الباحث القرآني
وأخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ والنَّحّاسُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: نَزَلَتْ والسَّماءِ ذاتِ البُرُوجِ بِمَكَّةَ.
وأخْرَجَ أحْمَدُ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنا زُرَيْقُ بْنُ أبِي سُلْمى، حَدَّثَنا أبُو المُهَزَّمِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كانَ يَقْرَأُ في العِشاءِ الآخِرَةِ بِالسَّماءِ ذاتِ البُرُوجِ، والسَّماءِ والطّارِقِ» .
وأخْرَجَ الطَّيالِسِيُّ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ في المُصَنَّفِ وأحْمَدُ والدّارِمِيُّ وأبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ، وحَسَّنَهُ والنَّسائِيُّ وابْنُ حِبّانَ والطَّبَرانِيُّ والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنْ جابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ كانَ يَقْرَأُ في الظُّهْرِ والعَصْرِ بِالسَّماءِ والطّارِقِ والسَّماءِ ذاتِ البُرُوجِ» .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَوْلُهُ: ﴿والسَّماءِ ذاتِ البُرُوجِ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في البُرُوجِ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿جَعَلَ في السَّماءِ بُرُوجًا﴾ [الفرقان: ٦١] قالَ الحَسَنُ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ والضَّحّاكُ: هي النُّجُومُ، والمَعْنى: والسَّماءِ ذاتِ النُّجُومِ.
وقالَ عِكْرِمَةُ ومُجاهِدٌ أيْضًا: هي قُصُورٌ في السَّماءِ.
وقالَ المِنهالُ بْنُ عَمْرٍو: ذاتِ الخَلْقِ الحَسَنِ.
وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ ويَحْيى بْنُ سَلامٍ وغَيْرُهُما: هي المَنازِلُ لِلْكَواكِبِ، وهي اثْنا عَشَرَ بُرْجًا لِاثْنَيْ عَشَرَ كَوْكَبًا، وهي الحَمَلُ، والثَّوْرُ والجَوْزاءُ، والسَّرَطانُ والأسَدُ، والسُّنْبُلَةُ، والمِيزانُ، والعَقْرَبُ، والقَوْسُ، والجَدْيُ، والدَّلْوُ، والحُوتُ.
والبُرُوجُ في كَلامِ العَرَبِ: القُصُورُ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿ولَوْ كُنْتُمْ في بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ [النساء: ٧٨] شُبِّهَتْ مَنازِلُ هَذِهِ النُّجُومِ بِالقُصُورِ لِكَوْنِها تَنْزِلُ فِيها، وقِيلَ هي أبْوابُ السَّماءِ، وقِيلَ هي مَنازِلُ القَمَرِ، وأصْلُ البُرْجِ الظُّهُورُ، (p-١٦٠٤)سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِظُهُورِها.
واليَوْمِ المَوْعُودِ أيِ المَوْعُودِ بِهِ، وهو يَوْمُ القِيامَةِ.
قالَ الواحِدِيُّ: في قَوْلِ جَمِيعِ المُفَسِّرِينَ وشاهِدٍ ومَشْهُودٍ المُرادُ بِالشّاهِدِ مَن يَشْهَدُ في ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الخَلائِقِ: أيْ يَحْضُرُ فِيهِ والمُرادُ بِالمَشْهُودِ ما يُشاهَدُ في ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ العَجائِبِ وذَهَبَ جَماعَةٌ مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ إلى أنَّ الشّاهِدَ يَوْمُ الجُمُعَةِ، وأنَّهُ يَشْهَدُ عَلى كُلِّ عامِلٍ بِما عَمِلَ فِيهِ، والمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ؛ لِأنَّهُ يَشْهَدُ النّاسُ فِيهِ مَوْسِمَ الحَجِّ، وتَحْضُرُهُ المَلائِكَةُ.
قالَ الواحِدِيُّ: وهَذا قَوْلُ الأكْثَرِ.
وحَكى القُشَيْرِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وابْنِ الزُّبَيْرِ أنَّ الشّاهِدَ يَوْمُ الأضْحى.
وقالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ: الشّاهِدُ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، والمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ.
وقالَ النَّخَعِيُّ: الشّاهِدُ يَوْمُ عَرَفَةَ، والمَشْهُودُ يَوْمُ النَّحْرِ، وقِيلَ الشّاهِدُ هو اللَّهُ سُبْحانَهُ.
وبِهِ قالَ الحَسَنُ وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، لِقَوْلِهِ: ﴿وكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [الفتح: ٢٨] وقَوْلِهِ: ﴿قُلْ أيُّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكم﴾ [الأنعام: ١٩] وقِيلَ الشّاهِدُ مُحَمَّدٌ ﷺ لِقَوْلِهِ: ﴿فَكَيْفَ إذا جِئْنا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وجِئْنا بِكَ عَلى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: ٤١] وقَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدًا ومُبَشِّرًا ونَذِيرًا﴾ [الأحزاب: ٤٥] وقَوْلِهِ: ﴿ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكم شَهِيدًا﴾ [البقرة: ١٤٣] وقِيلَ الشّاهِدُ جَمِيعُ الأنْبِياءِ لِقَوْلِهِ: ﴿فَكَيْفَ إذا جِئْنا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ﴾ وقِيلَ هو عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ لِقَوْلِهِ: ﴿وكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ما دُمْتُ فِيهِمْ﴾ [المائدة: ١١٧] والمَشْهُودُ عَلى هَذِهِ الأقْوالِ الثَّلاثَةِ إمّا أُمَّةُ مُحَمَّدٍ، أوْ أُمَمُ الأنْبِياءِ، أوْ أُمَّةُ عِيسى.
وقِيلَ الشّاهِدُ آدَمُ والمَشْهُودُ ذُرِّيَّتُهُ.
وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: الشّاهِدُ الإنْسانُ لِقَوْلِهِ: ﴿كَفى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ [الإسراء: ١٤] وقالَ مُقاتِلٌ: أعْضاؤُهُ لِقَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ ألْسِنَتُهم وأيْدِيهِمْ وأرْجُلُهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النور: ٢٤] وقالَ الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ: الشّاهِدُ هَذِهِ الأُمَّةُ، والمَشْهُودُ سائِرُ الأُمَمِ لِقَوْلِهِ: ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ﴾ [البقرة: ١٤٣] وقِيلَ الشّاهِدُ الحَفَظَةُ والمَشْهُودُ بَنُو آدَمَ، وقِيلَ الأيّامُ واللَّيالِي.
وقِيلَ الشّاهِدُ الخَلْقُ يَشْهَدُونَ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ بِالوَحْدانِيَّةِ، والمَشْهُودُ لَهُ بِالوَحْدانِيَّةِ هو اللَّهُ سُبْحانَهُ، وسَيَأْتِي بَيانُ ما ورَدَ في تَفْسِيرِ الشّاهِدِ والمَشْهُودِ، وبَيانُ ما هو الحَقُّ إنْ شاءَ اللَّهُ.
قُتِلَ أصْحابُ الأُخْدُودِ هَذا جَوابُ القَسَمِ، واللّامُ فِيهِ مُضْمَرَةٌ، وهو الظّاهِرُ، وبِهِ قالَ الفَرّاءُ وغَيْرُهُ، وقِيلَ تَقْدِيرُهُ: لَقَدْ قُتِلَ، فَحُذِفَتِ اللّامُ و" قَدْ " وعَلى هَذا تَكُونُ الجُمْلَةُ خَبَرِيَّةً، والظّاهِرُ أنَّها دُعائِيَّةٌ؛ لِأنَّ مَعْنى قُتِلَ لُعِنَ.
قالَ الواحِدِيُّ: في قَوْلِ الجَمِيعِ، والدُّعائِيَّةُ لا تَكُونُ جَوابًا لِلْقَسَمِ، فَقِيلَ الجَوابُ قَوْلُهُ: إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وقِيلَ قَوْلُهُ: إنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ وبِهِ قالَ المُبَرِّدُ: واعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِطُولِ الفَصْلِ وقِيلَ هو مُقَدَّرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قُتِلَ أصْحابُ الأُخْدُودِ كَأنَّهُ قالَ أُقْسِمُ بِهَذِهِ الأشْياءِ أنَّ كُفّارَ قُرَيْشٍ مَلْعُونُونَ كَما لُعِنَ أصْحابُ الأُخْدُودِ، وقِيلَ تَقْدِيرُ الجَوابِ: لَتُبْعَثُنَّ، واخْتارَهُ ابْنُ الأنْبارِيِّ.
وقالَ أبُو حاتِمٍ السِّجِسْتانِيُّ وابْنُ الأنْبارِيِّ أيْضًا: في الكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ: أيْ قُتِلَ أصْحابُ الأُخْدُودِ والسَّماءِ ذاتِ البُرُوجِ، واعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: واللَّهِ قامَ زَيْدٌ. والأُخْدُودُ: الشَّقُّ العَظِيمُ المُسْتَطِيلُ في الأرْضِ كالخَنْدَقِ، وجَمْعُهُ أخادِيدُ، ومِنهُ الخَدُّ لِمَجارِي الدُّمُوعِ، والمِخَدَّةُ لِأنَّ الخَدَّ يُوضَعُ عَلَيْها، ويُقالُ تَخَدَّدَ وجْهُ الرَّجُلِ: إذا صارَتْ فِيهِ أخادِيدُ مِن خُرّاجٍ، ومِنهُ قَوْلُ طَرَفَةَ:
؎ووَجْهٌ كَأنَّ الشَّمْسَ ألْقَتْ رِداءَها عَلَيْهِ نَقِيُّ اللَّوْنِ لَمْ يَتَخَدَّدِ
وسَيَأْتِي بَيانُ حَدِيثِ أصْحابِ الأُخْدُودِ إنْ شاءَ اللَّهُ.
قَرَأ الجُمْهُورُ النّارِ ذاتِ الوَقُودِ بِجَرِّ النّارِ عَلى أنَّها بَدَلُ اشْتِمالٍ مِنَ الأُخْدُودِ لِأنَّ الأُخْدُودَ مُشْتَمِلٌ عَلَيْها، وذاتِ الوَقُودِ وصْفٌ لَها بِأنَّها نارٌ عَظِيمَةٌ والوَقُودُ: الحَطَبُ الَّذِي تُوقَدُ بِهِ، وقِيلَ هو بَدَلُ كُلٍّ مِن كُلٍّ، لا بَدَلُ اشْتِمالٍ.
وقِيلَ إنَّ النّارَ مَخْفُوضَةٌ عَلى الجِوارِ، كَذا حَكى مَكِّيٌّ عَنِ الكُوفِيِّينَ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ بِفَتْحِ الواوِ مِنَ الوَقُودِ، وقَرَأ قَتادَةُ وأبُو رَجاءٍ ونَصْرُ بْنُ عاصِمٍ بِضَمِّها.
وقَرَأ أشْهَبُ العُقَيْلِيُّ وأبُو حَيْوَةَ وأبُو السِّماكِ العَدَوِيُّ وابْنُ السَّمَيْفَعِ وعِيسى بِرَفْعِ " النّارُ " عَلى أنَّها خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ: أيْ هي النّارُ، أوْ عَلى أنَّها فاعِلُ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ: أيْ أحْرَقَتْهُمُ النّارُ.
إذْ هم عَلَيْها قُعُودٌ العامِلُ في الظَّرْفِ قُتِلَ: أيْ لُعِنُوا حِينَ أحْدَقُوا بِالنّارِ قاعِدِينَ عَلى ما يَدْنُو مِنها، ويَقْرَبُ إلَيْها.
قالَ مُقاتِلٌ: يَعْنِي عِنْدَ النّارِ قُعُودٌ يَعْرِضُونَهم عَلى الكُفْرِ.
وقالَ مُجاهِدٌ: كانُوا قُعُودًا عَلى الكَراسِيِّ عِنْدَ الأُخْدُودِ.
وهم عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ أيِ الَّذِينَ خَدُّوا الأُخْدُودَ، وهُمُ المَلِكُ وأصْحابُهُ، عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ مِن عَرْضِهِمْ عَلى النّارِ لِيَرْجِعُوا إلى دِينِهِمْ شُهُودٌ: أيْ حُضُورٌ، أوْ يَشْهَدُ بَعْضُهم لِبَعْضٍ عِنْدِ المَلِكِ بِأنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ فِيما أُمِرَ بِهِ.
وقِيلَ يَشْهَدُونَ بِما فَعَلُوا يَوْمَ القِيامَةِ، ثُمَّ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ ألْسِنَتُهم وأيْدِيهِمْ وأرْجُلُهم.
وقِيلَ عَلى بِمَعْنى مَعَ، والتَّقْدِيرُ: وهم مَعَ ما يَفْعَلُونَ بِالمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ.
قالَ الزَّجّاجُ: أعْلَمَ اللَّهُ قِصَّةَ قَوْمٍ بَلَغَتْ بَصِيرَتُهم وحَقِيقَةُ إيمانِهِمْ إلى أنْ صَبَرُوا عَلى أنْ يُحْرَقُوا بِالنّارِ في اللَّهِ.
وما نَقَمُوا مِنهم أيْ ما أنْكَرُوا عَلَيْهِمْ ولا عابُوا مِنهم إلّا أنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ: أيْ إلّا أنْ صَدَّقُوا بِاللَّهِ الغالِبِ المَحْمُولِ في كُلِّ حالٍ.
قالَ الزَّجّاجُ: ما أنْكَرُوا عَلَيْهِمْ ذَنْبًا إلّا إيمانَهم، وهَذا كَقَوْلِهِ: ﴿هَلْ تَنْقِمُونَ مِنّا إلّا أنْ آمَنّا بِاللَّهِ﴾ [المائدة: ٥٩] وهَذا مِن تَأْكِيدِ المَدْحِ بِما يُشْبِهُ الذَّمَّ كَما في قَوْلِهِ:
؎لا عَيْبَ فِيهِمْ سِوى أنَّ النَّزِيلَ بِهِمْ ∗∗∗ يَسْلُو عَنِ الأهْلِ والأوْطانِ والحَشَمِ
وقالَ الآخَرُ:
؎ولا عَيْبَ فِيها غَيْرَ شِكْلَةِ عَيْنِها ∗∗∗ كَذاكَ عِتاقُ الطَّيْرِ شُكْلًا عُيُونُها
قَرَأ الجُمْهُورُ نَقَمُوا بِفَتْحِ النُّونِ، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ بِكَسْرِها، والفَصِيحُ الفَتْحُ.
ثُمَّ وصَفَ سُبْحانَهُ نَفْسَهُ بِما يَدُلُّ عَلى العِظَمِ والفَخامَةِ فَقالَ: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ ومَن كانَ هَذا شَأْنَهُ، فَهو حَقِيقٌ بِأنْ يُؤْمَنَ بِهِ ويُوَحَّدَ ﴿واللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ مِن فِعْلِهِمْ بِالمُؤْمِنِينَ (p-١٦٠٥)لا يَخْفى عَلَيْهِ مِنهُ خافِيَةٌ، وفي هَذا وعِيدٌ شَدِيدٌ لِأصْحابِ الأُخْدُودِ، ووَعْدُ خَيْرٍ لِمَن عَذَّبُوهُ عَلى دِينِهِ مِن أُولَئِكَ المُؤْمِنِينَ.
ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ ما أعَدَّ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ فَعَلُوا بِالمُؤْمِنِينَ ما فَعَلُوا مِنَ التَّحْرِيقِ فَقالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهم عَذابُ جَهَنَّمَ ولَهم عَذابُ الحَرِيقِ﴾: أيْ حَرَقُوهم بِالنّارِ، والعَرَبُ تَقُولُ: فَتَنْتُ الشَّيْءَ: أيْ أحْرَقْتُهُ، وفَتَنْتُ الدِّرْهَمَ والدِّينارَ: إذا أدْخَلْتَهُ النّارَ لِتَنْظُرَ جَوْدَتَهُ.
ويُقالُ دِينارٌ مَفْتُونٌ، ويُسَمّى الصّائِغُ الفَتّانَ.
ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ هم عَلى النّارِ يُفْتَنُونَ﴾ [الذاريات: ١٣] أيْ يُحْرَقُونَ، وقِيلَ مَعْنى فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ: مَحَنُوهم في دِينِهِمْ لِيَرْجِعُوا عَنْهُ، ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا مِن قَبِيحِ صُنْعِهِمْ ويَرْجِعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ وفِتْنَتِهِمْ، فَلَهم عَذابُ جَهَنَّمَ: أيْ لَهم في الآخِرَةِ عَذابُ جَهَنَّمَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ رَفْعٍ عَلى أنَّها خَبَرُ إنَّ، أوِ الخَبَرُ لَهم، وعَذابُ جَهَنَّمَ مُرْتَفِعٌ بِهِ عَلى الفاعِلِيَّةِ، والفاءُ لِتَضَمُّنِ المُبْتَدَأِ مَعْنى الشَّرْطِ، ولا يَضُرُّ نَسْخُهُ بِـ " أنَّ " خِلافًا لِلْأخْفَشِ، ولَهم عَذابُ الحَرِيقِ: أيْ ولَهم عَذابٌ آخَرُ زائِدٌ عَلى عَذابِ كُفْرِهِمْ، وهو عَذابُ الحَرِيقِ الَّذِي وقَعَ مِنهم لِلْمُؤْمِنِينَ، وقِيلَ إنَّ الحَرِيقَ اسْمٌ مِن أسْماءِ النّارِ كالسَّعِيرِ، وقِيلَ إنَّهم يُعَذَّبُونَ في جَهَنَّمَ بِالزَّمْهَرِيرِ ثُمَّ يُعَذَّبُونَ بِعَذابِ الحَرِيقِ، فالأوَّلُ عَذابٌ بِبَرْدِها، والثّانِي عَذابٌ بِحَرِّها.
وقالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ: إنَّ عَذابَ الحَرِيقِ أُصِيبُوا بِهِ في الدُّنْيا، وذَلِكَ أنَّ النّارَ ارْتَفَعَتْ مِنَ الأُخْدُودِ إلى المَلِكِ وأصْحابِهِ فَأحْرَقَتْهم، وبِهِ قالَ الكَلْبِيُّ.
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ ما أعَدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أُحْرِقُوا بِالنّارِ فَقالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ وظاهِرُ الآيَةِ العُمُومُ، فَيَدْخُلُ في ذَلِكَ المُحْرَقُونَ في الأُخْدُودِ بِسَبَبِ إيمانِهِمْ دُخُولًا أوَّلِيًّا، والمَعْنى: أنَّ الجامِعِينَ بَيْنَ الإيمانِ وعَمَلِ الصّالِحاتِ ﴿لَهم جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾: أيْ لَهم بِسَبَبِ الإيمانِ والعَمَلِ الصّالِحِ جَنّاتٌ مُتَّصِفَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ.
وقَدْ تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةُ جَرْيِ الأنْهارِ مِن تَحْتِ الجَنّاتِ في غَيْرِ مَوْضِعٍ، وأوْضَحْنا أنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالجَنّاتِ الأشْجارُ فَجَرْيُ الأنْهارِ مِن تَحْتِها واضِحٌ، وإنْ أُرِيدَ بِها الأرْضُ المُشْتَمِلَةُ عَلَيْها فالتَّحْتِيَّةُ بِاعْتِبارِ جُزْئِها الظّاهِرِ وهو الشَّجَرُ لِأنَّها ساتِرَةٌ لِساحَتِها، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ إلى ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِمّا أعَدَّهُ اللَّهُ لَهم: أيْ ذَلِكَ المَذْكُورُ الفَوْزُ الكَبِيرُ الَّذِي لا يَعْدِلُهُ فَوْزٌ ولا يُقارِبُهُ ولا يُدانِيهِ، والفَوْزُ الظَّفَرُ بِالمَطْلُوبِ.
وجُمْلَةُ ﴿إنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ لِخِطابِ النَّبِيِّ ﷺ مَبْنِيَّةٌ لِما عِنْدَ اللَّهِ سُبْحانَهُ مِنَ الجَزاءِ لِمَن عَصاهُ، والمَغْفِرَةِ لِمَن أطاعَهُ: أيْ أخْذُهُ لِلْجَبابِرَةِ والظَّلَمَةِ شَدِيدٌ، والبَطْشُ: الأخْذُ بِعُنْفٍ، ووَصْفُهُ بِالشِّدَّةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ قَدْ تَضاعَفَ وتَفاقَمَ، ومِثْلُ هَذا قَوْلُهُ: ﴿إنَّ أخْذَهُ ألِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: ١٠٢] .
﴿إنَّهُ هو يُبْدِئُ ويُعِيدُ﴾ أيْ يَخْلُقُ أوَّلًا في الدُّنْيا ويُعِيدُهم أحْياءً بَعْدَ المَوْتِ.
كَذا قالَ الجُمْهُورُ، وقِيلَ يُبْدِئُ لِلْكُفّارِ عَذابَ الحَرِيقِ في الدُّنْيا ثُمَّ يُعِيدُهُ لَهم في الآخِرَةِ، واخْتارَ هَذا ابْنُ جَرِيرٍ، والأوَّلُ أوْلى.
﴿وهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ﴾ أيْ بالِغُ المَغْفِرَةِ لِذُنُوبِ عِبادِهِ المُؤْمِنِينَ لا يَفْضَحُهم بِها، بالِغُ المَحَبَّةِ لِلْمُطِيعِينَ مِن أوْلِيائِهِ.
قالَ مُجاهِدٌ: الوادُّ لِأوْلِيائِهِ، فَهو فَعُولٌ بِمَعْنى فاعِلٍ.
وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنى الوَدُودِ الرَّحِيمُ.
وحَكى المُبَرِّدُ عَنْ إسْماعِيلَ القاضِي أنَّ الوَدُودَ هو الَّذِي لا ولَدَ لَهُ، وأنْشَدَ:
؎وأرْكَبُ في الرَّوْعِ عُرْيانَةً ∗∗∗ ذَلُولَ الجَناحِ لَقاحًا ودُودا
أيْ لا ولَدَ لَها تَحِنُّ إلَيْهِ.
وقِيلَ الوَدُودُ بِمَعْنى المَوْدُودِ: أيْ يَوَدُّهُ عِبادُهُ الصّالِحُونَ ويُحِبُّونَهُ، كَذا قالَ الأزْهَرِيُّ: قالَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ فَعُولٌ بِمَعْنى فاعِلٍ: أيْ يَكُونُ مُحِبًّا لَهم.
قالَ: وكِلْتا الصِّفَتَيْنِ مَدْحٌ؛ لِأنَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ إنْ أحَبَّ عِبادَهُ المُطِيعِينَ فَهو فَضْلٌ مِنهُ، وإنْ أحَبَّهُ عِبادُهُ العارِفُونَ فَلِما تَقَرَّرَ عِنْدَهم مِن كَرِيمِ إحْسانِهِ.
قَرَأ الجُمْهُورُ ذُو العَرْشِ المَجِيدُ بِرَفْعِ المُجِيدِ عَلى أنَّهُ نَعْتٌ لِ " ذُو " واخْتارَ هَذِهِ القِراءَةَ أبُو عُبَيْدٍ وأبُو حاتِمٍ قالا: لِأنَّ المَجْدَ هو النِّهايَةُ في الكَرَمِ والفَضْلِ، واللَّهُ سُبْحانَهُ هو المَنعُوتُ بِذَلِكَ.
وقَرَأ الكُوفِيُّونَ إلّا عاصِمًا بِالجَرِّ عَلى أنَّهُ نَعْتٌ لِلْعَرْشِ.
وقَدْ وصَفَ سُبْحانَهُ عَرْشَهُ بِالكَرَمِ كَما في آخِرِ سُورَةِ المُؤْمِنُونَ.
وقِيلَ هو نَعْتٌ لِرَبِّكَ، ولا يَضُرُّ الفَصْلُ بَيْنَهُما لِأنَّها صِفاتٌ لِلَّهِ سُبْحانَهُ.
وقالَ مَكِّيٌّ: هو خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، والأوَّلُ أوْلى.
ومَعْنى ذُو العَرْشِ: ذُو المُلْكِ والسُّلْطانِ كَما يُقالُ: فُلانٌ عَلى سَرِيرِ مُلْكِهِ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎رَأوْا عَرْشِي تَثَلَّمَ جانِباهُ ∗∗∗ فَلَمّا أنْ تَثَلَّمَ أفْرَدُونِي
وقَوْلُ الآخَرِ:
؎إنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثُلِلَتْ عُرُوشُهم ∗∗∗ بِعُتَيْبَةَ بْنِ الحارِثِ بْنِ شِهابٍ
وقِيلَ المُرادُ خالِقُ العَرْشِ.
﴿فَعّالٌ لِما يُرِيدُ﴾ أيْ مِنَ الإبْداءِ والإعادَةِ.
قالَ عَطاءٌ: لا يَعْجِزُ عَنْ شَيْءٍ يُرِيدُهُ ولا يَمْتَنِعُ مِنهُ شَيْءٌ طَلَبَهُ، وارْتِفاعُ فَعّالٍ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ.
قالَ الفَرّاءُ: هو رَفْعٌ عَلى التَّكْرِيرِ والِاسْتِئْنافِ؛ لِأنَّهُ نَكِرَةٌ مَحْضَةٌ.
قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: رَفْعُ فَعّالٍ وهو نَكِرَةٌ مَحْضَةٌ عَلى وجْهِ الِاتِّباعِ لِإعْرابِ الغَفُورِ الوَدُودِ، وإنَّما قالَ فَعّالٌ لِأنَّ ما يُرِيدُ ويَفْعَلُ في غايَةِ الكَثْرَةِ.
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ خَبَرَ الجُمُوعِ الكافِرَةِ فَقالَ: ﴿هَلْ أتاكَ حَدِيثُ الجُنُودِ﴾ والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِما تَقَدَّمَ مِن شِدَّةِ بَطْشِهِ سُبْحانَهُ وكَوْنِهِ فَعّالًا لِما يُرِيدُهُ، وفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أيْ هَلْ أتاكَ يا مُحَمَّدُ خَبَرُ الجُمُوعِ الكافِرَةِ المُكَذِّبَةِ لِأنْبِيائِهِمُ المُتَجَنِّدَةِ عَلَيْها.
ثُمَّ بَيَّنَهم فَقالَ: فِرْعَوْنَ وثَمُودَ وهو بَدَلٌ مِنَ الجُنُودِ.
والمُرادُ بِفِرْعَوْنَ هو وقَوْمُهُ، والمُرادُ بِثَمُودَ القَوْمُ المَعْرُوفُونَ، والمُرادُ بِحَدِيثِهِمْ ما وقَعَ مِنهم مِنَ الكُفْرِ والعِنادِ وما وقَعَ عَلَيْهِمْ مِنَ العَذابِ، وقِصَّتُهم مَشْهُورَةٌ قَدْ تَكَرَّرَ في الكِتابِ العَزِيزِ ذِكْرُها في غَيْرِ مَوْضِعٍ، واقْتَصَرَ عَلى الطّائِفَتَيْنِ لِاشْتِهارِ أمْرِهِما عِنْدَ أهْلِ الكِتابِ وعِنْدَ مُشْرِكِي العَرَبِ ودَلَّ بِهِما عَلى أمْثالِهِما.
ثُمَّ أضْرَبَ عَنْ مُماثَلَةِ هَؤُلاءِ الكُفّارِ المَوْجُودِينَ في عَصْرِهِ ﷺ لِمَن تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وبَيَّنَ أنَّهم أشَدُّ مِنهم في الكُفْرِ والتَّكْذِيبِ فَقالَ: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا في تَكْذِيبٍ﴾ أيْ بَلْ هَؤُلاءِ المُشْرِكُونَ مِنَ العَرَبِ في تَكْذِيبٍ (p-١٦٠٦)شَدِيدٍ لَكَ، ولِما جِئْتَ بِهِ، ولَمْ يَعْتَبِرُوا بِمَن كانَ قَبْلَهم مِنَ الكُفّارِ.
﴿واللَّهُ مِن ورائِهِمْ مُحِيطٌ﴾ أيْ يَقْدِرُ عَلى أنْ يُنْزِلَ بِهِمْ ما أنْزَلَ بِأُولَئِكَ، والإحاطَةُ بِالشَّيْءِ: الحَصْرُ لَهُ مِن جَمِيعِ جَوانِبِهِ، فَهو تَمْثِيلٌ لِعَدَمِ نَجاتِهِمْ بِعَدَمِ فَوْتِ المُحاطِ بِهِ عَلى المُحِيطِ.
ثُمَّ رَدَّ سُبْحانَهُ تَكْذِيبَهم بِالقُرْآنِ فَقالَ: ﴿بَلْ هو قُرْآنٌ مَجِيدٌ﴾ أيْ مُتَناهٍ في الشَّرَفِ والكَرَمِ والبَرَكَةِ لِكَوْنِهِ بَيانًا لِما شَرَعَهُ اللَّهُ لِعِبادِهِ مِن أحْكامِ الدِّينِ والدُّنْيا، ولَيْسَ هو كَما يَقُولُونَ إنَّهُ شِعْرٌ وكَهانَةٌ وسِحْرٌ.
﴿فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ أيْ مَكْتُوبٌ في لَوْحٍ، وهو أُمُّ الكِتابِ مَحْفُوظٌ عِنْدَ اللَّهِ مِن وُصُولِ الشَّياطِينِ إلَيْهِ.
قَرَأ الجُمْهُورُ مَحْفُوظٍ بِالجَرِّ عَلى أنَّهُ نَعْتٌ لِلَوْحِ وقَرَأ نافِعٌ بِرَفْعِهِ عَلى أنَّهُ نَعْتٌ لِلْقُرْآنِ: أيْ بَلْ هو قُرْآنٌ مَجِيدٌ مَحْفُوظٌ في لَوْحٍ.
واتَّفَقَ القُرّاءُ عَلى فَتْحِ اللّامِ مِن لَوْحٍ إلّا يَحْيى بْنَ يَعْمَرَ وابْنَ السَّمَيْفَعِ فَإنَّهُما قَرَآ بِضَمِّها.
قالَ مُقاتِلٌ: اللَّوْحُ المَحْفُوظُ عَنْ يَمِينِ العَرْشِ.
قِيلَ والمُرادُ بِاللُّوحِ بِضَمِّ اللّامِ: الهَواءُ الَّذِي فَوْقَ السَّماءِ السّابِعَةِ.
قالَ أبُو الفَضْلِ: اللُّوحُ بِضَمِّ اللّامِ: الهَواءُ، وكَذا قالَ ابْنُ خالَوَيْهِ.
قالَ في الصِّحاحِ: اللُّوحُ بِالضَّمِّ: الهَواءُ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ.
وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: البُرُوجُ قُصُورٌ في السَّماءِ.
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُئِلَ عَنِ السَّماءِ ذاتِ البُرُوجِ فَقالَ: الكَواكِبُ، وسُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿الَّذِي جَعَلَ في السَّماءِ بُرُوجًا﴾ [الفرقان: ٦١] قالَ: الكَواكِبُ، وعَنْ قَوْلِهِ: ﴿فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ﴾ [النساء: ٧٨] قالَ: القُصُورُ» .
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿واليَوْمِ المَوْعُودِ وشاهِدٍ ومَشْهُودٍ﴾ قالَ: اليَوْمُ المَوْعُودُ يَوْمُ القِيامَةِ، والشّاهِدُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، والمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وهو الحَجُّ الأكْبَرُ، فَيَوْمُ الجُمُعَةِ جَعَلَهُ اللَّهُ عِيدًا لِمُحَمَّدٍ وأُمَّتِهِ وفَضَّلَهُ بِها عَلى الخَلْقِ أجْمَعِينَ وهو سَيِّدُ الأيّامِ عِنْدَ اللَّهِ، وأحَبُّ الأعْمالِ فِيهِ إلى اللَّهِ، وفِيهِ ساعَةٌ لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ يُصَلِّي يَسْألُ اللَّهَ فِيها خَيْرًا إلّا أعْطاهُ إيّاهُ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والتِّرْمِذِيُّ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اليَوْمُ المَوْعُودُ يَوْمُ القِيامَةِ، واليَوْمُ المَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، والشّاهِدُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، وما طَلَعَتِ الشَّمْسُ ولا غَرَبَتْ عَلى يَوْمٍ أفْضَلَ مِنهُ، فِيهِ ساعَةٌ لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يَدْعُو اللَّهَ بِخَيْرٍ إلّا اسْتَجابَ اللَّهُ لَهُ، ولا يَسْتَعِيذُ مِن شَيْءٍ إلّا أعاذَهُ مِنهُ» .
وأخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ «وشاهِدٍ ومَشْهُودٍ قالَ: الشّاهِدُ يَوْمُ عَرَفَةَ ويَوْمُ الجُمُعَةِ، والمَشْهُودُ هو المَوْعُودُ يَوْمُ القِيامَةِ» .
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ قالَ: اليَوْمُ المَوْعُودُ يَوْمُ القِيامَةِ، والمَشْهُودُ يَوْمُ النَّحْرِ، والشّاهِدُ يَوْمُ الجُمُعَةِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ والطَّبَرانِيُّ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن طَرِيقِ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ أبِي مالِكٍ الأشْعَرِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اليَوْمُ المَوْعُودُ يَوْمُ القِيامَةِ، والشّاهِدُ يَوْمُ الجُمُعَةِ والمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ» .
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وابْنُ عَساكِرَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في الآيَةِ: «الشّاهِدُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، والمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ» .
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وأبِي هُرَيْرَةَ مِثْلَهُ مَوْقُوفًا.
وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ سَيِّدَ الأيّامِ يَوْمُ الجُمُعَةِ وهو الشّاهِدُ، والمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ» وهَذا مُرْسَلٌ مِنَ مَراسِيلِ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ.
وأخْرَجَ ابْنُ ماجَهْ والطَّبَرانِيُّ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أكْثِرُوا مِنَ الصَّلاةِ عَلَيَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَإنَّهُ يَوْمٌ مَشْهُودٌ تَشْهَدُهُ المَلائِكَةُ» .
وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ والفِرْيابِيُّ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ في الآيَةِ قالَ: الشّاهِدُ يَوْمُ الجُمُعَةِ والمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ أنَّ رَجُلًا سَألَهُ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿وشاهِدٍ ومَشْهُودٍ﴾ قالَ: هَلْ سَألْتَ أحَدًا قَبَلِي ؟ قالَ: نَعَمْ سَألْتُ ابْنَ عُمَرَ وابْنَ الزُّبَيْرِ فَقالا: يَوْمُ الذَّبْحِ ويَوْمُ الجُمُعَةِ. قالَ: لا ولَكِنَّ الشّاهِدَ مُحَمَّدٌ ﷺ، ثُمَّ قَرَأ ﴿وجِئْنا بِكَ عَلى هَؤُلاءِ شَهِيدًا﴾ [النساء: ٤١] والمَشْهُودُ يَوْمُ القِيامَةِ، ثُمَّ قَرَأ ﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾ [هود: ١٠٣] .
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ والصَّغِيرِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ في الآيَةِ قالَ: الشّاهِدُ جَدِّي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، والمَشْهُودُ يَوْمُ القِيامَةِ، ثُمَّ تَلا ﴿إنّا أرْسَلْناكَ شاهِدًا﴾ [الأحزاب: ٤٥] ﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾ .
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والنَّسائِيُّ وابْنُ أبِي الدُّنْيا والبَزّارُ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ وابْنُ عَساكِرَ مِن طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: اليَوْمُ المَوْعُودُ يَوْمُ القِيامَةِ والشّاهِدُ مُحَمَّدٌ ﷺ، والمَشْهُودُ يَوْمُ القِيامَةِ، ثُمَّ تَلا ﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النّاسُ وذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾ [هود: ١٠٣] وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ قالَ: الشّاهِدُ اللَّهُ، والمَشْهُودُ يَوْمُ القِيامَةِ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا قالَ: الشّاهِدُ اللَّهُ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا قالَ: الشّاهِدُ اللَّهُ، والمَشْهُودُ يَوْمُ القِيامَةِ.
قُلْتُ: وهَذِهِ التَّفاسِيرُ عَنِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم قَدِ اخْتَلَفَتْ كَما تَرى، وكَذَلِكَ اخْتَلَفَتْ تَفاسِيرُ التّابِعِينَ بَعْدَهم واسْتَدَلَّ مَنِ اسْتَدَلَّ مِنهم بِآياتِ ذِكْرِ اللَّهِ فِيها أنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ شاهِدٌ أوْ مَشْهُودٌ، فَجَعَلَهُ دَلِيلًا عَلى أنَّهُ المُرادُ بِالشّاهِدِ والمَشْهُودِ في هَذِهِ الآيَةِ المُطْلَقَةِ، ولَيْسَ ذَلِكَ بِدَلِيلٍ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلى أنَّ الشّاهِدَ والمَشْهُودَ المَذْكُورَيْنِ في هَذا المَقامِ هو ذَلِكَ الشّاهِدُ والمَشْهُودُ الَّذِي ذُكِرَ في آيَةٍ أُخْرى، وإلّا لَزِمَ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ هُنا وشاهِدٍ ومَشْهُودٍ هو جَمِيعَ ما أُطْلِقَ عَلَيْهِ في الكِتابِ العَزِيزِ أوِ السُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ أنَّهُ يُشْهَدُ أوْ أنَّهُ مَشْهُودٌ، ولَيْسَ بَعْضُ ما اسْتَدَلُّوا بِهِ مَعَ اخْتِلافِهِ بِأوْلى مِن بَعْضٍ، ولَمْ يَقُلْ قائِلٌ بِذَلِكَ.
فَإنْ قُلْتَ: هَلْ في المَرْفُوعِ الَّذِي ذَكَرْتَهُ مِن حَدِيثَيْ أبِي هُرَيْرَةَ، وحَدِيثِ أبِي مالِكٍ، وحَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ومُرْسَلِ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ ما يُعَيِّنُ هَذا اليَوْمَ المَوْعُودَ، والشّاهِدَ والمَشْهُودَ ؟ قُلْتُ: أمّا (p-١٦٠٧)اليَوْمُ المَوْعُودُ فَلَمْ تَخْتَلِفْ هَذِهِ الرِّواياتُ الَّتِي ذُكِرَ فِيها، بَلِ اتَّفَقَتْ عَلى أنَّهُ يَوْمُ القِيامَةِ، وأمّا الشّاهِدُ فَفي حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ الأوَّلِ أنَّهُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، وفي حَدِيثِهِ الثّانِي أنَّهُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، وفي مُرْسَلِ سَعِيدٍ أنَّهُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، وفي حَدِيثِهِ الثّانِي أنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ ويَوْمُ الجُمُعَةِ، وفي حَدِيثِ أبِي مالِكٍ أنَّهُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، وفي حَدِيثِ جُبَيْرٍ أنَّهُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، وفي مُرْسَلِ سَعِيدٍ أنَّهُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، فاتَّفَقَتْ هَذِهِ الأحادِيثُ عَلَيْهِ، ولا تَضُرُّ زِيادَةُ يَوْمِ عَرَفَةَ عَلَيْهِ في حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ الثّانِي، وأمّا المَشْهُودُ فَفي حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ الأوَّلِ أنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وفي حَدِيثِهِ الثّانِي أنَّهُ يَوْمُ القِيامَةِ، وفي حَدِيثِ أبِي مالِكٍ أنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وفي حَدِيثِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وكَذا في حَدِيثِ سَعِيدٍ فَقَدْ تَعَيَّنَ في هَذِهِ الرِّواياتِ أنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وهي أرْجَحُ مِن تِلْكَ الرِّوايَةِ الَّتِي صَرَّحَ فِيها بِأنَّهُ يَوْمُ القِيامَةِ، فَحَصَلَ مِن مَجْمُوعِ هَذا رُجْحانُ ما ذَهَبَ إلَيْهِ الجُمْهُورُ مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ ومَن بَعْدَهم أنَّ الشّاهِدَ يَوْمُ الجُمُعَةِ والمَشْهُودَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وأمّا اليَوْمُ المَوْعُودُ فَقَدْ قَدَّمْنا أنَّهُ وقَعَ الإجْماعُ عَلى أنَّهُ يَوْمُ القِيامَةِ.
وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وأحْمَدُ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ ومُسْلِمٌ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ والطَّبَرانِيُّ عَنْ صُهَيْبٍ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «كانَ مَلِكٌ مِنَ المُلُوكِ فِيمَن كانَ قَبْلَكم، وكانَ لِذَلِكَ المَلِكِ كاهِنٌ يَكْهُنُ لَهُ فَقالَ لَهُ ذَلِكَ الكاهِنُ: انْظُرُوا لِي غُلامًا فَهِمًا، أوْ قالَ فَطِنًا لَقِنًا فَأُعَلِّمَهُ عِلْمِي، فَإنِّي أخافُ أنْ أمُوتَ فَيَنْقَطِعَ مِنكم هَذا العِلْمُ ولا يَكُونُ فِيكم مَن يَعْلَمُهُ، قالَ: فَنَظَرُوا لَهُ عَلى ما وصَفَ، فَأمَرُوهُ أنْ يَحْضُرَ ذَلِكَ الكاهِنَ وأنْ يَخْتَلِفَ إلَيْهِ، فَجَعَلَ الغُلامُ يَخْتَلِفُ إلَيْهِ، وكانَ عَلى طَرِيقِ الغُلامِ راهِبٌ في صَوْمَعَةٍ، فَجَعَلَ الغُلامُ يَسْألُ ذَلِكَ الرّاهِبَ كُلَّما مَرَّ بِهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتّى أخْبَرَهُ فَقالَ: إنَّما أعْبُدُ اللَّهَ، فَجَعَلَ الغُلامُ يَمْكُثُ عِنْدَ هَذا الرّاهِبِ ويُبْطِئُ عَلى الكاهِنِ، فَأرْسَلَ الكاهِنُ إلى أهْلِ الغُلامِ أنَّهُ لا يَكادُ يَحْضُرُنِي، فَأخْبَرَ الغُلامُ الرّاهِبَ بِذَلِكَ، فَقالَ لَهُ الرّاهِبُ: إذا قالَ لَكَ أيْنَ كُنْتَ ؟ فَقُلْ عِنْدَ أهْلِي، وإذا قالَ لَكَ أهْلُكَ أيْنَ كُنْتَ ؟ فَأخْبِرْهم أنِّي كُنْتُ عِنْدَ الكاهِنِ، فَبَيْنَما الغُلامُ عَلى ذَلِكَ إذْ مَرَّ بِجَماعَةٍ مِنَ النّاسِ كَثِيرٍ قَدْ حَبَسَتْهم دابَّةٌ، يُقالُ إنَّها كانَتْ أسَدًا، فَأخَذَ الغُلامُ حَجَرًا فَقالَ: اللَّهُمَّ إنْ كانَ ما يَقُولُ ذَلِكَ الرّاهِبُ حَقًّا فَأسْألُكَ أنْ أقْتُلَ هَذِهِ الدّابَّةَ وإنْ كانَ ما يَقُولُ الكاهِنُ حَقًّا فَأسْألُكَ أنْ لا أقْتُلَها، ثُمَّ رَمى فَقَتَلَ الدّابَّةَ، فَقالَ النّاسُ: مَن قَتَلَها ؟ فَقالُوا الغُلامُ، فَفَزِعَ النّاسُ وقالُوا: قَدْ عَلِمَ هَذا الغُلامُ عِلْمًا لَمْ يَعْلَمْهُ أحَدٌ، فَسَمِعَ أعْمى فَجاءَهُ فَقالَ لَهُ: إنْ أنْتَ رَدَدْتَ عَلَيَّ بَصَرِي فَلَكَ كَذا وكَذا، فَقالَ الغُلامُ: لا أُرِيدُ مِنكَ هَذا، ولَكِنْ أرَأيْتَ إنْ رَجَعَ عَلَيْكَ بَصَرُكَ أتُؤْمِنُ بِالَّذِي رَدَّهُ عَلَيْكَ ؟ قالَ نَعَمْ، فَدَعا اللَّهَ فَرَدَّ عَلَيْهِ بَصَرَهُ فَآمَنَ الأعْمى، فَبَلَغَ المَلِكَ أمْرُهم فَبَعَثَ إلَيْهِمْ فَأتى بِهِمْ فَقالَ: لَأقْتُلَنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنكم قِتْلَةً لا أقْتُلُ بِها صاحِبَهُ، فَأمَرَ بِالرّاهِبِ والرَّجُلِ الَّذِي كانَ أعْمى فَوُضِعَ المِنشارُ عَلى مَفْرِقِ أحَدِهِما فَقَتَلَهُ، وقُتِلَ الآخَرُ بِقِتْلَةٍ أُخْرى، ثُمَّ أمَرَ بِالغُلامِ فَقالَ: انْطَلِقُوا بِهِ إلى جَبَلِ كَذا وكَذا فَألْقُوهُ مِن رَأْسِهِ، فانْطَلَقُوا بِهِ إلى ذَلِكَ الجَبَلِ، فَلَمّا انْتَهَوْا إلى ذَلِكَ المَكانِ الَّذِي أرادُوا أنْ يُلْقُوهُ مِنهُ جَعَلُوا يَتَهافَتُونَ مِن ذَلِكَ الجَبَلِ ويَتَرَدَّوْنَ حَتّى لَمْ يَبْقَ مِنهم إلّا الغُلامُ، ثُمَّ رَجَعَ الغُلامُ فَأمَرَ بِهِ المَلِكُ أنْ يَنْطَلِقُوا بِهِ إلى البَحْرِ فَيُلْقُوهُ فِيهِ، فانْطَلَقُوا بِهِ إلى البَحْرِ، فَغَرَّقَ اللَّهُ الَّذِينَ كانُوا مَعَهُ وأنْجاهُ، فَقالَ الغُلامُ لِلْمَلِكِ: إنَّكَ لَنْ تَقْتُلَنِي حَتّى تَصْلُبَنِي وتَرْمِيَنِي وتَقُولَ إذا رَمَيْتَنِي: بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ الغُلامِ، فَأمَرَ بِهِ فَصُلِبَ ثُمَّ رَماهُ وقالَ: بِسْمِ اللَّهِ رَبِّ الغُلامِ، فَوَقَعَ السَّهْمُ في صُدْغِهِ، فَوَضَعَ الغُلامُ يَدَهُ عَلى مَوْضِعِ السَّهْمِ ثُمَّ ماتَ، فَقالَ النّاسُ: لَقَدْ عَلِمَ هَذا الغُلامُ عِلْمًا ما عَلِمَهُ أحَدٌ، فَإنّا نُؤْمِنُ بِرَبِّ هَذا الغُلامِ، فَقِيلَ لِلْمَلِكِ: أجَزِعْتَ أنْ خالَفَكَ ثَلاثَةٌ، فَهَذا العالَمُ كُلُّهم قَدْ خالَفُوكَ، قالَ: فَخَدَّ أُخْدُودًا ثُمَّ أُلْقِيَ فِيهِ الحَطَبُ والنّارُ، ثُمَّ جَمَعَ النّاسَ فَقالَ: مَن رَجَعَ عَنْ دِينِهِ تَرَكْناهُ، ومَن لَمْ يَرْجِعْ ألْقَيْناهُ في هَذِهِ النّارِ، فَجَعَلَ يُلْقِيهِمْ في تِلْكَ الأُخْدُودِ، فَقالَ: يَقُولُ اللَّهُ: ﴿قُتِلَ أصْحابُ الأُخْدُودِ النّارِ ذاتِ الوَقُودِ﴾ حَتّى بَلَغَ العَزِيزِ الحَمِيدِ» فَأمّا الغُلامُ فَإنَّهُ دُفِنَ، ثُمَّ أُخْرِجُ، فَيُذْكَرُ أنَّهُ أُخْرِجَ في زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ وأُصْبُعُهُ عَلى صُدْغِهِ كَما وضَعَها حِينَ قُتِلَ.
ولِهَذِهِ القِصَّةِ ألْفاظٌ فِيها بَعْضُ اخْتِلافٍ.
وقَدْ رَواها مُسْلِمٌ في أواخِرِ الصَّحِيحِ عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خالِدٍ عَنْ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثابِتٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي لَيْلى عَنْ صُهَيْبٍ.
وأخْرَجَها أحْمَدُ مِن طَرِيقِ عَفّانَ عَنْ حَمّادٍ بِهِ.
وأخْرَجَها النَّسائِيُّ عَنْ أحْمَدَ بْنِ سُلَيْمانَ عَنْ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ.
وأخْرَجَها التِّرْمِذِيُّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلانَ وعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ثابِتٍ بِهِ.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ في قَوْلِهِ: ﴿أصْحابُ الأُخْدُودِ﴾ قالَ: هُمُ الحَبَشَةُ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: هم ناسٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ خَدُّوا أُخْدُودًا في الأرْضِ أوْقَدُوا فِيهِ نارًا، ثُمَّ أقامُوا عَلى ذَلِكَ الأُخْدُودِ رِجالًا ونِساءً، فَعُرِضُوا عَلَيْها.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: ﴿والسَّماءِ ذاتِ البُرُوجِ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿وشاهِدٍ ومَشْهُودٍ﴾ قالَ: هَذا قَسَمٌ عَلى ﴿إنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ إلى آخِرِها.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ هو يُبْدِئُ ويُعِيدُ﴾ قالَ: يُبْدِئُ العَذابَ ويُعِيدُهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ والبَيْهَقِيُّ في الأسْماءِ والصِّفاتِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: الوَدُودُ قالَ: الحَبِيبُ، وفي قَوْلِهِ: ﴿ذُو العَرْشِ المَجِيدُ﴾ قالَ: الكَرِيمُ.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ في قَوْلِهِ: في لَوْحٍ مَحْفُوظٍ قالَ: أُخْبِرْتُ أنَّهُ لَوْحُ الذِّكْرِ لَوْحٌ واحِدٌ فِيهِ الذِّكْرُ، وإنَّ ذَلِكَ اللَّوْحَ مِن نُورٍ، وإنَّهُ مَسِيرَةُ ثَلاثِمِائَةِ سَنَةٍ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أنَسٍ قالَ: إنَّ اللَّوْحَ المَحْفُوظَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ في قَوْلِهِ: ﴿بَلْ هو قُرْآنٌ مَجِيدٌ﴾ ﴿فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ في جَبْهَةِ إسْرافِيلَ.
وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، قالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: خَلَقَ اللَّهُ اللَّوْحَ المَحْفُوظَ كَمَسِيرَةِ مِائَةِ عامٍ، فَقالَ لِلْقَلَمِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ: اكْتُبْ عِلْمِي في خَلْقِي، فَجَرى ما هو كائِنٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ اهـ.
{"ayahs_start":11,"ayahs":["إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَهُمۡ جَنَّـٰتࣱ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُۚ ذَ ٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡكَبِیرُ","إِنَّ بَطۡشَ رَبِّكَ لَشَدِیدٌ","إِنَّهُۥ هُوَ یُبۡدِئُ وَیُعِیدُ","وَهُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلۡوَدُودُ","ذُو ٱلۡعَرۡشِ ٱلۡمَجِیدُ","فَعَّالࣱ لِّمَا یُرِیدُ","هَلۡ أَتَىٰكَ حَدِیثُ ٱلۡجُنُودِ","فِرۡعَوۡنَ وَثَمُودَ","بَلِ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ فِی تَكۡذِیبࣲ","وَٱللَّهُ مِن وَرَاۤىِٕهِم مُّحِیطُۢ","بَلۡ هُوَ قُرۡءَانࣱ مَّجِیدࣱ","فِی لَوۡحࣲ مَّحۡفُوظِۭ"],"ayah":"إِنَّ بَطۡشَ رَبِّكَ لَشَدِیدٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











