(p-١٥٩٨)قَوْلُهُ: كَلّا لِلرَّدْعِ والزَّجْرِ عَمّا كانُوا عَلَيْهِ.
والتَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ.
وجُمْلَةُ ﴿إنَّ كِتابَ الأبْرارِ لَفي عِلِّيِّينَ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيانِ ما تَضَمَّنَتْهُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ كَلّا بِمَعْنى حَقًّا، والأبْرارُ هُمُ المُطِيعُونَ، وكِتابُهم صَحائِفُ حَسَناتِهِمْ.
قالَ الفَرّاءُ: عِلِّيِّينَ ارْتِفاعٌ بَعْدَ ارْتِفاعٍ لا غايَةَ لَهُ، ووَجْهُ هَذا أنَّهُ مَنقُولٌ مِن جَمْعِ عَلِّيٍّ مِنَ العُلُوِّ.
قالَ الزَّجّاجُ: هو إعْلاءُ الأمْكِنَةِ.
قالَ الفَرّاءُ، والزَّجّاجُ: فَأُعْرِبَ كَإعْرابِ الجَمْعِ لِأنَّهُ عَلى لَفْظِ الجَمْعِ ولا واحِدَ لَهُ مِن لَفْظِهِ نَحْوَ ثَلاثِينَ وعِشْرِينَ وقِنَّسْرِينَ، قِيلَ هو عَلَمٌ لِدِيوانِ الخَيْرِ الَّذِي دُوِّنَ فِيهِ ما عَمِلَهُ الصّالِحُونَ.
وحَكى الواحِدِيُّ عَنِ المُفَسِّرِينَ أنَّهُ السَّماءُ السّابِعَةُ.
قالَ الضَّحّاكُ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ: يَعْنِي السَّماءَ السّابِعَةَ فِيها أرْواحُ المُؤْمِنِينَ.
وقالَ الضَّحّاكُ: هو سِدْرَةُ المُنْتَهى يَنْتَهِي إلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ مِن أمْرِ اللَّهِ لا يَعْدُوها، وقِيلَ هو الجَنَّةُ.
وقالَ قَتادَةُ أيْضًا: هو فَوْقَ السَّماءِ السّابِعَةِ عِنْدَ قائِمَةِ العَرْشِ اليُمْنى، وقِيلَ إنَّ عِلِّيِّينَ صِفَةٌ لِلْمَلائِكَةِ فَإنَّهم في المَلَأِ الأعْلى كَما يُقالُ فُلانٌ في بَنِي فُلانٍ: أيْ في جُمْلَتِهِمْ.
﴿وما أدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ﴾ أيْ وما أعْلَمَكَ يا مُحَمَّدُ أيُّ شَيْءٍ عِلِّيُّونَ ؟ عَلى جِهَةِ التَّفْخِيمِ والتَّعْظِيمِ لِعِلِّيِّينَ، ثُمَّ فَسَّرَهُ فَقالَ: ﴿كِتابٌ مَرْقُومٌ﴾ أيْ مَسْطُورٌ، والكَلامُ في هَذا كالكَلامِ المُتَقَدِّمِ في قَوْلِهِ: ﴿وما أدْراكَ ما سِجِّينٌ﴾ ﴿كِتابٌ مَرْقُومٌ﴾ .
وجُمْلَةُ ﴿يَشْهَدُهُ المُقَرَّبُونَ﴾ صِفَةٌ أُخْرى لِ ( كِتابٌ )، والمَعْنى: أنَّ المَلائِكَةَ يَحْضُرُونَ ذَلِكَ الكِتابَ المَرْقُومَ، وقِيلَ يَشْهَدُونَ بِما فِيهِ يَوْمَ القِيامَةِ.
قالَ وهْبٌ، وابْنُ إسْحاقَ: المُقَرَّبُونَ هُنا إسْرافِيلُ، فَإذا عَمِلَ المُؤْمِنُ عَمَلَ البِرِّ صَعِدَتِ المَلائِكَةُ بِالصَّحِيفَةِ ولَها نُورٌ يَتَلَأْلَأُ في السَّماواتِ كَنُورِ الشَّمْسِ في الأرْضِ حَتّى تَنْتَهِيَ بِها إلى إسْرافِيلَ فَيَخْتِمُ عَلَيْها.
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ حالَهم في الجَنَّةِ بَعْدَ ذِكْرِ كِتابِهِمْ فَقالَ: ﴿إنَّ الأبْرارَ لَفي نَعِيمٍ﴾ أيْ إنَّ أهْلَ الطّاعَةِ لَفي تَنَعُّمٍ عَظِيمٍ لا يُقادَرُ قَدْرُهُ.
﴿عَلى الأرائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ الأرائِكُ: الأسِرَّةُ الَّتِي في الحِجالِ، وقَدْ تَقَدَّمَ أنَّها لا تُطْلَقُ الأرِيكَةُ عَلى السَّرِيرِ إلّا إذا كانَ في حَجَلَةٍ.
قالَ الحَسَنُ: ما كُنّا نَدْرِي ما الأرائِكُ حَتّى قَدِمَ عَلَيْنا رَجُلٌ مِنَ اليَمَنِ، فَزَعَمَ أنَّ الأرِيكَةَ عِنْدَهُمُ الحَجَلَةُ إذا كانَ فِيها سَرِيرٌ.
ومَعْنى يَنْظُرُونَ أنَّهم يَنْظُرُونَ إلى ما أعَدَّ اللَّهُ لَهم مِنَ الكَراماتِ، كَذا قالَ عِكْرِمَةُ، ومُجاهِدٌ وغَيْرُهُما.
وقالَ مُقاتِلٌ: يَنْظُرُونَ إلى أهْلِ النّارِ، وقِيلَ يَنْظُرُونَ إلى وجْهِهِ وجَلالِهِ.
﴿تَعْرِفُ في وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ أيْ إذا رَأيْتَهم عَرَفْتَ أنَّهم مِن أهْلِ النِّعْمَةِ لِما تَراهُ في وُجُوهِهِمْ مِنَ النُّورِ والحُسْنِ والبَياضِ والبَهْجَةِ والرَّوْنَقِ، والخِطابُ لِكُلِّ راءٍ يَصْلُحُ لِذَلِكَ، يُقالُ أنْضَرَ النَّباتُ: إذا أزْهَرَ ونَوَّرَ.
قالَ عَطاءٌ: وذَلِكَ أنَّ اللَّهَ زادَ في جَمالِهِمْ وفي ألْوانِهِمْ ما لا يَصِفُهُ واصِفٌ.
قَرَأ الجُمْهُورُ تَعْرِفُ بِفَتْحِ الفَوْقِيَّةِ وكَسْرِ الرّاءِ، ونَصْبِ ( نَضِرَةَ )، وقَرَأ أبُو جَعْفَرِ بْنُ القَعْقاعِ، ويَعْقُوبُ، وشَيْبَةُ، وطَلْحَةُ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ بِضَمِّ الفَوْقِيَّةِ وفَتْحِ الرّاءِ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ، ورَفْعِ " نَضِرَةَ " بِالنِّيابَةِ.
﴿يُسْقَوْنَ مِن رَحِيقٍ مَخْتُومٍ﴾ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ، والأخْفَشُ، والمُبَرِّدُ، والزَّجّاجُ: الرَّحِيقُ مِنَ الخَمْرِ ما لا غِشَّ فِيهِ ولا شَيْءَ يُفْسِدُهُ، والمَخْتُومُ الَّذِي لَهُ خِتامٌ.
وقالَ الخَلِيلُ: الرَّحِيقُ أجْوَدُ الخَمْرِ وفي الصِّحاحِ الرَّحِيقُ صُفْرَةُ الخَمْرِ.
وقالَ مُجاهِدٌ: هو الخَمْرُ العَتِيقَةُ البَيْضاءُ الصّافِيَةُ، ومِنهُ قَوْلُ حَسّانَ:
؎يَسْقُونَ مَن ورَدَ البَرِيصَ عَلَيْهِمُ بَرَدى يُصَفَّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ
قالَ مُجاهِدٌ: مَخْتُومٌ مُطَيَّنٌ، كَأنَّهُ ذَهَبَ إلى مَعْنى الخَتْمِ بِالطِّينِ، ويَكُونُ المَعْنى: أنَّهُ مَمْنُوعٌ مِن أنْ تَمَسَّهُ يَدٌ إلى أنْ يُفَكَّ خَتْمُهُ لِلْأبْرارِ.
وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وإبْراهِيمُ النَّخَعِيِّ: خِتامُهُ آخِرُ طَعْمِهِ، وهو مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿خِتامُهُ مِسْكٌ﴾ أيْ آخِرُ طَعْمِهِ رِيحُ المِسْكِ إذا رَفَعَ الشّارِبُ فاهَ مِن آخِرِ شَرابِهِ وجَدَ رِيحَهُ كَرِيحِ المِسْكِ.
وقِيلَ مَخْتُومٌ أوانِيهِ مِنَ الأكْوابِ والأبارِيقِ بِمِسْكٍ مَكانَ الطِّينِ، وكَأنَّهُ تَمْثِيلٌ لِكَمالِ نَفاسَتِهِ وطِيبِ رائِحَتِهِ.
والحاصِلُ أنَّ المَخْتُومَ والخِتامَ إمّا أنْ يَكُونَ مِن خِتامِ الشَّيْءِ وهو آخِرُهُ أوْ مِن خَتْمِ الشَّيْءِ وهو جَعْلُ الخاتَمِ عَلَيْهِ كَما تُخْتَمُ الأشْياءُ بِالطِّينِ ونَحْوِهِ.
قَرَأ الجُمْهُورُ ( خِتامُهُ ) وقَرَأ عَلِيٌّ، وعَلْقَمَةُ، وشَقِيقٌ، والضَّحّاكُ، وطاوُسٌ، والكِسائِيُّ " خاتَمُهُ " بِفَتْحِ الخاءِ والتّاءِ وألِفٌ بَيْنَهُما.
قالَ عَلْقَمَةُ: أما رَأيْتَ المَرْأةَ تَقُولُ لِلْعَطّارِ: اجْعَلْ خاتَمَهُ مِسْكًا: أيْ آخِرُهُ، والخاتَمُ والخِتامُ يَتَقارَبانِ في المَعْنى، إلّا أنَّ الخاتَمَ الِاسْمُ والخِتامُ المَصْدَرُ، كَذا قالَ الفَرّاءُ. قالَ في الصِّحاحِ: والخِتامُ الطِّينُ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ، وكَذا قالَ ابْنُ زَيْدٍ.
قالَ الفَرَزْدَقُ:
؎وبِتْنَ بِجانِبَيَّ مُصَرَّعاتٍ ∗∗∗ وبِتُّ أفُضُّ أغْلاقَ الخِتامِ
﴿وفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنافَسِ المُتَنافِسُونَ﴾ أيْ فَلْيَرْغَبِ الرّاغِبُونَ، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ إلى الرَّحِيقِ المَوْصُوفِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ، وقِيلَ إنَّ ( في ) بِمَعْنى ( إلى ): أيْ وإلى ذَلِكَ فَلْيَتَبادَرِ المُتَبادِرُونَ في العَمَلِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿لِمِثْلِ هَذا فَلْيَعْمَلِ العامِلُونَ﴾ [الصافات: ٦١] وأصْلُ التَّنافُسِ التَّشاجُرُ عَلى الشَّيْءِ والتَّنازُعُ فِيهِ، بِأنْ يُحِبَّ كُلُّ واحِدٍ أنْ يَتَفَرَّدَ بِهِ دُونَ صاحِبِهِ، يُقالُ نَفَسْتُ الشَّيْءَ عَلَيْهِ أنْفُسُهُ نَفاسَةً: أيْ ضَنِنْتُ بِهِ ولَمْ أُحِبَّ أنْ يَصِيرَ إلَيْهِ.
قالَ البَغَوِيُّ: أصْلُهُ مِنَ الشَّيْءِ النَّفِيسِ الَّذِي تَحْرِصُ عَلَيْهِ نُفُوسُ النّاسِ فَيُرِيدُهُ كُلُّ واحِدٍ لِنَفْسِهِ، ويَنْفُسُ بِهِ عَلى غَيْرِهِ: أيْ يَضِنُّ بِهِ.
قالَ عَطاءٌ: المَعْنى فَلْيَسْتَبِقِ المُسْتَبِقُونَ.
وقالَ مُقاتِلُ بْنُ سُلَيْمانَ: فَلْيَتَنازَعِ المُتَنازِعُونَ.
وقَوْلُهُ: ﴿ومِزاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى ( خِتامُهُ مِسْكٌ ) صِفَةٌ أُخْرى لِرَحِيقٍ: أيْ ومِزاجُ ذَلِكَ الرَّحِيقِ مِن تَسْنِيمٍ، وهو شَرابٌ يَنْصَبُّ عَلَيْهِمْ مِن عُلُوٍّ، وهو أشْرَفُ شَرابِ الجَنَّةِ، وأصْلُ التَّسْنِيمِ في اللُّغَةِ الِارْتِفاعُ، فَهي عَيْنُ ماءٍ تَجْرِي مِن عُلُوٍّ إلى أسْفَلَ، ومِنهُ (p-١٥٩٩)سَنامُ البَعِيرِ لِعُلُوِّهِ مِن بَدَنِهِ، ومِنهُ تَسْنِيمُ القُبُورِ.
ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَقالَ: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِها المُقَرَّبُونَ﴾ وانْتِصابُ عَيْنًا عَلى المَدْحِ.
وقالَ الزَّجّاجُ: عَلى الحالِ، وإنَّما جازَ أنْ تَكُونَ ( عَيْنًا ) حالًا مَعَ كَوْنِها جامِدَةً غَيْرَ مُشْتَقَّةٍ لِاتِّصافِها بِقَوْلِهِ: ﴿يَشْرَبُ بِها﴾ وقالَ الأخْفَشُ: إنَّها مَنصُوبَةٌ بِيُسْقَوْنَ: أيْ يُسْقَوْنَ عَيْنًا، أوْ مِن عَيْنٍ.
وقالَ الفَرّاءُ: إنَّها مَنصُوبَةٌ بِتَسْنِيمٍ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّنامِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿أوْ إطْعامٌ في يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا﴾ [البلد: ١٥، ١٤] والأوَّلُ أوْلى، وبِهِ قالَ المُبَرِّدُ.
قِيلَ والباءُ في ( بِها ) زائِدَةٌ: أيْ يَشْرَبُها، أوْ بِمَعْنى ( مِن ): أيْ يَشْرَبُ مِنها.
قالَ ابْنُ زَيْدٍ: بَلَغَنا أنَّها عَيْنٌ تَجْرِي مِن تَحْتِ العَرْشِ، قِيلَ يَشْرَبُ بِها المُقَرَّبُونَ صِرْفًا، ويُمْزَجُ بِها كَأْسُ أصْحابِ اليَمِينِ.
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ بَعْضَ قَبائِحِ المُشْرِكِينَ فَقالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ أجْرَمُوا﴾ وهم كُفّارُ قُرَيْشٍ ومَن وافَقَهم عَلى الكُفْرِ ﴿كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ أيْ كانُوا في الدُّنْيا يَسْتَهْزِئُونَ بِالمُؤْمِنِينَ، ويَسْخَرُونَ مِنهم.
﴿وإذا مَرُّوا بِهِمْ﴾ أيْ وإذا مَرَّ المُؤْمِنُونَ بِالكَفّارِ وهم في مَجالِسِهِمْ يَتَغامَزُونَ مِنَ الغَمْزِ، وهو الإشارَةُ بِالجُفُونِ والحَواجِبِ: أيْ يَغْمِزُ بَعْضُهم بَعْضًا، ويُشِيرُونَ بِأعْيُنِهِمْ وحَواجِبِهِمْ، وقِيلَ يُعَيِّرُونَهم بِالإسْلامِ ويَعِيبُونَهم بِهِ.
وإذا انْقَلَبُوا أيِ الكُفّارُ إلى أهْلِهِمْ مِن مَجالِسِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ أيْ مُعْجَبِينَ بِما هم فِيهِ مُتَلَذِّذِينَ بِهِ، يَتَفَكَّهُونَ بِذِكْرِ المُؤْمِنِينَ والطَّعْنِ فِيهِمْ والِاسْتِهْزاءِ بِهِمْ والسُّخْرِيَةِ مِنهم.
والِانْقِلابُ: الِانْصِرافُ.
قَرَأ الجُمْهُورُ " فاكِهِينَ " وقَرَأ حَفْصٌ، وابْنُ القَعْقاعِ، والأعْرَجُ، والسُّلَمِيُّ فَكِهِينَ بِغَيْرِ ألِفٍ.
قالَ الفَرّاءُ: هُما لُغَتانِ، مِثْلَ طَمِعٌ وطامِعٌ، وحَذِرٌ وحاذِرٌ.
وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُهُ في سُورَةِ الدُّخانِ أنَّ الفَكِهَ: الأشِرُ البَطِرُ، والفاكِهُ: النّاعِمُ المُتَنَعِّمُ.
وإذا رَأوْهم أيْ إذا رَأى الكُفّارُ المُسْلِمِينَ في أيِّ مَكانٍ ﴿قالُوا إنَّ هَؤُلاءِ لَضالُّونَ﴾ في اتِّباعِهِمْ مُحَمَّدًا، وتَمَسُّكِهِمْ بِما جاءَ بِهِ، وتَرْكِهِمُ التَّنَعُّمَ الحاضِرَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: وإذا رَأى المُسْلِمُونَ الكافِرِينَ قالُوا هَذا القَوْلَ، والأوَّلُ أوْلى.
وجُمْلَةُ ﴿وما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِن فاعِلِ ( قالُوا ): أيْ قالُوا ذَلِكَ أنَّهم لَمْ يُرْسِلُوا عَلى المُسْلِمِينَ مِن جِهَةِ اللَّهِ مُوَكَّلِينَ بِهِمْ يَحْفَظُونَ عَلَيْهِمْ أحْوالَهم وأعْمالَهم.
﴿فاليَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ المُرادُ بِاليَوْمِ: اليَوْمُ الآخِرُ ﴿مِنَ الكُفّارِ يَضْحَكُونَ﴾ والمَعْنى: أنَّ المُؤْمِنِينَ في ذَلِكَ اليَوْمِ يَضْحَكُونَ مِنَ الكُفّارِ حِينَ يَرَوْنَهم أذِلّاءَ مَغْلُوبِينَ قَدْ نَزَلَ بِهِمْ ما نَزَلَ مِنَ العَذابِ، كَما ضَحِكَ الكُفّارُ مِنهم في الدُّنْيا.
وجُمْلَةُ ﴿عَلى الأرائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِن فاعِلِ ( يَضْحَكُونَ ): أيْ يَضْحَكُونَ مِنهم ناظِرِينَ إلَيْهِمْ وإلى ما هم فِيهِ مِنَ الحالِ الفَظِيعِ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الأرائِكِ قَرِيبًا.
قالَ الواحِدِيُّ: قالَ المُفَسِّرُونَ: إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ إذا أرادُوا نَظَرُوا مِن مَنازِلِهِمْ إلى أعْداءِ اللَّهِ وهم يُعَذَّبُونَ في النّارِ، فَضَحِكُوا مِنهم كَما ضَحِكُوا مِنهم في الدُّنْيا.
وقالَ أبُو صالِحٍ: يُقالُ لِأهْلِ النّارِ اخْرُجُوا ويُفْتَحُ لَهم أبْوابُها، فَإذا رَأوْها قَدْ فُتِحَتْ أقْبَلُوا إلَيْها يُرِيدُونَ الخُرُوجَ والمُؤْمِنُونَ يَنْظُرُونَ إلَيْهِمْ عَلى الأرائِكِ، فَإذا انْتَهَوْا إلى أبْوابِها غُلِّقَتْ دُونَهم، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فاليَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الكُفّارِ يَضْحَكُونَ﴾ .
﴿هَلْ ثُوِّبَ الكُفّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيانِ أنَّهُ قَدْ وقَعَ الجَزاءُ لِلْكَفّارِ بِما كانَ يَقَعُ مِنهم في الدُّنْيا مِنَ الضَّحِكِ مِنَ المُؤْمِنِينَ والِاسْتِهْزاءِ بِهِمْ، والِاسْتِفْهامُ لِلتَّقْرِيرِ، وثُوِّبَ بِمَعْنى أُثِيبَ، والمَعْنى: هَلْ جُوزِيَ الكُفّارُ بِما كانُوا يَفْعَلُونَهُ بِالمُؤْمِنِينَ ؟ وقِيلَ الجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ بِـ ( يَنْظُرُونَ )، وقِيلَ هي عَلى إضْمارِ القَوْلِ: أيْ يَقُولُ بَعْضُ المُؤْمِنِينَ لِبَعْضٍ هَلْ ثُوِّبَ الكُفّارُ، والثَّوابُ ما يَرْجِعُ عَلى العَبْدِ في مُقابَلَةِ عَمَلِهِ ويُطْلَقُ عَلى الخَيْرِ والشَّرِّ.
وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ المُبارَكِ في الزُّهْدِ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ مِن طَرِيقِ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ سَألَ كَعْبَ الأحْبارِ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿إنَّ كِتابَ الأبْرارِ لَفي عِلِّيِّينَ﴾ قالَ: رُوحُ المُؤْمِنِ إذا قُبِضَتْ عُرِجَ بِها إلى السَّماءِ، فَفُتِحَ لَها أبْوابُ السَّماءِ وتَلَقّاها المَلائِكَةُ بِالبُشْرى حَتّى تَنْتَهِيَ بِها إلى العَرْشِ وتَعْرُجُ المَلائِكَةُ، فَيَخْرُجُ لَها مِن تَحْتِ العَرْشِ رَقٌّ فَيُرْقَمُ ويُخْتَمُ ويُوضَعُ تَحْتَ العَرْشِ لِمَعْرِفَةِ النَّجاةِ لِحِسابِ يَوْمِ الدِّينِ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ لَفي عِلِّيِّينَ قالَ: الجَنَّةُ، وفي قَوْلِهِ: ﴿يَشْهَدُهُ المُقَرَّبُونَ﴾ قالَ: أهْلُ السَّماءِ.
وأخْرَجَ أحْمَدُ، وأبُو داوُدَ، والطَّبَرانِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبِي أُمامَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «صَلاةٌ عَلى أثَرِ صَلاةٍ لا لَغْوَ بَيْنِهِما كِتابٌ في عِلِّيِّينَ»
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ في قَوْلِهِ: ﴿نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ قالَ: عَيْنٌ في الجَنَّةِ يَتَوَضَّئُونَ مِنها ويَغْتَسِلُونَ فَتَجْرِي عَلَيْهِمْ نَضْرَةُ النَّعِيمِ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وهَنّادٌ، وابْنُ المُنْذِرِ، والبَيْهَقِيُّ في البَعْثِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ في قَوْلِهِ: ﴿يُسْقَوْنَ مِن رَحِيقٍ مَخْتُومٍ﴾ قالَ: الرَّحِيقُ الخَمْرُ، والمَخْتُومُ يَجِدُونَ عاقِبَتَها طَعْمَ المِسْكِ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وهَنّادٌ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ( مَخْتُومٌ ) قالَ: مَمْزُوجٌ ( خِتامُهُ مِسْكٌ ) قالَ: طَعْمُهُ ورِيحُهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والبَيْهَقِيُّ في البَعْثِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: مِن رَحِيقٍ، قالَ: خَمْرٍ، وقَوْلِهِ: مَخْتُومٍ، قالَ: خُتِمَ بِالمِسْكِ.
وأخْرَجَ الفِرْيابِيُّ، والطَّبَرانِيُّ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنُ مَسْعُودٍ في قَوْلِهِ: ﴿خِتامُهُ مِسْكٌ﴾ قالَ: لَيْسَ بِخاتَمٍ يُخْتَمُ بِهِ، ولَكِنْ خِلْطُهُ مِسْكٌ، ألَمْ تَرَ إلى المَرْأةِ مِن نِسائِكم تَقُولُ خِلْطُهُ مِنَ الطِّيبِ كَذا وكَذا.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، والبَيْهَقِيُّ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ خِتامُهُ مِسْكٌ قالَ: هو شَرابٌ أبْيَضُ مِثْلُ الفِضَّةِ يَخْتِمُونَ بِهِ آخِرَ شَرابِهِمْ، ولَوْ أنَّ رَجُلًا مِن أهْلِ الدُّنْيا أدْخَلَ أصابِعَهُ فِيهِ ثُمَّ أخْرَجَها لَمْ يَبْقَ ذُو رُوحٍ إلّا وجَدَ رِيحَها.
وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: تَسْنِيمٌ أشْرَفُ شَرابِ أهْلِ الجَنَّةِ، وهو صَرْفٌ لِلْمُتَّقِينَ (p-١٦٠٠)ويُمْزَجُ لِأصْحابِ اليَمِينِ.
وأخْرَجَ ابْنُ المُبارَكِ، وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وهَنّادٌ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ﴿ومِزاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ﴾ قالَ: عَيْنٌ في الجَنَّةِ تُمْزَجُ لِأصْحابِ اليَمِينِ ويَشْرَبُها المُقَرَّبُونَ صِرْفًا.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿ومِزاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ﴾ قالَ: هَذا مِمّا قالَ اللَّهُ ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهم مِن قُرَّةِ أعْيُنٍ﴾ [السجدة: ١٧] .
{"ayahs_start":18,"ayahs":["كَلَّاۤ إِنَّ كِتَـٰبَ ٱلۡأَبۡرَارِ لَفِی عِلِّیِّینَ","وَمَاۤ أَدۡرَىٰكَ مَا عِلِّیُّونَ","كِتَـٰبࣱ مَّرۡقُومࣱ","یَشۡهَدُهُ ٱلۡمُقَرَّبُونَ","إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ لَفِی نَعِیمٍ","عَلَى ٱلۡأَرَاۤىِٕكِ یَنظُرُونَ","تَعۡرِفُ فِی وُجُوهِهِمۡ نَضۡرَةَ ٱلنَّعِیمِ","یُسۡقَوۡنَ مِن رَّحِیقࣲ مَّخۡتُومٍ","خِتَـٰمُهُۥ مِسۡكࣱۚ وَفِی ذَ ٰلِكَ فَلۡیَتَنَافَسِ ٱلۡمُتَنَـٰفِسُونَ","وَمِزَاجُهُۥ مِن تَسۡنِیمٍ","عَیۡنࣰا یَشۡرَبُ بِهَا ٱلۡمُقَرَّبُونَ","إِنَّ ٱلَّذِینَ أَجۡرَمُوا۟ كَانُوا۟ مِنَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ یَضۡحَكُونَ","وَإِذَا مَرُّوا۟ بِهِمۡ یَتَغَامَزُونَ","وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤا۟ إِلَىٰۤ أَهۡلِهِمُ ٱنقَلَبُوا۟ فَكِهِینَ","وَإِذَا رَأَوۡهُمۡ قَالُوۤا۟ إِنَّ هَـٰۤؤُلَاۤءِ لَضَاۤلُّونَ","وَمَاۤ أُرۡسِلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ حَـٰفِظِینَ","فَٱلۡیَوۡمَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مِنَ ٱلۡكُفَّارِ یَضۡحَكُونَ","عَلَى ٱلۡأَرَاۤىِٕكِ یَنظُرُونَ","هَلۡ ثُوِّبَ ٱلۡكُفَّارُ مَا كَانُوا۟ یَفۡعَلُونَ"],"ayah":"فَٱلۡیَوۡمَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مِنَ ٱلۡكُفَّارِ یَضۡحَكُونَ"}