الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ﴿أأنْتُمْ أشَدُّ خَلْقًا أمِ السَّماءُ﴾ أيْ أخَلْقُكم بَعْدَ المَوْتِ وبَعْثُكم أشَدُّ عِنْدِكم وفي تَقْدِيرِكم أمْ خَلْقُ السَّماءِ، والخِطابُ لِكُفّارِ مَكَّةَ، والمَقْصُودُ بِهِ التَّوْبِيخُ لَهم والتَّبْكِيتُ؛ لِأنَّ مَن قَدَرَ عَلى خَلْقِ السَّماءِ الَّتِي لَها هَذا الجَرْمُ العَظِيمُ وفِيها مِن عَجائِبِ الصُّنْعِ وبَدائِعِ القُدْرَةِ ما هو بَيِّنٌ لِلنّاظِرِينَ كَيْفَ يَعْجَزُ عَنْ إعادَةِ الأجْسامِ الَّتِي أماتَها بَعْدَ أنْ خَلَقَها أوَّلَ مَرَّةٍ ؟ ومِثْلُ هَذا قَوْلُهُ: سُبْحانَهُ: ﴿لَخَلْقُ السَّماواتِ والأرْضِ أكْبَرُ مِن خَلْقِ النّاسِ﴾ [غافر: ٥٧] وقَوْلُهُ: ﴿أوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ بِقادِرٍ عَلى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهم﴾ [يس: ٨١] ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ كَيْفِيَّةَ خَلْقِ السَّماءِ فَقالَ: ﴿بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوّاها﴾ أيْ جَعَلَها كالبِناءِ المُرْتَفِعِ فَوْقَ الأرْضِ، ورَفَعَ سَمْكَها: أيْ أعْلاهُ في الهَواءِ. فَقَوْلُهُ: ﴿رَفَعَ سَمْكَها﴾ بَيانٌ لِلْبِناءِ، يُقالُ سَمَكْتُ الشَّيْءَ: أيْ رَفَعْتُهُ في الهَواءِ وسَمُكَ الشَّيْءُ سُمُوكًا: ارْتَفَعَ. قالَ الفَرّاءُ: كُلُّ شَيْءٍ حَمَلَ شَيْئًا مِنَ البِناءِ أوْ غَيْرِهِ فَهو سَمْكٌ، وبِناءٌ مَسْمُوكٌ وسَنامٌ سامِكٌ: أيْ عالٍ. والسُّمُوكاتُ: السَّماواتُ: ومِنهُ قَوْلُ الفَرَزْدَقِ: ؎إنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّماءَ بَنى لَنا بَيْتًا دَعائِمُهُ أعَزُّ وأطْوَلُ قالَ البَغَوِيُّ: رَفَعَ سَمْكَها: أيْ سَقْفَها. قالَ الكِسائِيُّ، والفَرّاءُ، والزَّجّاجُ: تَمَّ الكَلامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿أمِ السَّماءُ بَناها﴾ لِأنَّهُ مِن صِلَةِ السَّماءِ، والتَّقْدِيرُ: أمِ السَّماءُ الَّتِي بَناها، فَحَذَفَ " الَّتِي " ومِثْلُ هَذا الحَذْفِ جائِزٌ. ومَعْنى فَسَوّاها فَجَعَلَها مُسْتَوِيَةَ الخَلْقِ مُعَدَّلَةَ الشَّكْلِ لا تَفاوُتَ فِيها ولا اعْوِجاجَ ولا فُطُورَ ولا شُقُوقَ. ﴿وأغْطَشَ لَيْلَها﴾ الغَطْشُ: الظُّلْمَةُ: أيْ جَعَلَهُ مُظْلِمًا، يُقالُ غَطَشَ اللَّيْلُ وأغْطَشَهُ اللَّهُ، كَما يُقالُ أظْلَمَ اللَّيْلُ وأظْلَمَهُ اللَّهُ، ورَجُلٌ أغْطَشٌ وامْرَأةٌ غَطْشى: لا يَهْتَدِيانِ. قالَ الرّاغِبُ: وأصْلُهُ مِنَ الأغْطَشِ، وهو الَّذِي في عَيْنِهِ عَمَشٌ، ومِنهُ فَلاةٌ غَطْشى لا يُهْتَدى فِيها، والتَّغاطُشُ التَّعامِي. قالَ الأعْشى: ؎ودَهْماءُ بِاللَّيْلِ غَطْشى الفَلا ∗∗∗ ويُؤَنِّسُنِي صَوْتُ قِيادِها وقَوْلُهُ: ؎وغامِرُهم مُدْلَهِمٌّ غَطِشْ يَعْنِي غَمَرَهم سَوادُ اللَّيْلِ، وأضافَ اللَّيْلَ إلى السَّماءِ لِأنَّ اللَّيْلَ يَكُونُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، والشَّمْسُ مُضافَةٌ إلى السَّماءِ ﴿وأخْرَجَ ضُحاها﴾ أيْ أبْرَزَ نَهارَها المُضِيءَ بِإضاءَةِ الشَّمْسِ، وعَبَّرَ عَنِ النَّهارِ بِالضُّحى؛ لِأنَّهُ أشْرَفُ أوْقاتِهِ وأطْيَبُها، وأضافَهُ إلى السَّماءِ لِأنْ يَظْهَرَ بِظُهُورِ الشَّمْسِ، وهي مَنسُوبَةٌ إلى السَّماءِ. ﴿والأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحاها﴾ أيْ بَعْدَ خَلْقِ السَّماءِ، ومَعْنى دَحاها بَسَطَها، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ خَلْقَ الأرْضِ بَعْدَ خَلْقِ السَّماءِ، ولا مُعارَضَةَ بَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ وبَيْنَ ما تَقَدَّمَ في سُورَةِ فُصِّلَتْ مِن قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ﴾ [فصلت: ١١] بَلِ الجَمْعُ بِأنَّهُ سُبْحانَهُ خَلَقَ الأرْضَ أوَّلًا غَيْرَ مَدْحُوَّةٍ ثُمَّ خَلَقَ السَّماءَ ثُمَّ دَحاها الأرْضَ، وقَدْ قَدَّمْنا الكَلامَ عَلى هَذا مُسْتَوْفًى هُنالِكَ، وقَدَّمْنا أيْضًا بَحْثًا في هَذا في أوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكم ما في الأرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩] وذَكَرَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ أنَّ " بَعْدَ " بِمَعْنى " مَعَ " كَما في قَوْلِهِ: ﴿عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ﴾، وقِيلَ " بَعْدَ " بِمَعْنى " قَبْلَ " كَقَوْلِهِ: ﴿ولَقَدْ كَتَبْنا في الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ﴾ أيْ مِن قَبْلِ الذِّكْرِ، والجَمْعُ الَّذِي ذَكَرْناهُ أوْلى، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ وغَيْرُ واحِدٍ، واخْتارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. يُقالُ دَحَوْتُ الشَّيْءَ أدْحُوهُ: إذا بَسَطْتُهُ، ويُقالُ لِعُشِّ النَّعامَةِ أدْحى لِأنَّهُ مَبْسُوطٌ عَلى الأرْضِ، وأنْشَدَ المُبَرِّدُ: ؎دَحاها فَلَمّا رَآها اسْتَوَتْ ∗∗∗ عَلى الماءِ أرْسى عَلَيْها الجِبالا وقالَ أُمَيَّةُ بْنُ أبِي الصَّلْتِ: ؎وبَثَّ الخَلْقَ فِيها إذْ دَحاها ∗∗∗ فَهم قُطّانُها حَتّى التَّنادِي (p-١٥٨٤)وقالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ: ؎وأسْلَمْتُ وجْهِي لِمَن أسْلَمَتْ ∗∗∗ لَهُ الأرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقالا ؎دَحاها فَلَمّا اسْتَوَتْ شَدَّها ∗∗∗ بِأيْدٍ وأرْسى عَلَيْها الجِبالا قَرَأ الجُمْهُورُ بِنَصْبِ الأرْضِ عَلى الِاشْتِغالِ، وقَرَأ الحَسَنُ، وعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ، وأبُو حَيْوَةَ، وأبُو السِّماكِ، وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، ونَصْرُ بْنُ عاصِمٍ بِالرَّفْعِ عَلى الِابْتِداءِ. ﴿أخْرَجَ مِنها ماءَها ومَرْعاها﴾ أيْ فَجَّرَ مِنَ الأرْضِ الأنْهارَ والبِحارَ والعُيُونَ وأخْرَجَ مِنها مَرْعاها: أيِ النَّباتَ الَّذِي يَرْعى، ومَرْعاها مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ: أيْ رَعْيُها، وهو في الأصْلِ مَوْضِعُ الرَّعْيِ، والجُمْلَةُ إمّا بَيانٌ وتَفْسِيرٌ لَدَحاها؛ لِأنَّ السُّكْنى لا تَتَأتّى بِمُجَرَّدِ البَسْطِ بَلْ لا بُدَّ مِن تَسْوِيَةِ أمْرِ المَعاشِ مِنَ المَأْكَلِ والمَشْرَبِ. وإمّا في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ. ﴿والجِبالَ أرْساها﴾ أيْ أثْبَتَها في الأرْضِ وجَعَلَها كالأوْتادِ لِلْأرْضِ لِتَثْبُتَ وتَسْتَقِرَّ وأنْ لا تَمِيدَ بِأهْلِها. قَرَأ الجُمْهُورُ بِنَصْبِ الجِبالِ عَلى الِاشْتِغالِ. وقَرَأ الحَسَنُ، وعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وأبُو حَيْوَةَ، وأبُو السِّماكِ، وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، ونَصْرُ بْنُ عاصِمٍ بِالرَّفْعِ عَلى الِابْتِداءِ، وقِيلَ ولَعَلَّ وجْهَ تَقْدِيمِ ذِكْرِ إخْراجِ الماءِ والمَرْعى عَلى إرْساءِ الجِبالِ مَعَ تَقَدُّمِ الإرْساءِ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمامِ بِأمْرِ المَأْكَلِ والمَشْرَبِ. ﴿مَتاعًا لَكم ولِأنْعامِكُمْ﴾ أيْ مَنفَعَةً لَكم ولِأنْعامِكم مِنَ البَقَرِ والإبِلِ والغَنَمِ. وانْتِصابُ مَتاعًا عَلى المَصْدَرِيَّةِ: أيْ مَتَّعَكم بِذَلِكَ مَتاعًا، أوْ هو مَصْدَرٌ مِن غَيْرِ لَفْظِهِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿أخْرَجَ مِنها ماءَها ومَرْعاها﴾ بِمَعْنى مَتَّعَ بِذَلِكَ، أوْ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لَهُ: أيْ فَعَلَ ذَلِكَ لِأجْلِ التَّمْتِيعِ، وإنَّما قالَ: ﴿لَكم ولِأنْعامِكُمْ﴾ لِأنَّ فائِدَةَ ما ذُكِرَ مِنَ الدَّحْوِ وإخْراجِ الماءِ والمَرْعى كائِنَةٌ لَهم ولِأنْعامِهِمْ، والمَرْعى يَعُمُّ ما يَأْكُلُهُ النّاسُ والدَّوابُّ. ﴿فَإذا جاءَتِ الطّامَّةُ الكُبْرى﴾ أيِ الدّاهِيَةُ العُظْمى الَّتِي تَطِمُّ عَلى سائِرِ الطّامّاتِ. قالَ الحَسَنُ وغَيْرُهُ: وهي النَّفْخَةُ الثّانِيَةُ. وقالَ الضَّحّاكُ وغَيْرُهُ: هي القِيامَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأنَّها تَطِمُّ عَلى كُلِّ شَيْءٍ لِعِظَمِ هَوْلِها. قالَ المُبَرِّدُ: الطّامَّةُ عِنْدَ العَرَبِ الدّاهِيَةُ الَّتِي لا تُسْتَطاعُ، وإنَّما أُخِذَتْ فِيما أحْسَبُ مِن قَوْلِهِمْ: طَمَّ الفَرَسُ طَمِيمًا: إذا اسْتَفْرَغَ جُهْدَهُ في الجَرْيِ، وطَمَّ الماءُ: إذا مَلَأ النَّهْرَ كُلَّهُ. وقالَ غَيْرُهُ: هو مِن طَمَّ السَّيْلُ الرَّكِيَّةَ: أيْ دَفَنَها، والَطْمُّ الدَّفْنُ. قالَ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ: الطّامَّةُ الكُبْرى هي الَّتِي تُسْلِمُ أهْلَ الجَنَّةِ إلى الجَنَّةِ وأهْلَ النّارِ إلى النّارِ، والفاءُ لِلدَّلالَةِ عَلى تَرْتِيبِ ما بَعْدَها عَلى ما قَبْلَها. وجَوابُ " إذا " قِيلَ هو قَوْلُهُ: ﴿فَأمّا مَن طَغى﴾ وقِيلَ مَحْذُوفٌ: أيْ فَإنَّ الأمْرَ كَذَلِكَ، أوْ عايَنُوا، أوْ عَلِمُوا أوْ أُدْخِلَ أهْلُ النّارِ النّارَ وأهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ. وقالَ أبُو البَقاءِ: العامِلُ فِيها جَوابُها، وهو مَعْنى ﴿يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ﴾ فَإنَّهُ مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ: أيْ أعْنِي يَوْمَ يَتَذَكَّرُ، أوْ يَوْمَ يَتَذَكَّرُ يَكُونُ كَيْتَ وكَيْتَ. وقِيلَ إنَّ الظَّرْفَ بَدَلٌ مِن ( إذا )، وقِيلَ هو بَدَلٌ مِنَ الطّامَّةِ الكُبْرى، ومَعْنى تَذَكَّرَ الإنْسانُ ما سَعى: أنَّهُ يَتَذَكَّرُ ما عَمِلَهُ مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ؛ لِأنَّهُ يُشاهِدُهُ مُدَوَّنًا في صَحائِفِ عَمَلِهِ، و" ما " مَصْدَرِيَّةٌ، أوْ مَوْصُولَةٌ. ﴿وبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِمَن يَرى﴾ مَعْطُوفٌ عَلى جاءَتْ، ومَعْنى بُرِّزَتْ: أُظْهِرَتْ إظْهارًا لا يَخْفى عَلى أحَدٍ. قالَ مُقاتِلٌ: يُكْشَفُ عَنْها الغِطاءُ فَيَنْظُرُ إلَيْها الخَلْقُ، وقِيلَ لِمَن يَرى مِنَ الكُفّارِ، لا مِنَ المُؤْمِنِينَ، والظّاهِرُ أنْ تَبْرُزَ لِكُلِّ راءٍ، فَأمّا المُؤْمِنُ فَيَعْرِفُ بِرُؤْيَتِها قَدْرَ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ بِالسَّلامَةِ مِنها، وأمّا الكافِرُ فَيَزْدادُ غَمًّا إلى غَمِّهِ وحَسْرَةً إلى حَسْرَتِهِ. قَرَأ الجُمْهُورُ لِمَن يَرى بِالتَّحْتِيَّةِ، وقَرَأتْ عائِشَةُ ومالِكُ بْنُ دِينارٍ، وعِكْرِمَةُ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِالفَوْقِيَّةِ: أيْ لِمَن تَراهُ الجَحِيمُ، أوْ لِمَن تَراهُ أنْتَ يا مُحَمَّدُ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ " لِمَن رَأى " عَلى صِيغَةِ الفِعْلِ الماضِي. ﴿فَأمّا مَن طَغى﴾ أيْ جاوَزَ الحَدَّ في الكُفْرِ والمَعاصِي. ﴿وآثَرَ الحَياةَ الدُّنْيا﴾ أيْ قَدَّمَها عَنِ الآخِرَةِ ولَمْ يَسْتَعِدَّ لَها ولا عَمِلَ عَمَلَها ﴿فَإنَّ الجَحِيمَ هي المَأْوى﴾ أيْ مَأْواهُ، والألِفُ واللّامُ عِوَضٌ عَنِ المُضافِ إلَيْهِ، والمَعْنى: أنَّها مَنزِلُهُ الَّذِي يَنْزِلُهُ ومَأْواهُ الَّذِي يَأْوِي إلَيْهِ لا غَيْرُها. ثُمَّ ذَكَرَ القِسْمَ الثّانِي مِنَ القَسَمَيْنِ فَقالَ: ﴿وأمّا مَن خافَ مَقامَ رَبِّهِ﴾ أيْ حَذِرَ مَقامَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ يَوْمَ القِيامَةِ. قالَ الرَّبِيعُ: مَقامَ يَوْمِ الحِسابِ. قالَ قَتادَةُ: يَقُولُ إنَّ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ مَقامًا قَدْ خافَهُ المُؤْمِنُونَ. وقالَ مُجاهِدٌ: هو خَوْفُهُ في الدُّنْيا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ عِنْدَ مُواقَعَةِ الذَّنْبِ فَيُقْلِعُ عَنْهُ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿ولِمَن خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ﴾ والأوَّلُ أوْلى ﴿ونَهى النَّفْسَ عَنِ الهَوى﴾ أيْ زَجَرَها عَنِ المِيلِ إلى المَعاصِي والمَحارِمِ الَّتِي تَشْتَهِيها. قالَ مُقاتِلٌ: هو الرَّجُلُ يَهُمُّ بِالمَعْصِيَةِ فَيَذْكُرُ مَقامَهُ لِلْحِسابِ فَيَتْرُكُها. ﴿فَإنَّ الجَنَّةَ هي المَأْوى﴾ أيِ المَنزِلُ الَّذِي يَنْزِلُهُ والمَكانُ الَّذِي يَأْوِي إلَيْهِ لا غَيْرُها. ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أيّانَ مُرْساها﴾ أيْ مَتى وُقُوعُها وقِيامُها. قالَ الفَرّاءُ: أيْ مُنْتَهى قِيامِها كَرُسُوِّ السَّفِينَةِ. قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: ومَرْسى السَّفِينَةِ حِينَ تَنْتَهِي، والمَعْنى: يَسْألُونَكَ عَنِ السّاعَةِ مَتى يُقِيمُها اللَّهُ، وقَدْ مَضى بَيانُ هَذا في سُورَةِ الأعْرافِ. ﴿فِيمَ أنْتَ مِن ذِكْراها﴾ أيْ في أيُّ شَيْءٍ أنْتَ يا مُحَمَّدُ مِن ذِكْرِ القِيامَةِ والسُّؤالِ عَنْها، والمَعْنى: لَسْتَ في شَيْءٍ مِن عِلْمِها وذِكْراها إنَّما يَعْلَمُها اللَّهُ سُبْحانَهُ، وهو إنْكارٌ ورَدٌّ لِسُؤالِ المُشْرِكِينَ عَنْها: أيْ فِيمَ أنْتَ مِن ذَلِكَ حَتّى يَسْألُونَكَ عَنْهُ ولَسْتَ تَعْلَمُهُ. ﴿إلى رَبِّكَ مُنْتَهاها﴾ أيْ مُنْتَهى عِلْمِها فَلا يُوجَدُ عِلْمُها عِنْدَ غَيْرِهِ، وهَذا كَقَوْلِهِ: ﴿قُلْ إنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي﴾ [الأعراف: ١٨٧] وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ﴾ [لقمان: ٣٤] فَكَيْفَ يَسْألُونَكَ عَنْها ويَطْلُبُونَ مِنكَ بَيانَ وقْتِ قِيامِها. ﴿إنَّما أنْتَ مُنْذِرُ مَن يَخْشاها﴾ أيْ مُخَوِّفٌ لِمَن يَخْشى قِيامَ السّاعَةِ، وذَلِكَ وظِيفَتُكَ لَيْسَ عَلَيْكَ غَيْرُهُ مِنَ الإخْبارِ بِوَقْتِ قِيامِ السّاعَةِ ونَحْوِهِ مِمّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وخَصَّ الإنْذارَ بِمَن يَخْشى، لِأنَّهُمُ المُنْتَفِعُونَ بِالإنْذارِ وإنْ كانَ مُنْذِرًا لِكُلِّ مُكَلَّفٍ مِن مُسْلِمٍ وكافِرٍ. قَرَأ الجُمْهُورُ بِإضافَةِ مُنْذِرٍ إلى ما بَعْدَهُ. وقَرَأ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ، وأبُو جَعْفَرٍ، وطَلْحَةُ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، وشَيْبَةُ، والأعْرَجُ، وحُمَيْدٌ بِالتَّنْوِينِ، ورُوِيَتْ هَذِهِ (p-١٥٨٥)القِراءَةُ عَنْ أبِي عَمْرٍو. قالَ الفَرّاءُ: والتَّنْوِينُ وتَرْكُهُ في ( مُنْذِرُ ) صَوابٌ كَقَوْلِهِ: ﴿بالِغُ أمْرِهِ﴾ [الطلاق: ٣] و﴿مُوهِنُ كَيْدِ الكافِرِينَ﴾ [الأنفال: ١٨] . قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: يَجُوزُ أنْ تَكُونَ الإضافَةُ لِلْماضِي، نَحْوَ ضارِبُ زَيْدٍ أمْسِ. ﴿كَأنَّهم يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إلّا عَشِيَّةً أوْ ضُحاها﴾ أيْ إلّا قَدْرَ آخِرِ نَهارٍ أوْ أوَّلِهِ، أوْ قَدْرَ الضُّحى الَّذِي يَلِي تِلْكَ العَشِيَّةَ، والمُرادُ تَقْلِيلُ مُدَّةِ الدُّنْيا، كَما قالَ: ﴿لَمْ يَلْبَثُوا إلّا ساعَةً مِن نَهارٍ﴾ [الأحقاف: ٣٥] وقِيلَ لَمْ يَلْبَثُوا في قُبُورِهِمْ إلّا عَشِيَّةً أوْ ضُحاها. قالَ الفَرّاءُ، والزَّجّاجُ: المُرادُ بِإضافَةِ الضُّحى إلى العَشِيَّةِ إضافَتُهُ إلى يَوْمِ العَشِيَّةِ عَلى عادَةِ العَرَبِ، يَقُولُونَ: آتِيكَ الغَداةَ أوْ عَشِيَّتَها، وآتِيكَ العَشِيَّةَ أوْ غَداتَها فَتَكُونُ العَشِيَّةُ في مَعْنى آخِرِ النَّهارِ، والغَداةُ في مَعْنى أوَّلِ النَّهارِ. ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎نَحْنُ صَبَحْنا عامِرًا في دارِها ∗∗∗ جُرْدًا تَعادى طَرَفَيْ نَهارِها ؎عَشِيَّةَ الهِلالِ أوْ سِرارَها والجُمْلَةُ تَقْرِيرٌ لِما يَدُلُّ عَلَيْهِ الإنْذارُ مِن سُرْعَةِ مَجِيءِ المُنْذِرِ بِهِ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿رَفَعَ سَمْكَها﴾ قالَ: بَناها ﴿وأغْطَشَ لَيْلَها﴾ قالَ: أظْلَمَ لَيْلَها. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ ﴿وأغْطَشَ لَيْلَها﴾ قالَ: وأظْلَمَ لَيْلَها ﴿وأخْرَجَ ضُحاها﴾ قالَ: أخْرَجَ نَهارَها. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا ﴿والأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحاها﴾ قالَ: مَعَ ذَلِكَ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا أنَّ رَجُلًا قالَ لَهُ: آيَتانِ في كِتابِ اللَّهِ تُخالِفُ إحْداهُما الأُخْرى، قالَ: إنَّما أُوتِيتَ مِن قِبَلِ رَأْيِكَ، قالَ: اقْرَأْ ﴿قُلْ أئِنَّكم لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ في يَوْمَيْنِ﴾ حَتّى بَلَغَ ﴿ثُمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ﴾ [فصلت: ٩ - ١١] وقَوْلُهُ: ﴿والأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحاها﴾ . قالَ: خَلَقَ اللَّهُ الأرْضَ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السَّماءَ، ثُمَّ دَحى الأرْضَ بَعْدَ ما خَلَقَ السَّماءَ. وإنَّما قَوْلُهُ: دَحاها بَسَطَها. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا قالَ: دَحاها أنْ أخْرَجَ مِنها الماءَ والمَرْعى وشَقَّقَ فِيها الأنْهارَ وجَعَلَ فِيها الجِبالَ والرِّمالَ والسُّبُلَ والآكامَ وما بَيْنَهُما في يَوْمَيْنِ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا قالَ: الطّامَّةُ مِن أسْماءِ يَوْمِ القِيامَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ كانَ النَّبِيُّ ﷺ يَسْألُ عَنِ السّاعَةِ فَنَزَلَتْ ﴿فِيمَ أنْتَ مِن ذِكْراها﴾ . وأخْرَجَ البَزّارُ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: ما زالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَسْألُ عَنِ السّاعَةِ حَتّى أنْزِلَ اللَّهُ ﴿فِيمَ أنْتَ مِن ذِكْراها﴾ ﴿إلى رَبِّكَ مُنْتَهاها﴾ فانْتَهى فَلَمْ يَسْألْ عَنْها. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والنَّسائِيُّ، وابْنُ جَرِيرٍ، والطَّبَرانِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ طارِقِ بْنِ شِهابٍ قالَ: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُكْثِرُ ذِكْرَ السّاعَةِ حَتّى نَزَلَتْ ﴿فِيمَ أنْتَ مِن ذِكْراها﴾ ﴿إلى رَبِّكَ مُنْتَهاها﴾ فَكَفَّ عَنْها» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. قالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ: أيْ مُشْرِكِي مَكَّةَ سَألُوا النَّبِيَّ ﷺ فَقالُوا: مَتى السّاعَةُ اسْتِهْزاءً مِنهم ؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿يَسْألُونَكَ عَنِ السّاعَةِ أيّانَ مُرْساها﴾ يَعْنِي مَجِيئَها ﴿فِيمَ أنْتَ مِن ذِكْراها﴾ يَعْنِي ما أنْتَ مِن عِلْمِها يا مُحَمَّدُ ﴿إلى رَبِّكَ مُنْتَهاها﴾ يَعْنِي مُنْتَهى عِلْمِها. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: «كانَتِ الأعْرابُ إذا قَدِمُوا عَلى النَّبِيِّ ﷺ سَألُوهُ عَنِ السّاعَةِ فَيَنْظُرُ إلى أحْدَثِ إنْسانٍ مِنهم فَيَقُولُ: إنَّ يَعِشْ هَذا قامَتْ عَلَيْكم ساعَتَكم» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب