الباحث القرآني

لَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ أنَّهُ بِالمِرْصادِ ذَكَرَ ما يَدُلُّ عَلى اخْتِلافِ أحْوالِ عِبادِهِ عِنْدَ إصابَةِ الخَيْرِ وعِنْدَ إصابَةِ الشَّرِّ، وأنَّ مَطْمَحَ أنْظارِهِمْ ومُعْظَمَ مَقاصِدِهِمْ هو الدُّنْيا فَقالَ: ﴿فَأمّا الإنْسانُ إذا ما ابْتَلاهُ رَبُّهُ﴾ أيِ امْتَحَنَهُ واخْتَبَرَهُ بِالنِّعَمِ ﴿فَأكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ﴾ أيْ أكْرَمَهُ بِالمالِ ووَسَّعَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أكْرَمَنِي﴾ فَرِحًا بِما نالَ وسُرُورًا بِما أُعْطِيَ، غَيْرَ شاكِرٍ لِلَّهِ عَلى ذَلِكَ ولا خاطِرٍ بِبالِهِ أنَّ ذَلِكَ امْتِحانٌ لَهُ مِن رَبِّهِ واخْتِبارٌ لِحالِهِ وكَشْفٌ لِما يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الصَّبْرِ والجَزَعِ والشُّكْرِ لِلنِّعْمَةِ وكُفْرانِها، و" ما " في قَوْلِهِ: " إذا ما " زائِدَةٌ، وقَوْلُهُ: ﴿فَأكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ﴾ تَفْسِيرٌ لِلِابْتِلاءِ ومَعْنى أكْرَمَنِ أيْ فَضَّلَنِي بِما أعْطانِي مِنَ المالِ وأسْبَغَهُ عَلَيَّ مِنَ النِّعَمِ لِمَزِيدِ اسْتِحْقاقِي لِذَلِكَ وكَوْنِي مَوْضِعًا لَهُ، والإنْسانُ مُبْتَدَأٌ، وخَبَرُهُ فَيَقُولُ رَبِّي أكْرَمَنِ ودَخَلَتِ الفاءُ فِيهِ لِتَضَمُّنِ " أمّا " مَعْنى الشَّرْطِ، والظَّرْفُ المُتَوَسِّطُ بَيْنَ المُبْتَدَأِ والخَبَرِ وإنْ تَقَدَّمَ لَفْظًا فَهو مُؤَخَّرٌ في المَعْنى: أيْ فَأمّا الإنْسانُ فَيَقُولُ رَبِّي أكْرَمَنِي وقْتَ ابْتِلائِهِ بِالإنْعامِ. قالَ الكَلْبِيُّ: الإنْسانُ هو الكافِرُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ. وقالَ مُقاتِلٌ: نَزَلَتْ في أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وقِيلَ نَزَلَتْ في عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وأبِي حُذَيْفَةَ بْنِ المُغِيرَةِ. ﴿وأمّا إذا ما ابْتَلاهُ﴾ أيِ اخْتَبَرَهُ وعامَلَهُ مُعامَلَةَ مَن يَخْتَبِرُهُ ﴿فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾ أيْ ضَيَّقَهُ ولَمْ يُوَسِّعْهُ لَهُ، ولا بَسَطَ لَهُ فِيهِ ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أهانَنِ﴾ أيْ أوْلانِي هَوانًا، وهَذِهِ صِفَةُ الكافِرِ الَّذِي لا يُؤْمِنُ بِالبَعْثِ، فَإنَّهُ لا كَرامَةَ عِنْدَهُ إلّا الدُّنْيا والتَّوْسِيعَ في مَتاعِها، ولا إهانَةَ عِنْدَهُ إلّا فَوْتَها وعَدَمَ وُصُولِهِ إلى ما يُرِيدُ مِن زِينَتِها، فَأمّا المُؤْمِنُ فالكَرامَةُ عِنْدَهُ أنْ يُكْرِمَهُ اللَّهُ بِطاعَتِهِ ويُوَفِّقَهُ لِعَمَلِ الآخِرَةِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ الإنْسانُ عَلى العُمُومِ لِعَدَمِ تَيَقُّنِهِ أنَّ ما صارَ إلَيْهِ مِنَ الخَيْرِ وما أُصِيبَ بِهِ مِنَ الشَّرِّ في الدُّنْيا لَيْسَ إلّا لِلِاخْتِبارِ والِامْتِحانِ، وأنَّ الدُّنْيا بِأسْرِها لا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَناحَ بَعُوضَةٍ، ولَوْ كانَتْ تَعْدِلُ جَناحَ بَعُوضَةٍ ما سَقى الكافِرَ مِنها شَرْبَةَ ماءٍ. قَرَأ نافِعٌ بِإثْباتِ الياءِ في أكْرَمَنِ وأهانَنِ وصْلًا وحَذَفَهُما وقْفًا، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ في رِوايَةِ البَزِّيِّ عَنْهُ وابْنُ مُحَيْصِنٍ، ويَعْقُوبُ بِإثْباتِهِما وصْلًا ووَقْفًا، وقَرَأ الباقُونَ بِحَذْفِهِما في الوَصْلِ (p-١٦٢١)والوَقْفِ اتِّباعًا لِرَسْمِ المُصْحَفِ ولِمُوافَقَةِ رُؤُوسِ الآيِ، والأصْلُ إثْباتُهُما لِأنَّها اسْمٌ، ومِنَ الحَذْفِ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎ومِن كاشِحٍ ظاهِرُ غَمْرِهِ إذا ما انْتَصَبْتُ لَهُ أنْكَرَنِ أيْ أنْكَرَنِي. وقَرَأ الجُمْهُورُ فَقَدَرَ بِالتَّخْفِيفِ، وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ بِالتَّشْدِيدِ، وهُما لُغَتانِ. وقَرَأ الحَرَمِيّانِ وأبُو عَمْرٍو رَبِّيَ بِفَتْحِ الياءِ في المَوْضِعَيْنِ وأسْكَنَها الباقُونَ. وقَوْلُهُ: كَلّا رَدْعٌ لِلْإنْسانِ القائِلِ في الحالَتَيْنِ ما قالَ وزَجْرٌ لَهُ، فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ قَدْ يُوَسِّعُ الرِّزْقَ ويَبْسُطُ النِّعَمَ لِلْإنْسانِ لا لِكَرامَتِهِ، ويُضَيِّقُهُ عَلَيْهِ لا لِإهانَتِهِ، بَلْ لِلِاخْتِبارِ والِامْتِحانِ كَما تَقَدَّمَ. قالَ الفَرّاءُ: " كَلّا " في هَذا المَوْضِعِ بِمَعْنى أنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أنْ يَكُونَ هَكَذا، ولَكِنْ يَحْمَدُ اللَّهَ عَلى الغِنى والفَقْرِ. ثُمَّ انْتَقَلَ سُبْحانَهُ مِن بَيانِ سُوءِ أقْوالِ الإنْسانِ إلى بَيانِ سُوءِ أفْعالِهِ فَقالَ: ﴿بَل لا تُكْرِمُونَ اليَتِيمَ﴾ والِالتِفاتُ إلى الخِطابِ لِقَصْدِ التَّوْبِيخِ والتَّقْرِيعِ عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ بِالفَوْقِيَّةِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ تَحاضُّونَ وتَأْكُلُونَ وتُحِبُّونَ بِالفَوْقِيَّةِ عَلى الخِطابِ فِيها. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، ويَعْقُوبُ بِالتَّحْتِيَّةِ فِيها، والجَمْعُ في هَذِهِ الأفْعالِ بِاعْتِبارِ مَعْنى الإنْسانِ؛ لِأنَّ المُرادَ بِهِ الجِنْسُ: أيْ بَلْ لَكم أفْعالٌ هي أقْبَحُ مِمّا ذُكِرَ، وهي أنَّكم تَتْرُكُونَ إكْرامَ اليَتِيمِ فَتَأْكُلُونَ مالَهُ وتَمْنَعُونَهُ مِن فَضْلِ أمْوالِكم. قالَ مُقاتِلٌ: نَزَلَتْ في قُدامَةَ بْنِ مَظْعُونٍ وكانَ يَتِيمًا في حِجْرِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ. ﴿ولا تَحاضُّونَ عَلى طَعامِ المِسْكِينِ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ " تَحُضُّونَ " مِن حَضَّهُ عَلى كَذا أيْ: أغْراهُ بِهِ، ومَفْعُولُهُ مَحْذُوفٌ: أيْ لا تَحُضُّونَ أنْفُسَكم، أوْ لا يَحُضُّ بَعْضُكم بَعْضًا عَلى ذَلِكَ ولا يَأْمُرُ بِهِ ولا يُرْشِدُ إلَيْهِ، وقَرَأ الكُوفِيُّونَ تَحاضُّونَ بِفَتْحِ التّاءِ والحاءِ بَعْدَها ألِفٌ، وأصْلُهُ تَتَحاضُّونَ، فَحَذَفَ إحْدى التّاءَيْنِ: أيْ لا يَحُضُّ بَعْضُكم بَعْضًا. وقَرَأ الكِسائِيُّ في رِوايَةٍ عَنْهُ والسُّلَمِيُّ " تَحاضُّونَ بِضَمِّ التّاءِ مِنَ الحَضِّ، وهو الحَثُّ، وقَوْلُهُ: ﴿عَلى طَعامِ المِسْكِينِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِـ " تَحُضُّونَ " وهو إمّا اسْمُ مَصْدَرٍ: أيْ عَلى إطْعامِ المِسْكِينِ، أوِ اسْمٌ لِلْمَطْعُومِ، ويَكُونُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ: أيْ عَلى بَذْلِ طَعامِ المِسْكِينِ، أوْ عَلى إعْطاءِ طَعامِ المِسْكِينِ. ﴿وتَأْكُلُونَ التُّراثَ﴾ أصْلُهُ الوُراثَ، فَأُبْدِلَتِ التّاءُ مِنَ الواوِ المَضْمُومَةِ، كَما في تُجاهَ ووِجاهَ، والمُرادُ بِهِ أمْوالُ اليَتامى الَّذِينَ يَرِثُونَهُ مِن قَراباتِهِمْ، وكَذَلِكَ أمْوالُ النِّساءِ، وذَلِكَ أنَّهم كانُوا لا يُوَرِّثُونَ النِّساءَ والصِّبْيانَ ويَأْكُلُونَ أمْوالَهم ﴿أكْلًا لَمًّا﴾ أيْ أكْلًا شَدِيدًا، وقِيلَ مَعْنى لَمًّا جَمْعًا، مِن قَوْلِهِمْ: لَمَمْتُ الطَّعامَ: إذا أكَلْتَهُ جَمِيعًا. قالَ الحَسَنُ: يَأْكُلُ نَصِيبَهُ ونَصِيبَ اليَتِيمِ، وكَذا قالَ أبُو عُبَيْدَةَ. وأصْلُ اللَّمِّ في كَلامِ العَرَبِ: الجَمْعُ، يُقالُ لَمَمْتُ الشَّيْءَ ألُمُّهُ لَمًّا: جَمَعْتُهُ، ومِنهُ قَوْلُهم: لَمَّ اللَّهُ شَعْثَهُ: أيْ جَمَعَ ما تَفَرَّقَ مِن أُمُورِهِ، ومِنهُ قَوْلُ النّابِغَةِ: ؎ولَسْتَ بِمُسْتَبِقٍ أخًا لا تَلُمَّهُ ∗∗∗ عَلى شَعَثٍ أيُّ الرِّجالِ المُهَذَّبُ قالَ اللَّيْثُ: اللَّمُّ الجَمْعُ الشَّدِيدُ، ومِنهُ حَجَرٌ مَلْمُومٌ، وكَتِيبَةٌ مَلْمُومَةٌ، والآكِلُ يَلُمُّ الثَّرِيدَ فَيَجْمَعُهُ ثُمَّ يَأْكُلُهُ. وقالَ مُجاهِدٌ: يَسِفُّهُ سَفًّا. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: هو إذا أكَلَ مالَهُ ألَمَّ بِمالِ غَيْرِهِ فَأكَلَهُ ولا يُفَكِّرُ فِيما أكَلَ مِن خَبِيثٍ وطَيِّبٍ. ﴿وتُحِبُّونَ المالَ حُبًّا جَمًّا﴾ أيْ حُبًّا كَثِيرًا، والجَمُّ الكَثِيرُ، يُقالُ جَمَّ الماءُ في الحَوْضِ: إذا كَثُرَ واجْتَمَعَ، والجَمَّةُ: المَكانُ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الماءُ. ثُمَّ كَرَّرَ سُبْحانَهُ الرَّدْعَ لَهم والزَّجْرَ فَقالَ: كَلّا أيْ ما هَكَذا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ عَمَلُكم. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ سُبْحانَهُ فَقالَ: ﴿إذا دُكِّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا﴾ وفِيهِ وعِيدٌ لَهم بَعْدَ الرَّدْعِ والزَّجْرِ، والدَّكُّ: الكَسْرُ والدَّقُّ، والمَعْنى هُنا: أنَّها زُلْزِلَتْ وحُرِّكَتْ تَحْرِيكًا بَعْدَ تَحْرِيكٍ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: دُكَّتْ جِبالُها حَتّى اسْتَوَتْ. قالَ الزَّجّاجُ: أيْ تَزَلْزَلَتْ فَدَكَّ بَعْضُها بَعْضًا. قالَ المُبَرِّدُ: أيْ بُسِطَتْ وذَهَبَ ارْتِفاعُها. قالَ والدَّكُّ: حَطُّ المُرْتَفِعِ بِالبَسْطِ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى الدَّكِّ في سُورَةِ الأعْرافِ، وفي سُورَةِ الأحْقافِ، والمَعْنى: أنَّها دُكَّتْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى، وانْتِصابُ دَكًّا الأوَّلُ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِلْفِعْلِ، ودَكًّا الثّانِي تَأْكِيدٌ لِلْأوَّلِ، كَذا قالَ ابْنُ عُصْفُورٍ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ النَّصْبُ عَلى الحالِ: أيْ حالَ كَوْنِها مَدْكُوكَةً مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، كَما يُقالُ: عَلَّمْتُهُ الحِسابَ بابًا بابًا، وعَلَّمْتُهُ الخَطَّ حَرْفًا حَرْفًا، والمَعْنى: أنَّهُ كَرَّرَ الدَّكَّ عَلَيْها حَتّى صارَتْ هَباءً مُنْبَثًّا. ﴿وجاءَ رَبُّكَ﴾ أيْ جاءَ أمْرُهُ وقَضاؤُهُ وظَهَرَتْ آياتُهُ، وقِيلَ المَعْنى: أنَّها زالَتِ الشُّبَهُ في ذَلِكَ اليَوْمِ وظَهَرَتِ المَعارِفُ وصارَتْ ضَرُورِيَّةً كَما يَزُولُ الشَّكُّ عِنْدَ مَجِيءِ الشَّيْءِ الَّذِي كانَ يُشَكُّ فِيهِ، وقِيلَ جاءَ قَهْرُ رَبِّكَ وسُلْطانُهُ وانْفِرادُهُ بِالأمْرِ والتَّدْبِيرِ مِن دُونِ أنْ يَجْعَلَ إلى أحَدٍ مِن عِبادِهِ شَيْئًا مِن ذَلِكَ ﴿والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ انْتِصابُ صَفًّا صَفًّا عَلى الحالِ: أيْ مُصْطَفِّينَ، أوْ ذَوِي صُفُوفٍ. قالَ عَطاءٌ: يُرِيدُ صُفُوفَ المَلائِكَةِ، وأهْلُ كُلِّ سَماءٍ صَفٌّ عَلى حِدَةٍ. قالَ الضَّحّاكُ: أهْلُ كُلِّ سَماءٍ إذا نَزَلُوا يَوْمَ القِيامَةِ كانُوا صَفًّا مُحِيطِينَ بِالأرْضِ ومَن فِيها، فَيَكُونُونَ سَبْعَةَ صُفُوفٍ. ﴿وجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾ يَوْمَئِذٍ مَنصُوبٌ بِجِيءَ، والقائِمُ مَقامَ الفاعِلِ بِجَهَنَّمَ وجَوَّزَ مَكِّيٌّ أنْ يَكُونَ يَوْمَئِذٍ هو القائِمَ مَقامَ الفاعِلِ، ولَيْسَ بِذاكَ. قالَ الواحِدِيُّ: قالَ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: جِيءَ بِها يَوْمَ القِيامَةِ مَزْمُومَةً بِسَبْعِينَ ألْفَ زِمامٍ مَعَ كُلِّ زِمامٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلِكٍ يَجُرُّونَها حَتّى تَنْصَبَّ عَنْ يَسارِ العَرْشِ، فَلا يَبْقى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إلّا جَثا لِرُكْبَتَيْهِ يَقُولُ يا رَبِّ نَفْسِي نَفْسِي. وسَيَأْتِي هَذا الَّذِي نَقَلَهُ عَنْ جَماعَةِ المُفَسِّرِينَ مَرْفُوعًا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إنْ شاءَ اللَّهُ ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ﴾ يَوْمَئِذٍ هَذا بَدَلٌ مِن " يَوْمَئِذٍ " الَّذِي قَبْلَهُ: أيْ يَوْمَ جِيءَ بِجَهَنَّمَ يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ. أيْ يَتَّعِظُ ويَذْكُرُ ما فَرَّطَ مِنهُ ويَنْدَمُ عَلى ما قَدَّمَهُ في الدُّنْيا مِنَ الكُفْرِ والمَعاصِي. وقِيلَ إنَّ قَوْلَهُ: " يَوْمَئِذٍ " الثّانِي بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ: إذا دُكَّتْ والعامِلُ فِيهِما هو قَوْلُهُ: يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ ﴿وأنّى لَهُ الذِّكْرى﴾ أيْ ومِن أيْنَ لَهُ التَّذَكُّرُ والِاتِّعاظُ، وقِيلَ هو عَلى حَذْفِ مُضافٍ: أيْ ومِن أيْنَ لَهُ مَنفَعَةُ الذِّكْرى. قالَ الزَّجّاجُ: يُظْهِرُ التَّوْبَةَ ومِن أيْنَ التَّوْبَةُ ؟ . ﴿يَقُولُ يالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي﴾ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ جَوابُ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ، كَأنَّهُ (p-١٦٢٢)قِيلَ: ماذا يَقُولُ الإنْسانُ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ بَدَلَ اشْتِمالٍ مِن قَوْلِهِ: يَتَذَكَّرُ، والمَعْنى: يَتَمَنّى أنَّهُ قَدَّمَ الخَيْرَ والعَمَلَ الصّالِحَ، واللّامُ في لِحَياتِي بِمَعْنى لِأجْلِ حَياتِي، والمُرادُ حَياةُ الآخِرَةِ، فَإنَّها الحَياةُ بِالحَقِيقَةِ، لِأنَّها دائِمَةٌ غَيْرُ مُنْقَطِعَةٍ. وقِيلَ إنَّ اللّامَ بِمَعْنى في، والمُرادُ حَياةُ الدُّنْيا: أيْ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ الأعْمالَ الصّالِحَةَ في وقْتِ حَياتِي في الدُّنْيا أنْتَفِعُ بِها هَذا اليَوْمَ، والأوَّلُ أوْلى: قالَ الحَسَنُ: عَلِمَ واللَّهِ أنَّهُ صادَفَ حَياةً طَوِيلَةً لا مَوْتَ فِيها. ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أحَدٌ﴾ أيْ يَوْمَ يَكُونُ زَمانُ ما ذُكِرَ مِنَ الأحْوالِ لا يُعَذِّبُ كَعَذابِ اللَّهِ أحَدٌ. ﴿ولا يُوثِقُ﴾ كَ ﴿وثاقَهُ أحَدٌ﴾ أوْ لا يَتَوَلّى عَذابَ اللَّهِ ووَثاقَهُ أحَدٌ سِواهُ إذِ الأمْرُ كُلُّهُ لَهُ، والضَّمِيرانِ عَلى التَّقْدِيرَيْنِ في عَذابِهِ ووَثاقِهِ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وهَذا عَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ يُعَذِّبُ ويُوثِقُ مَبْنِيَّيْنِ لِلْفاعِلِ. وقَرَأ الكِسائِيُّ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ فِيهِما، فَيَكُونُ الضَّمِيرانِ راجِعَيْنِ إلى الإنْسانِ: أيْ لا يُعَذَّبُ كَعَذابِ ذَلِكَ الإنْسانِ أحَدٌ ولا يُوثَقُ كَوَثاقِهِ أحَدٌ، والمُرادُ بِالإنْسانِ: الكافِرُ: أيْ لا يُعَذَّبُ مَن لَيْسَ بِكافِرٍ كَعَذابِ الكافِرِ، وقِيلَ إبْلِيسُ، وقِيلَ المُرادُ بِهِ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ. قالَ الفَرّاءُ: المَعْنى أنَّهُ لا يُعَذِّبُ كَعَذابِ هَذا الكافِرِ المُعَيَّنِ أحَدٌ، ولا يُوثِقُ بِالسَّلاسِلِ والأغْلالِ كَوَثاقِهِ أحَدٌ لِتَناهِيهِ في الكُفْرِ والعِنادِ. وقِيلَ المَعْنى: أنَّهُ لا يُعَذَّبُ مَكانَهُ أحَدٌ ولا يُوثَقُ مَكانَهُ أحَدٌ، فَلا تُؤْخَذُ مِنهُ فِدْيَةٌ، وهو كَقَوْلِهِ: ﴿ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ [الأنعام: ١٦٤] والعَذابُ بِمَعْنى التَّعْذِيبِ، والوَثاقُ بِمَعْنى التَّوْثِيقِ، واخْتارَ أبُو عُبَيْدٍ، وأبُو حاتِمٍ قِراءَةَ الكِسائِيِّ، قالَ: وتَكُونُ الهاءُ في المَوْضِعَيْنِ ضَمِيرَ الكافِرِ؛ لِأنَّهُ مَعْرُوفٌ أنَّهُ لا يُعَذِّبُ أحَدٌ كَعَذابِ اللَّهِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْكافِرِ عَلى قِراءَةِ الجَماعَةِ: أيْ لا يُعَذِّبُ أحَدٌ أحَدًا مِثْلَ تَعْذِيبِ هَذا الكافِرِ. ولَمّا فَرَغَ سُبْحانَهُ مِن حِكايَةِ أحْوالِ الأشْقِياءِ ذَكَرَ بَعْضَ أحْوالِ السُّعَداءِ فَقالَ: ﴿ياأيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ﴾ المُطْمَئِنَّةُ هي السّاكِنَةُ المُوقِنَةُ بِالإيمانِ وتَوْحِيدِ اللَّهِ، الواصِلَةُ إلى ثَلْجِ اليَقِينِ بِحَيْثُ لا يُخالِطُها شَكٌّ ولا يَعْتَرِيها رَيْبٌ. قالَ الحَسَنُ: هي المُؤْمِنَةُ المُوقِنَةُ. وقالَ مُجاهِدٌ: الرّاضِيَةُ بِقَضاءِ اللَّهِ الَّتِي عَلِمَتْ أنَّ ما أخْطَأها لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَها، وأنَّ ما أصابَها لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَها وقالَ مُقاتِلٌ هي الآمِنَةُ المُطَمْئِنَّةُ. وقالَ ابْنُ كَيْسانَ: المُطَمْئِنَّةُ بِذِكْرِ اللَّهِ، وقِيلَ المُخْلِصَةُ: قالَ ابْنُ زَيْدٍ: المُطَمْئِنَّةُ لِأنَّها بُشِّرَتْ بِالجَنَّةِ عِنْدَ المَوْتِ وعِنْدَ البَعْثِ. ﴿ارْجِعِي إلى رَبِّكِ﴾ أيِ ارْجِعِي إلى اللَّهِ راضِيَةً بِالثَّوابِ الَّذِي أعْطاكِ مَرْضِيَّةً عِنْدَهُ، وقِيلَ ارْجِعِي إلى مَوْعِدِهِ، وقِيلَ إلى أمْرِهِ. وقالَ عِكْرِمَةُ، وعَطاءٌ: مَعْنى ﴿ارْجِعِي إلى رَبِّكِ﴾ إلى جَسَدِكِ الَّذِي كُنْتِ فِيهِ، واخْتارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، ويَدُلُّ عَلى هَذا قِراءَةُ ابْنِ عَبّاسٍ " فادْخُلِي في عَبْدِي " بِالإفْرادِ، والأوَّلُ أوْلى. ﴿فادْخُلِي في عِبادِي﴾ أيْ في زُمْرَةِ عِبادِي الصّالِحِينَ وكُونِي مِن جُمْلَتِهِمْ وانْتَظِمِي في سِلْكِهِمْ. ﴿وادْخُلِي جَنَّتِي﴾ مَعَهم قِيلَ إنَّهُ يُقالُ لَها ارْجِعِي إلى رَبِّكِ عِنْدَ خُرُوجِها مِنَ الدُّنْيا، ويُقالُ لَها: ادْخُلِي في عِبادِي وادْخُلِي جَنَّتِي يَوْمَ القِيامَةِ، والمُرادُ بِالآيَةِ كُلُّ نَفْسٍ مُطَمْئِنَّةٍ عَلى العُمُومِ، ولا يُنافِي ذَلِكَ نُزُولَها في نَفْسٍ مُعَيَّنَةٍ، فالِاعْتِبارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. وقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿أكْلًا لَمًّا﴾ قالَ: سَفًّا، وفي قَوْلِهِ: ﴿حُبًّا جَمًّا﴾ قالَ: شَدِيدًا، وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ ﴿أكْلًا لَمًّا﴾ قالَ: شَدِيدًا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿إذا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا﴾ قالَ: تَحْرِيكُها. وأخْرَجَ مُسْلِمٌ، والتِّرْمِذِيُّ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يُؤْتى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَها سَبْعُونَ ألْفَ زِمامٍ، مَعَ كُلِّ زِمامٍ سَبْعُونَ ألْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَها» . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿وأنّى لَهُ الذِّكْرى﴾ يَقُولُ: وكَيْفَ لَهُ ؟ وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ﴾ الآيَةَ قالَ: لا يُعَذِّبُ بِعَذابِ اللَّهِ أحَدٌ ولا يُوثِقُ بِوَثاقِ اللَّهِ أحَدٌ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والضِّياءُ في المُخْتارَةِ عَنْهُ أيْضًا «فِي قَوْلِهِ: ﴿ياأيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ﴾ قالَ: المُؤْمِنَةُ ﴿ارْجِعِي إلى رَبِّكِ﴾ يَقُولُ: إلى جَسَدِكِ. قالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وأبُو بَكْرٍ جالِسٌ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ ما أحْسَنَ هَذا، فَقالَ: أما إنَّهُ سَيُقالُ لَكَ هَذا» . وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وأبُو نُعَيْمٍ في الحِلْيَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ مُرْسَلًا. وأخْرَجَ الحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ في نَوادِرِ الأُصُولِ نَحْوَهُ عَنْ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ياأيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ﴾ المُصَدِّقَةُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أيْضًا في الآيَةِ قالَ: تُرَدُّ الأرْواحُ يَوْمَ القِيامَةِ في الأجْسادِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً﴾ قالَ: بِما أُعْطِيَتْ مِنَ الثَّوابِ مَرْضِيَّةً عَنْها بِعَمَلِها ﴿فادْخُلِي في عِبادِي﴾ المُؤْمِنِينَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرانِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قالَ: ماتَ ابْنُ عَبّاسٍ بِالطّائِفِ، فَجاءَ طَيْرٌ لَمْ يُرَ عَلى خِلْقَتِهِ فَدَخَلَ نَعْشَهُ، ثُمَّ لَمْ يُرَ خارِجًا مِنهُ، فَلَمّا دُفِنَ تُلِيَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى شَفِيرِ القَبْرِ لا نَدْرِي مَن تَلاها ﴿ياأيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فادْخُلِي في عِبادِي وادْخُلِي جَنَّتِي﴾ . وأخْرَجَ أبُو نُعَيْمٍ في الدَّلائِلِ عَنْ عِكْرِمَةَ مِثْلَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب