الباحث القرآني

اخْتِلافُ القُرّاءِ في أسْرى والأُسارى هو هُنا كَما سَبَقَ في الآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ، خاطَبَ اللَّهُ النَّبِيَّ ﷺ بِهَذا: أيْ قُلْ لِهَؤُلاءِ الأسْرى الَّذِينَ هم في أيْدِيكم أسَرْتُمُوهم يَوْمَ بَدْرٍ وأخَذْتُمْ مِنهُمُ الفِداءَ ﴿إنْ يَعْلَمِ اللَّهُ في قُلُوبِكم خَيْرًا﴾ مِن حُسْنِ إيمانٍ، وصَلاحِ نِيَّةٍ، وخُلُوصِ طَوِيَّةٍ ﴿يُؤْتِكم خَيْرًا مِمّا أُخِذَ مِنكُمْ﴾ مِنَ الفِداءِ: أيْ يُعَوِّضْكم في هَذِهِ الدُّنْيا رِزْقًا خَيْرًا مِنهُ، وأنْفَعَ لَكم، أوْ في الآخِرَةِ بِما يَكْتُبُهُ لَكم مِنَ المَثُوبَةِ بِالأعْمالِ الصّالِحَةِ ﴿ويَغْفِرْ لَكُمْ﴾ ذُنُوبَكم ﴿واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ شَأْنُهُ المَغْفِرَةُ لِعِبادِهِ والرَّحْمَةُ لَهم. ولَمّا ذَكَرَ ما ذَكَرَهُ مِنَ العِوَضِ لِمَن عَلِمَ في قَلْبِهِ خَيْرًا ذَكَرَ مَن هو عَلى ضِدِّ ذَلِكَ مِنهم فَقالَ: ﴿وإنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ﴾ بِما قالُوهُ لَكَ بِألْسِنَتِهِمْ مِن أنَّهم قَدْ آمَنُوا بِكَ وصَدَّقُوكَ ولَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنهم عَنْ عَزِيمَةٍ صَحِيحَةٍ ونِيَّةٍ خالِصَةٍ، بَلْ هو مُماكَرَةٌ ومُخادَعَةٌ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَبْعَدٍ مِنهم فَإنَّهم قَدْ فَعَلُوا ما هو أعْظَمُ مِنهُ، وهو أنَّهم خانُوا اللَّهَ مِن قَبْلِ أنْ تَظْفَرَ بِهِمْ، فَكَفَرُوا بِهِ وقاتَلُوا رَسُولَهُ ﴿فَأمْكَنَ مِنهُمْ﴾ بِأنْ نَصَرَكَ عَلَيْهِمْ في يَوْمِ بَدْرٍ فَقَتَلْتَ مِنهم مَن قَتَلْتَ وأسَرْتَ مَن أسَرْتَ ﴿واللَّهُ عَلِيمٌ﴾ بِما في ضَمائِرِهِمْ حَكِيمٌ في أفْعالِهِ بِهِمْ. وقَدْ أخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: «لَمّا بَعَثَ أهْلُ مَكَّةَ» في فِداءِ أسْراهم بَعَثَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في فِداءِ أبِي العاصِ وبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلادَةٍ فَلَمّا رَآها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَقَّ رِقَّةً مُباشَرَةً وقالَ: إنْ رَأيْتُمْ أنْ تُطْلِقُوا لَها أسِيرَها، وقالَ العَبّاسُ: إنِّي كُنْتُ مُسْلِمًا يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: اللَّهُ أعْلَمُ بِإسْلامِكَ، فَإنْ تَكُنْ كَما تَقُولُ فاللَّهُ يَجْزِيكَ، فافْدِ نَفْسَكَ وابْنَيْ أخَوَيْكَ نَوْفَلَ بْنَ الحارِثِ وعَقِيلَ بْنَ أبِي طالِبٍ وحَلِيفَكَ عُتْبَةَ بْنَ عَمْرٍو، قالَ: ما ذاكَ عِنْدِي يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: فَأيْنَ المالُ الَّذِي دَفَنْتَ أنْتَ وأُمُّ الفَضْلِ ؟ فَقُلْتَ لَها: إنْ أُصِبْتُ فَهَذا المالُ لَبَنِيَّ ؟ فَقالَ: واللَّهِ يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذا لَشَيْءٌ ما عَلِمَهُ غَيْرِي وغَيْرُها، فاحْسِبْ لِي ما أصَبْتُمْ مِنِّي عِشْرُونَ أُوقِيَّةً مِن مالٍ كانَ مَعِي، قالَ: لا أفْعَلُ، فَفَدى نَفْسَهُ وابْنَيْ أخَوَيْهِ وحَلِيفَهُ ونَزَلَتْ: ﴿قُلْ لِمَن في أيْدِيكم مِنَ الأسْرى﴾ الآيَةَ، فَأعْطانِي مَكانَ العِشْرِينَ الأُوقِيَّةِ في الإسْلامِ عِشْرِينَ عَبْدًا كُلَّهم في يَدِهِ مالٌ يَضْرِبُ بِهِ مَعَ ما أرْجُو مِن مَغْفِرَةِ اللَّهِ. وأخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْ أبِي مُوسى «أنَّ العَلاءَ بْنَ الحَضْرَمِيِّ بَعَثَ إلى رَسُولِ اللَّهِ (p-٥٥٢)ﷺ بِمالٍ مِنَ البَحْرِينِ ثَمانِينَ ألْفًا، فَما أتى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مالٌ أكْثَرُ مِنهُ، فَنُشِرَ عَلى حَصِيرٍ، وجاءَ النّاسُ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعْطِيهِمْ، وما كانَ يَوْمَئِذٍ عَدَدٌ ولا وزْنٌ، فَجاءَ العَبّاسُ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أعْطَيْتُ فِدائِي وفِداءَ عَقِيلٍ يَوْمَ بَدْرٍ، أعْطِنِي مِن هَذا المالِ، فَقالَ: خُذْ، فَحَثا في خُمَيْصَتِهِ ثُمَّ ذَهَبَ يَنْصَرِفُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَرَفَعَ رَأسَهُ وقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ ارْفَعْ عَلَيَّ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وذَهَبَ وهو يَقُولُ: أمّا أحَدُ اللَّذَيْنِ وعَدَ اللَّهُ فَقَدْ أنْجَزَنا، وما نَدْرِي ما يَصْنَعُ في الأُخْرى ﴿قُلْ لِمَن في أيْدِيكم مِنَ الأسْرى إنْ يَعْلَمِ اللَّهُ في قُلُوبِكم خَيْرًا يُؤْتِكم خَيْرًا مِمّا أُخِذَ مِنكم ويَغْفِرْ لَكم﴾ فَهَذا خَيْرٌ مِمّا أُخِذَ مِنِّي ولا أدْرِي ما يُصْنَعُ في المَغْفِرَةِ» . والرِّواياتُ في هَذا البابِ كَثِيرَةٌ. وأخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وابْنُ عَساكِرَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، في الآيَةِ قالَ: نَزَلَتْ في الأُسارى يَوْمَ بَدْرٍ مِنهُمُ العَبّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ، ونَوْفَلُ بْنُ الحارِثِ، وعَقِيلُ بْنُ أبِي طالِبٍ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿وإنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ﴾ إنْ كانَ قَوْلُهم كَذِبًا ﴿فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ﴾ فَقَدْ كَفَرُوا وقاتَلُوكَ فَأمْكَنَكَ اللَّهُ مِنهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب