخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكم إذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا﴾ الآيَةَ، قالَ هَذا حِينَ أُمِرُوا بِغَزْوَةِ تَبُوكَ بَعْدَ الفَتْحِ، وحِينَ أمَرَهم بِالنَّفِيرِ في الصَّيْفِ، وحِينَ خَرَفَتِ النَّخْلُ وطابَتِ الثِّمارُ واشْتَهَوُا الظِّلالَ وشَقَّ عَلَيْهِمُ المَخْرَجُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿انْفِرُوا خِفافًا وثِقالًا﴾ . (p-٥٧٤)وأخْرَجَ أبُو داوُدَ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إلّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكم عَذابًا ألِيمًا﴾ قالَ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اسْتَنْفَرَ حَيًّا مِن أحْياءِ العَرَبِ فَتَثاقَلُوا عَنْهُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ فَأمْسَكَ عَنْهُمُ المَطَرُ فَكانَ ذَلِكَ عَذابَهم» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ قالَ: لَمّا نَزَلَتْ: ﴿إلّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكم عَذابًا ألِيمًا﴾ وقَدْ كانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ أُناسٌ في البَدْوِ يُفَقِّهُونَ قَوْمَهم، فَقالَ المُؤْمِنُونَ: قَدْ بَقِيَ ناسٌ في البَوادِي وقالُوا هَلَكَ أصْحابُ البَوادِي، فَنَزَلَتْ: ﴿وما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافَّةً﴾ ( التَّوْبَةِ: ١٢٢ ) . وأخْرَجَ أبُو داوُدَ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والنَّحّاسُ،، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إلّا تَنْفِرُوا﴾ الآيَةَ، قالَ: نَسَخَتْها ﴿وما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافَّةً﴾ ( التَّوْبَةِ: ١٢٢ ) . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿إلّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ﴾ قالَ: ذَكَرَ ما كانَ مِن أوَّلِ شَأْنِهِ حِينَ بُعِثَ، يَقُولُ: فَأنا فاعِلٌ ذَلِكَ بِهِ، وناصِرُهُ كَما نَصَرْتُهُ إذْ ذاكَ وهو ثانِي اثْنَيْنِ. وأخْرَجَ أبُو نُعَيْمٍ، والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ، عَنِ ابْنِ شِهابٍ، وعُرْوَةَ: «أنَّهم رَكِبُوا في كُلِّ وجْهٍ، يَعْنِي المُشْرِكِينَ يَطْلُبُونَ النَّبِيَّ ﷺ وبَعَثُوا إلى أهْلِ المِياهِ يَأْمُرُونَهم ويَجْعَلُونَ لَهُمُ الحِمْلَ العَظِيمَ، وأتَوْا عَلى ثَوْرٍ، الجَبَلِ الَّذِي فِيهِ الغارُ، والَّذِي فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ حَتّى طَلَعُوا فَوْقَهُ، وسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأبُو بَكْرٍ أصْواتَهم، فَأشْفَقَ أبُو بَكْرٍ وأقْبَلَ عَلَيْهِ الهَمُّ والخَوْفُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنا ودَعا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَنَزَلَتْ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ مِنَ اللَّهِ ﴿فَأنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وعَلى المُؤْمِنِينَ﴾، الآيَةَ» . وأخْرَجَ ابْنُ شاهِينَ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وابْنُ عَساكِرَ، عَنْ حَبَشِيِّ بْنِ جُنادَةَ قالَ: «قالَ أبُو بَكْرٍ: يا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أنَّ أحَدًا مِنَ المُشْرِكِينَ رَفَعَ قَدَمَهُ لَأبْصَرَنا، فَقالَ: يا أبا بَكْرٍ لا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنا» . وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ في قَوْلِهِ: ﴿إذْ هُما في الغارِ﴾ قالَ: هو الغارُ الَّذِي في الجَبَلِ الَّذِي يُسَمّى ثَوْرًا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ وابْنُ عَساكِرَ في تارِيخِهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، في قَوْلِهِ: ﴿فَأنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ قالَ: عَلى أبِي بَكْرٍ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ تَزَلْ مَعَهُ السَّكِينَةُ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ،، عَنْ أنَسٍ قالَ: «دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ وأبُو بَكْرٍ غارَ حِراءٍ، فَقالَ أبُو بَكْرٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ: لَوْ أنَّ أحَدَهم يُبْصِرُ مَوْضِعَ قَدَمِهِ لَأبْصَرَنِي وإيّاكَ، فَقالَ ﷺ: ما ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثالِثُهُما يا أبا بَكْرٍ ؟ إنَّ اللَّهَ أنْزَلَ سَكِينَتَهُ عَلَيْكَ وأيَّدَنِي بِجُنُودٍ لَمْ يَرَوْها» . وأخْرَجَ الخَطِيبُ في تارِيخِهِ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أبِي ثابِتٍ ﴿فَأنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ﴾ قالَ: عَلى أبِي بَكْرٍ، فَأمّا النَّبِيُّ ﷺ فَقَدْ كانَتْ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والبَيْهَقِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى﴾ قالَ: هي الشِّرْكُ بِاللَّهِ ﴿وكَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيا﴾ قالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. وأخْرَجَ الفِرْيابِيُّ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ أبِي الضُّحى قالَ: أوَّلُ ما أُنْزِلَ مِن " بَراءَةٌ " ﴿انْفِرُوا خِفافًا وثِقالًا﴾ ثُمَّ نَزَلَ أوَّلُها وآخِرُها. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ أبِي مالِكٍ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿خِفافًا وثِقالًا﴾ قالَ: نَشاطًا وغَيْرَ نَشاطٍ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ الحَكَمِ في الآيَةِ قالَ: مَشاغِيلَ وغَيْرَ مَشاغِيلَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنِ الحَسَنِ قالَ: في العُسْرِ واليُسْرِ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ قالَ: فِتْيانًا وكُهُولًا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ قالَ: شَبابًا وشُيُوخًا. أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: قالُوا إنَّ فِينا الثَّقِيلَ، وذا الحاجَةِ والضَّيْعَةِ والشُّغْلِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿انْفِرُوا خِفافًا وثِقالًا﴾ وأبى أنْ يَعْذِرَهم دُونَ أنْ يَنْفِرُوا خِفافًا وثِقالًا، وعَلى ما كانَ مِنهم. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، «عَنِ السُّدِّيِّ قالَ: جاءَ رَجُلٌ زَعَمُوا أنَّهُ المِقْدادُ، وكانَ عَظِيمًا سَمِينًا، فَشَكا إلَيْهِ وسَألَهُ أنْ يَأْذَنَ لَهُ فَأبى، فَنَزَلَتْ: ﴿انْفِرُوا خِفافًا وثِقالًا﴾ فَلَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ اشْتَدَّ عَلى النّاسِ شَأْنُها فَنَسَخَها اللَّهُ، فَقالَ: ﴿لَيْسَ عَلى الضُّعَفاءِ ولا عَلى المَرْضى﴾» ( التَّوْبَةِ: ٩١ ) الآيَةَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: «إنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قِيلَ لَهُ: ألا تَغْزُو بَنِي الأصْفَرِ لَعَلَّكَ أنْ تُصِيبَ ابْنَةَ عَظِيمِ الرُّومِ ؟ فَقالَ رَجُلانِ: قَدْ عَلِمْتَ يا رَسُولَ اللَّهِ أنَّ النِّساءَ فِتْنَةٌ فَلا تَفْتِنّا بِهِنَّ فَأْذَنْ لَنا، فَأذِنَ لَهُما، فَلَمّا انْطَلَقْنا قالَ أحَدُهُما: إنْ هو إلّا شَحْمَةٌ لِأوَّلِ آكِلٍ، فَسارَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ولَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ في ذَلِكَ، فَلَمّا كانَ بَعْضُ الطَّرِيقِ نَزَلَ عَلَيْهِ وهو عَلى بَعْضِ المَناةِ ﴿لَوْ كانَ عَرَضًا قَرِيبًا وسَفَرًا قاصِدًا لاتَّبَعُوكَ﴾ ونَزَلَ عَلَيْهِ: ﴿عَفا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أذِنْتَ لَهم﴾ ( التَّوْبَةِ: ٤٣ ) ونَزَلَ عَلَيْهِ: ﴿إنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ ( التَّوْبَةِ: ٤٥ ) ونَزَلَ عَلَيْهِ: ﴿إنَّهم رِجْسٌ ومَأْواهم جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ( التَّوْبَةِ: ٩٥ )» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: ﴿لَوْ كانَ عَرَضًا قَرِيبًا﴾ قالَ: غَنِيمَةً قَرِيبَةً، ﴿ولَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ﴾ قالَ: المَسِيرُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّهم لَكاذِبُونَ﴾ قالَ: لَقَدْ كانُوا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ ولَكِنْ كانَ تَبْطِئَةً مِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ وزَهادَةً في الجِهادِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب