الباحث القرآني

في قَوْلِهِ: ﴿ما كانَ لِأهْلِ المَدِينَةِ﴾ إلَخْ زِيادَةُ تَأْكِيدٍ لِوُجُوبِ الغَزْوِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - وتَحْرِيمِ التَّخَلُّفِ عَنْهُ: أيْ ما صَحَّ وما اسْتَقامَ لِأهْلِ المَدِينَةِ ﴿ومَن حَوْلَهم مِنَ الأعْرابِ﴾ كَمُزَيْنَةَ وجُهَيْنَةَ وأشْجَعَ وأسْلَمَ وغِفارٍ ﴿أنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ﴾ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - في غَزْوَةِ تَبُوكَ، وإنَّما (p-٦٠٦)خَصَّهُمُ اللَّهُ سُبْحانَهُ لِأنَّهم قَدِ اسْتُنْفِرُوا فَلَمْ يَنْفِرُوا، بِخِلافِ غَيْرِهِمْ مِنَ العَرَبِ فَإنَّهم لَمْ يُسْتَنْفَرُوا مَعَ كَوْنِ هَؤُلاءِ لِقُرْبِهِمْ وجِوارِهِمْ أحَقُّ بِالنُّصْرَةِ والمُتابَعَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - ﴿ولا يَرْغَبُوا بِأنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ﴾ أيْ وما كانَ لَهم أنْ يَرْغَبُوا بِأنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ فَيَشِحُّونَ بِها ويَصُونُونَها، ولا يَشِحُّونَ بِنَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ ويَصُونُونَها كَما شَحُّوا بِأنْفُسِهِمْ وصانُوها، يُقالُ: رَغِبْتُ عَنْ كَذا: أيْ تَرَفَّعْتُ عَنْهُ، بَلْ واجِبٌ عَلَيْهِمْ أنْ يُكابِدُوا مَعَهُ المَشاقَّ، ويُجاهِدُوا بَيْنَ يَدَيْهِ أهْلَ الشِّقاقِ، ويَبْذُلُوا أنْفُسَهم دُونَ نَفْسِهِ، وفي هَذا الإخْبارِ مَعْنى الأمْرِ لَهم مَعَ ما يُفِيدُهُ إيرادُهُ عَلى هَذِهِ الصِّيغَةِ مِنَ التَّوْبِيخِ لَهم والتَّقْرِيعِ الشَّدِيدِ، والتَّهْيِيجِ لَهم، والإزْراءِ عَلَيْهِمْ. والإشارَةُ بِقَوْلِهِ ( ذَلِكَ ) إلى ما يُفِيدُهُ السِّياقُ مِن وُجُوبِ المُتابَعَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - أيْ: ذَلِكَ الوُجُوبُ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ أنَّهم مُثابُونَ عَلى أنْواعِ المَتاعِبِ وأصْنافِ الشَّدائِدِ. والظَّمَأُ: العَطَشُ، والنَّصَبُ: التَّعَبُ، والمَخْمَصَةُ: المَجاعَةُ الشَّدِيدَةُ الَّتِي يَظْهَرُ عِنْدَها ضُمُورُ البَطْنِ. وقَرَأ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ " ظَماءٌ " بِالمَدِّ. وقَرَأ غَيْرُهُ بِالقَصْرِ، وهُما لُغَتانِ مِثْلُ خَطَأٍ وخَطاءٍ. و" لا " في هَذِهِ المَواضِعِ زائِدَةٌ لِلتَّأْكِيدِ. ومَعْنى في سَبِيلِ اللَّهِ في طاعَةِ اللَّهِ. قَوْلُهُ: ﴿ولا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكُفّارَ﴾ أيْ لا يَدُوسُونَ مَكانًا مِن أمْكِنَةِ الكُفّارِ بِأقْدامِهِمْ أوْ بِحَوافِرِ خُيُولِهِمْ أوْ بِأخْفافِ رَواحِلِهِمْ، فَيَحْصُلُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الغَيْظُ لِلْكُفّارِ. والمَوْطِئُ: اسْمُ مَكانٍ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا ﴿ولا يَنالُونَ مِن عَدُوٍّ نَيْلًا﴾ أيْ يُصِيبُونَ مَن عَدُوِّهِمْ قَتْلًا أوْ أسْرًا أوْ هَزِيمَةً أوْ غَنِيمَةً، وأصْلُهُ مِن: نِلْتُ الشَّيْءَ أنالُ: أيْ أُصِيبُ. قالَ الكِسائِيُّ: هو مِن قَوْلِهِمْ أمْرٌ مَنِيلٌ مِنهُ، ولَيْسَ هو مِنَ التَّناوُلِ، إنَّما التَّناوُلُ مِن نُلْتُهُ بِالعَطِيَّةِ. قالَ غَيْرُهُ: نُلْتُ أنُولُ مِنَ العَطِيَّةِ، ونِلْتُهُ أنالُهُ: أدْرَكْتُهُ. والضَّمِيرُ في بِهِ يَعُودُ إلى كُلِّ واحِدٍ مِنَ الأُمُورِ المَذْكُورَةِ، والعَمَلُ الصّالِحُ: الحَسَنَةُ المَقْبُولَةُ: أيْ إلّا كَتَبَهُ اللَّهُ لَهم حَسَنَةً مَقْبُولَةً يُجازِيهِمْ بِها، وجُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنِينَ﴾ في حُكْمِ التَّعْلِيلِ لِما سَبَقَ مَعَ كَوْنِهِ يَشْمَلُ كُلَّ مُحْسِنٍ ويَصْدُقُ عَلى المَذْكُورِينَ هُنا صِدْقًا أوَّلِيًّا. قَوْلُهُ: ﴿ولا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً﴾ مَعْطُوفٌ عَلى ما قَبْلَهُ: أيْ ولا يَقَعُ مِنهُمُ الإنْفاقُ في الحَرْبِ وإنْ كانَ شَيْئًا صَغِيرًا يَسِيرًا ﴿ولا يَقْطَعُونَ وادِيًا﴾ وهو في الأصْلِ كُلُّ مُنْفَرَجٍ بَيْنَ جِبالٍ وآكامٍ يَكُونُ مَنفَذًا لِلسَّيْلِ، والعَرَبُ تَقُولُ: وادٍ وأوْدِيَةٌ عَلى غَيْرِ قِياسٍ، قالَ النَّحّاسُ: ولا يُعْرَفُ فِيما عَلِمْتُ فاعِلٌ وأفْعِلَةٌ. ﴿إلّا كُتِبَ لَهُمْ﴾ أيْ كُتِبَ لَهم ذَلِكَ الَّذِي عَمِلُوهُ مِنَ النَّفَقَةِ والسَّفَرِ في الجِهادِ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ بِهِ ﴿أحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أيْ أحْسَنَ جَزاءِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الأعْمالِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في قَوْلِهِ: ﴿إلّا كُتِبَ لَهُمْ﴾ ضَمِيرٌ يَرْجِعُ إلى ( عَمَلٌ صالِحٌ ) . وقَدْ ذَهَبَ جَماعَةٌ إلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَنسُوخَةٌ بِالآيَةِ المَذْكُورَةِ بَعْدَها وهي قَوْلُهُ: ﴿وما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافَّةً﴾ [التوبة: ١٢٢] فَإنَّها تَدُلُّ عَلى جَوازِ التَّخَلُّفِ مِنَ البَعْضِ مَعَ القِيامِ بِالجِهادِ مِنَ البَعْضِ، وسَيَأْتِي. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، مِن طَرِيقِ عُمَرَ بْنِ مالِكٍ عَنْ بَعْضِ الصَّحابَةِ قالَ: «لَمّا نَزَلَتْ ﴿ما كانَ لِأهْلِ المَدِينَةِ﴾ الآيَةَ، قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: والَّذِي بَعَثَنِي بِالحَقِّ لَوْلا ضُعَفاءُ النّاسِ ما كانَتْ سَرِيَّةٌ إلّا كُنْتُ فِيها» . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ في قَوْلِهِ: ﴿ما كانَ لِأهْلِ المَدِينَةِ﴾ قالَ: هَذا حِينَ كانَ الإسْلامُ قَلِيلًا لَمْ يَكُنْ لِأحَدٍ أنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -، فَلَمّا كَثُرَ الإسْلامُ وفَشا قالَ اللَّهُ: ﴿وما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافَّةً﴾ . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ الأوْزاعِيِّ، وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ المُبارَكِ، وإبْراهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الفَزارِيِّ، وعِيسى بْنِ يُونُسَ السَّبِيعِيِّ، أنَّهم قالُوا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يَنالُونَ مِن عَدُوٍّ نَيْلًا﴾ قالُوا: هَذِهِ الآيَةُ لِلْمُسْلِمِينَ إلى أنْ تَقُومَ السّاعَةُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب