الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ﴿إنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازًا﴾ هَذا شُرُوعٌ في بَيانِ حالِ المُؤْمِنِينَ، وما أعَدَّ اللَّهُ لَهم مِنَ الخَيْرِ بَعْدَ بَيانِ حالِ الكافِرِينَ وما أعَدَّ اللَّهُ لَهم مِنَ الشَّرِّ. والمَفازُ مَصْدَرٌ بِمَعْنى الفَوْزِ والظَّفَرِ بِالنِّعْمَةِ والمَطْلُوبِ والنَّجاةِ مِنَ النّارِ. ومِنهُ قِيلَ لِلْفَلاةِ مَفازَةٌ تَفاؤُلًا بِالخَلاصِ مِنها. ثُمَّ فَسَّرَ سُبْحانَهُ هَذا المَفازَ فَقالَ: ﴿حَدائِقَ وأعْنابًا﴾ وانْتِصابُهُما عَلى أنَّهُما بَدَلٌ مِن ﴿مَفازًا﴾ بَدَلُ اشْتِمالٍ، أوْ بَدَلَ كُلٍّ مِن كُلٍّ عَلى طَرِيقِ المُبالَغَةِ بِجَعْلِ نَفْسِ هَذِهِ الأشْياءِ مَفازَةً، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ النَّصْبُ بِإضْمارِ أعْنِي، وإذا كانَ ﴿مَفازًا﴾ بِمَعْنى الفَوْزِ، فَيُقَدَّرُ مُضافٌ مَحْذُوفٌ أيْ: فَوْزُ حَدائِقَ، وهي جَمْعُ حَدِيقَةٍ: وهي البُسْتانُ المَحُوطُ عَلَيْهِ، والأعْنابُ جَمْعُ عِنَبٍ: أيْ كُرُومُ أعْنابٍ. ﴿وكَواعِبَ أتْرابًا﴾ الكَواعِبُ جَمْعُ كاعِبَةٍ: وهي النّاهِدَةُ، يُقالُ: كَعَبَتِ الجارِيَةُ تَكْعَبُ تَكْعِيبًا وكُعُوبًا، ونَهَدَتْ تَنْهَدُ نُهُودًا، والمُرادُ أنَّهم نِساءٌ كَواعِبُ تَكَعَّبَتْ ثَدْيُهُنَّ وتَفَلَّكَتْ: أيْ صارَتْ ثَدْيُهُنَّ كالكَعْبِ في صُدُورِهِنَّ. قالَ الضَّحّاكُ: الكَواعِبُ: العَذارى. قالَ قَيْسُ بْنُ عاصِمٍ: ؎وكَمْ مِن حَصانٍ قَدْ حَوَيْنا كَرِيمَةً وكَمْ كاعِبٍ لَمْ تَدْرِ ما البُؤْسُ مُعْصِرِ وقالَ عُمَرُ بْنُ أبِي رَبِيعَةَ: ؎وكانَ مِجَنِّي دُونَ ما كُنْتُ أتَّقِي ∗∗∗ ثَلاثُ شُخُوصٍ كاعِباتٌ ومُعْصِرُ والأتْرابُ: الأقْرانُ في السِّنِّ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ في سُورَةِ البَقَرَةِ. ﴿وكَأْسًا دِهاقًا﴾ أيْ مُمْتَلِئَةً. قالَ الحَسَنُ، وقَتادَةُ وابْنُ زَيْدٍ: أيْ مُتْرَعَةٌ مَمْلُوءَةٌ، يُقالُ أدْهَقْتُ الكَأْسَ: أيْ مَلَأْتُها، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎ألا اسْقِنِي صَرْفًا سَقاكَ السّاقِي ∗∗∗ مِن مائِها بِكَأْسِكَ الدِّهاقِ وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وعِكْرِمَةُ، ومُجاهِدٌ ﴿دِهاقًا﴾ مُتَتابِعَةً يَتْبَعُ بَعْضُها بَعْضًا. وقالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ ﴿دِهاقًا﴾ صافِيَةً، والمُرادُ بِالكَأْسِ الإناءُ المَعْرُوفُ، ولا يُقالُ لَهُ الكَأْسُ إلّا إذا كانَ فِيهِ الشَّرابُ. ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا ولا كِذّابًا﴾ أيْ لا يَسْمَعُونَ في الجَنَّةِ لَغْوًا، وهو الباطِلُ مِنَ الكَلامِ، ولا كِذّابًا: أيْ ولا يُكَذِّبُ بَعْضُهم بَعْضًا. قَرَأ الجُمْهُورُ كِذّابًا بِالتَّشْدِيدِ، وقَرَأ الكِسائِيُّ هُنا بِالتَّخْفِيفِ ووافَقَ الجَماعَةُ عَلى التَّشْدِيدِ في قَوْلِهِ: ﴿وكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذّابًا﴾ المُتَقَدِّمِ في هَذِهِ السُّورَةِ لِلتَّصْرِيحِ بِفِعْلِهِ هُناكَ، وقَدْ قَدَّمْنا الخِلافَ في كِذّابًا هَلْ هو مِن مَصادِرِ التَّفْعِيلِ أوْ مِن مَصادِرِ المُفاعَلَةِ ؟ . ﴿جَزاءً مِن رَبِّكَ﴾ أيْ جازاهم بِما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ جَزاءً. قالَ الزَّجّاجُ: (p-١٥٧٨)المَعْنى جَزاهم جَزاءً، وكَذا عَطاءٌ أيْ وأعْطاهم عَطاءً حِسابًا قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: كافِيًا. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: كَثِيرًا، يُقالُ أحَسَبْتُ فُلانًا: أيْ أكْثَرْتُ لَهُ العَطاءَ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎ونُعْطِي ولِيدَ الحَيِّ إنْ كانَ جائِعًا ∗∗∗ ونُحْسِبُهُ إنْ كانَ لَيْسَ بِجائِعِ قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أيْ نُعْطِيهِ حَتّى يَقُولَ حَسْبِي. قالَ الزَّجّاجُ: حِسابًا: أيْ ما يَكْفِيهِمْ. قالَ الأخْفَشُ: يُقالُ أحْسَبَنِي كَذا: أيْ كَفانِي. قالَ الكَلْبِيُّ: حاسَبَهم فَأعْطاهم بِالحَسَنَةِ عَشْرًا. وقالَ مُجاهِدٌ: حِسابًا لِما عَمِلُوهُ، فالحِسابُ بِمَعْنى القَدْرِ: أيْ يُقَدِّرُ ما وجَبَ لَهُ في وعْدِ الرَّبِّ سُبْحانَهُ، فَإنَّهُ وعَدَ لِلْحَسَنَةِ عَشْرًا، ووَعَدَ لِقَوْمٍ سَبْعَمِائَةِ ضِعْفٍ، وقَدْ وعَدَ لِقَوْمٍ جَزاءً لا نِهايَةَ لَهُ ولا مِقْدارَ كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّما يُوَفّى الصّابِرُونَ أجْرَهم بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ [الزمر: ١٠] وقَرَأ أبُو هاشِمٍ " حَسّابًا " بِفَتْحِ الحاءِ وتَشْدِيدِ السِّينِ: أيْ كَفافًا. قالَ الأصْمَعِيُّ: تَقُولُ العَرَبُ: حَسَّبْتُ الرَّجُلَ بِالتَّشْدِيدِ: إذا أكْرَمْتُهُ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎إذا أتاهُ ضَيْفُهُ يُحْسِبُهُ وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ " حِسانًا " بِالنُّونِ. ﴿رَبِّ السَّماواتِ والأرْضِ وما بَيْنَهُما الرَّحْمَنِ﴾ . قَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ كَثِيرٍ، وزَيْدٌ عَنْ يَعْقُوبَ، والمُفَضَّلِ عَنْ عاصِمٍ بِرَفْعِ ( رَبُّ ) و( الرَّحْمَنُ ) عَلى أنَّ " رَبُّ " مُبْتَدَأٌ و" الرَّحْمَنُ " خَبَرُهُ أوْ عَلى أنَّ " رَبُّ " خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُقَدَّرٍ: أيْ هو رَبُّ، و( الرَّحْمَنُ ) صِفَتُهُ، و( لا يَمْلِكُونَ ) خَبَرُ " رَبُّ " أوْ عَلى أنَّ " رَبُّ " مُبْتَدَأٌ، و" الرَّحْمَنُ " مُبْتَدَأٌ ثانٍ، و" لا يَمْلِكُونَ " خَبَرُ المُبْتَدَأِ الثّانِي، والجُمْلَةُ خَبَرُ المُبْتَدَأِ الأوَّلِ. وقَرَأ يَعْقُوبُ في رِوايَةٍ عَنْهُ وابْنُ عامِرٍ، وعاصِمٌ في رِوايَةٍ عَنْهُ بِخَفْضِهِما عَلى أنَّ " رَبُّ " بَدَلٌ مِن " رَبِّكَ " و" الرَّحْمَنُ " صِفَةٌ لَهُ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ بِخَفْضِ الأوَّلِ عَلى البَدَلِ، ورَفْعِ الثّانِي عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ: أيْ هو الرَّحْمَنُ، واخْتارَ هَذِهِ القِراءَةَ أبُو عُبَيْدَةَ وقالَ هَذِهِ القِراءَةَ أعْدَلُها، فَخَفَضَ " رَبِّ " لِقُرْبِهِ مِن رَبِّكَ، فَيَكُونُ نَعْتًا لَهُ ورَفَعَ " الرَّحْمَنُ " لِبَعْدِهِ مِنهُ عَلى الِاسْتِئْنافِ، وخَبَرُهُ ﴿لا يَمْلِكُونَ مِنهُ خِطابًا﴾ أيْ لا يَمْلِكُونَ أنْ يَسْألُوا إلّا فِيما أذِنَ لَهم فِيهِ، وقالَ الكِسائِيُّ: لا يَمْلِكُونَ مِنهُ خِطابًا بِالشَّفاعَةِ إلّا بِإذْنِهِ، وقِيلَ الخِطابُ الكَلامُ: أيْ لا يَمْلِكُونَ أنْ يُخاطِبُوا الرَّبَّ سُبْحانَهُ إلّا بِإذْنِهِ. دَلِيلُهُ ﴿لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إلّا بِإذْنِهِ﴾ [هود: ١٠٥] . وقِيلَ أرادَ الكُفّارَ، وأمّا المُؤْمِنُونَ فَيَشْفَعُونَ. ويَجُوزُ أنَّ تَكُونَ هَذِهِ الجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ عَلى ما تَقَدَّمَ بَيانُهُ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً مُقَرِّرَةً لِما تُفِيدُهُ الرُّبُوبِيَّةُ مِنَ العَظَمَةِ والكِبْرِياءِ. ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ والمَلائِكَةُ صَفًّا﴾ الظَّرْفُ مُنْتَصِبٌ بِـ ( لا يَتَكَلَّمُونَ ) أوْ بِـ ( لا يَمْلِكُونَ ) و( صَفًّا ) مُنْتَصِبٌ عَلى الحالِ: أيْ مُصْطَفِينَ، أوْ عَلى المَصْدَرِيَّةِ: أيْ يَصُفُّونَ صَفًّا. وقَوْلُهُ: لا يَتَكَلَّمُونَ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ، أوْ مُسْتَأْنِفٌ لِتَقْرِيرِ ما قَبْلَهُ. واخْتُلِفَ في الرُّوحِ، فَقِيلَ إنَّهُ مَلَكٌ مِنَ المَلائِكَةِ أعْظَمُ مِنَ السَّماواتِ السَّبْعِ ومِنَ الأرْضِينَ السَّبْعِ ومِنَ الجِبالِ، وقِيلَ هو جِبْرِيلُ. قالَهُ الشَّعْبِيُّ، والضَّحّاكُ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. وقِيلَ الرَّوْحُ جُنْدٌ مِن جُنُودِ اللَّهِ لَيْسُوا مَلائِكَةً. قالَهُ أبُو صالِحٍ، ومُجاهِدٌ، وقِيلَ هم أشْرافُ المَلائِكَةِ قالَهُ مُقاتِلُ بْنُ حَيّانَ. وقِيلَ هم حَفَظَةٌ عَلى المَلائِكَةِ قالَهُ ابْنُ أبِي نَجِيحٍ. وقِيلَ هم بَنُو آدَمَ. قالَهُ الحَسَنُ، وقَتادَةُ. وقِيلَ هم أرْواحُ بَنِي آدَمَ تَقُومُ صَفًّا وتَقُومُ المَلائِكَةُ صَفًّا، وذَلِكَ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ قَبْلَ أنْ تُرَدَّ إلى الأجْسامِ قالَهُ عَطِيَّةُ العَوْفِيُّ. وقِيلَ إنَّهُ القُرْآنُ قالَهُ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ. وقَوْلُهُ: ﴿إلّا مَن أذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بَدَلًا مِن ضَمِيرِ ﴿يَتَكَلَّمُونَ﴾ وأنْ يَكُونَ مَنصُوبًا عَلى أصْلِ الِاسْتِثْناءِ، والمَعْنى: لا يَشْفَعُونَ لِأحَدٍ إلّا مَن أذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ بِالشَّفاعَةِ، أوْ لا يَتَكَلَّمُونَ إلّا في حَقِّ مَن أذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وكانَ ذَلِكَ الشَّخْصُ مِمَّنْ قالَ صَوابًا قالَ الضَّحّاكُ، ومُجاهِدٌ: ﴿صَوابًا﴾ يَعْنِي حَقًّا. وقالَ أبُو صالِحٍ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. وأصِلُ الصَّوابِ السَّدادُ مِنَ القَوْلِ والفِعْلِ. قِيلَ: لا يَتَكَلَّمُونَ: يَعْنِي المَلائِكَةُ والرُّوحُ الَّذِينَ قامُوا صَفًّا هَيْبَةً وإجْلالًا إلّا مَن أذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ مِنهم في الشَّفاعَةِ، وهم قَدْ قالُوا صَوابًا. قالَ الحَسَنُ: إنَّ الرُّوحَ تَقُومُ يَوْمَ القِيامَةِ لا يَدْخُلُ أحَدٌ الجَنَّةَ إلّا بِالرُّوحِ، ولا النّارَ إلّا بِالعَمَلِ. قالَ الواحِدِيُّ: فَهم لا يَتَكَلَّمُونَ: يَعْنِي الخَلْقَ كُلُّهم إلّا مَن أذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وهُمُ المُؤْمِنُونَ والمَلائِكَةُ، وقالَ في الدُّنْيا صَوابًا: أيْ شَهِدَ بِالتَّوْحِيدِ. والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكَ إلى يَوْمِ قِيامِهِمْ عَلى تِلْكَ الصِّفَةِ، وهو مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ ﴿اليَوْمُ الحَقُّ﴾ أيِ الكائِنُ الواقِعِ المُتَحَقَّقُ ﴿فَمَن شاءَ اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ مَآبًا﴾ أيْ مَرْجِعًا يَرْجِعُ إلَيْهِ بِالعَمَلِ الصّالِحِ؛ لِأنَّهُ إذا عَمِلَ خَيْرًا قَرَّبَهُ إلى اللَّهِ، وإذا عَمِلَ شَرًّا باعَدَهُ مِنهُ، ومَعْنى إلى رَبِّهِ إلى ثَوابِ رَبِّهِ قالَ قَتادَةُ: مَآبًا: سَبِيلًا. ثُمَّ زادَ سُبْحانَهُ في تَخْوِيفِ الكُفّارِ فَقالَ: ﴿إنّا أنْذَرْناكم عَذابًا قَرِيبًا﴾ يَعْنِي العَذابَ في الآخِرَةِ، وكُلُّ ما هو آتٍ فَهو قَرِيبُ. ومِثْلُهُ قَوْلُهُ: ﴿كَأنَّهم يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إلّا عَشِيَّةً أوْ ضُحاها﴾ [النازعات: ٤٦] كَذا قالَ الكَلْبِيُّ وغَيْرُهُ. وقالَ قَتادَةُ: هو عَذابُ الدُّنْيا لِأنَّهُ أقْرَبُ العَذابَيْنِ. قالَ مُقاتِلٌ: هو قَتْلُ قُرَيْشٍ بِبَدْرٍ، والأوَّلُ أوْلى لِقَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ المَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ﴾ فَإنَّ الظَّرْفَ إمّا بَدَلٌ مِن عَذابٍ أوْ ظَرْفٌ لِمُضْمَرٍ هو صِفَةٌ لَهُ: أيْ عَذابًا كائِنًا ﴿يَوْمَ يَنْظُرُ المَرْءُ﴾ أيْ يُشاهَدُ ما قَدَّمَهُ مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ، و" ما " مَوْصُولَةٌ أوِ اسْتِفْهامِيَّةٌ. قالَ الحَسَنُ: والمَرْءُ هُنا هو المُؤْمِنُ: أيْ يَجِدُ لِنَفْسِهِ عَمَلًا، فَأمّا الكافِرُ فَلا يَجِدُ لِنَفْسِهِ عَمَلًا فَيَتَمَنّى أنْ يَكُونَ تُرابًا، وقِيلَ المُرادُ بِهِ الكافِرُ عَلى العُمُومِ، وقِيلَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ، وعُقْبَةُ بْنُ أبِي مُعَيْطٍ، والأوَّلُ أوْلى لِقَوْلِهِ: ﴿ويَقُولُ الكافِرُ يالَيْتَنِي كُنْتُ تُرابًا﴾ فَإنَّ الكافِرَ واقِعٌ في مُقابَلَةِ المَرْءِ، والمُرادُ جِنْسُ الكافِرِ يَتَمَنّى أنْ يَكُونَ تُرابًا لِما يُشاهِدُهُ مِمّا قَدْ أعَدَّهُ اللَّهُ لَهُ مِن أنْواعِ العَذابِ، والمَعْنى: أنَّهُ يَتَمَنّى أنَّهُ كانَ تُرابًا في الدُّنْيا فَلَمْ يُخْلَقْ، أوْ تُرابًا يَوْمَ القِيامَةِ. وقِيلَ المُرادُ بِالكافِرِ أبُو جَهْلٍ، وقِيلَ أبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الأسَدِ المَخْزُومِيُّ، وقِيلَ إبْلِيسُ، والأوَّلُ أوْلى اعْتِبارًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ، ولا يُنافِيهِ خُصُوصُ السَّبَبِ كَما تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ (p-١٥٧٩)والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازًا﴾ قالَ: مُنْتَزَهًا وكَواعِبَ قالَ: نَواهِدَ أتْرابًا قالَ: مُسْتَوِياتٍ وكَأْسًا دِهاقًا قالَ: مُمْتَلِئًا. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وكَأْسًا دِهاقًا﴾ قالَ: هي المُمْتَلِئَةُ المُتْرَعَةُ المُتَتابِعَةُ، ورُبَّما سَمِعْتُ العَبّاسَ يَقُولُ: يا غُلامُ اسْقِنا وادْهَقْ لَنا. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ ﴿دِهاقًا﴾ قالَ دِراكًا. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ أيْضًا قالَ: إذا كانَ فِيها خَمْرٌ فَهي كَأْسٌ، وإذا لَمْ يَكُنْ فِيها خَمْرٌ فَلَيْسَ بِكَأْسٍ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ في العَظَمَةِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أيْضًا أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «الرُّوحُ جُنْدٌ مِن جُنُودِ اللَّهِ لَيْسُوا بِمَلائِكَةٍ لَهم رُءُوسٌ وأيْدٍ وأرْجُلٌ ثُمَّ قَرَأ ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ والمَلائِكَةُ صَفًّا﴾ قالَ: هَؤُلاءِ جُنْدٌ وهَؤُلاءِ جُنْدٌ» . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، والبَيْهَقِيُّ في الأسْماءِ والصِّفاتِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ﴾ قالَ: هو مَلَكٌ مِن أعْظَمِ المَلائِكَةِ خَلْقًا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: الرُّوحُ في السَّماءِ الرّابِعَةِ وهو أعْظَمُ مِنَ السَّماواتِ والجِبالِ ومِنَ المَلائِكَةِ يُسَبِّحُ كُلَّ يَوْمٍ اثْنَيْ عَشَرَ ألْفِ تَسْبِيحَةٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مِن كُلِّ تَسْبِيحَةٍ مَلَكًا مِنَ المَلائِكَةِ يَجِيءُ يَوْمَ القِيامَةِ صَفًّا واحِدًا. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: إنَّ جِبْرِيلَ يَوْمَ القِيامَةِ لَقائِمٌ بَيْنَ يَدَيِ الجَبّارِ تَرْعَدُ فَرائِصُهُ فَرَقًا مِن عَذابِ اللَّهِ، يَقُولُ: سُبْحانَكَ لا إلَهَ إلّا أنْتَ ما عَبَدْناكَ حَقَّ عِبادَتِكَ، ما بَيْنَ مَنكِبَيْهِ كَما بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، أما سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّهِ ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ والمَلائِكَةُ صَفًّا﴾ . وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في الأسْماءِ والصِّفاتِ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ﴾ قالَ: يَعْنِي حِينَ تَقُومُ أرْواحُ النّاسِ مِنَ المَلائِكَةِ فِيما بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ قَبْلَ أنْ تُرَدُّ الرُّوحُ إلى الأجْسادِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ في الأسْماءِ والصِّفاتِ عَنْهُ أيْضًا وقالَ صَوابًا قالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والبَيْهَقِيُّ في البَعْثِ والنُّشُورِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: يُحْشَرُ الخَلْقُ كُلُّهم يَوْمَ القِيامَةِ: البَهائِمُ والدَّوابُّ والطَّيْرُ وكُلُّ شَيْءٍ، فَيَبْلُغُ مِن عَذابِ اللَّهِ أنْ يُؤْخَذَ لِلْجَمّاءِ مِنَ القُرَناءِ، ثُمَّ يَقُولُ: كُونِي تُرابًا، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ الكافِرُ ﴿يالَيْتَنِي كُنْتُ تُرابًا﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب