الباحث القرآني

﴿انْطَلِقُوا إلى ما كُنْتُمْ﴾ هو بِتَقْدِيرِ القَوْلِ: أيْ يُقالُ لَهم تَوْبِيخًا وتَقْرِيعًا ﴿انْطَلِقُوا إلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ في الدُّنْيا، تَقُولُ لَهم ذَلِكَ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ: أيْ سِيرُوا إلى ما كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِهِ مِنَ العَذابِ، وهو عَذابُ النّارِ ﴿انْطَلِقُوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ﴾ أيْ إلى ظِلٍّ مِن دُخانِ جَهَنَّمَ قَدْ سَطَعَ، ثُمَّ افْتَرَقَ ثَلاثَ فِرَقٍ تَكُونُونَ فِيهِ حَتّى يَفْرُغَ الحِسابُ وهَذا شَأْنُ الدُّخّانِ العَظِيمِ إذا ارْتَفَعَ تَشَعَّبَ شُعَبًا. قَرَأ الجُمْهُورُ انْطَلِقُوا في المَوْضِعَيْنِ عَلى صِيغَةِ الأمْرِ عَلى التَّأْكِيدِ. وقَرَأ رُوَيْسٍ عَنْ يَعْقُوبَ بِصِيغَةِ الماضِي في الثّانِي: أيْ لَمّا أُمِرُوا بِالِانْطِلاقِ امْتَثَلُوا ذَلِكَ فانْطَلَقُوا. وقِيلَ المُرادُ بِالظِّلِّ هُنا هو السُّرادِقُ، وهو لِسانٌ مِنَ النّارِ يُحِيطُ بِهِمْ. ثُمَّ يَتَشَعَّبُ ثَلاثَ شُعَبٍ فَيُظِلُّهم حَتّى يَفْرَغَ مِن حِسابِهِمْ، ثُمَّ يَصِيرُونَ إلى النّارِ. وقِيلَ هو الظِّلُّ مِن يَحْمُومٍ كَما في قَوْلِهِ: ﴿فِي سَمُومٍ وحَمِيمٍ وظِلٍّ مِن يَحْمُومٍ﴾ عَلى ما تَقَدَّمَ. ثُمَّ وصَفَ سُبْحانَهُ هَذا الظِّلَّ تَهَكُّمًا بِهِمْ فَقالَ: ﴿لا ظَلِيلٍ ولا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ﴾ أيْ لا يُظِلُّ مِنَ الحَرِّ ولا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ. قالَ الكَلْبِيُّ: لا يَرُدُّ حَرَّ جَهَنَّمَ عَنْكم. ثُمَّ وصَفَ سُبْحانَهُ النّارَ فَقالَ: ﴿إنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كالقَصْرِ﴾ أيْ كُلُّ شَرَرَةٍ مِن شَرَرِها الَّتِي تَرْمِي بِها كالقَصْرِ مِنَ القُصُورِ في عِظَمِها، والشَّرَرُ: ما تَطايَرَ مِنَ النّارِ مُتَفَرِّقًا، والقَصْرُ: البِناءُ العَظِيمُ. وقِيلَ القَصْرُ جَمْعُ قَصْرَةٍ ساكِنَةِ الصّادِ مِثْلَ حُمْرٌ وحُمْرَةٌ وتَمْرٌ وتَمْرَةٌ، وهي الواحِدَةُ مِن جَزْلِ الحَطَبِ الغَلِيظِ. قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، والضَّحّاكُ: وهي أُصُولُ الشَّجَرِ العِظامُ، وقِيلَ أعْناقُهُ. قَرَأ الجُمْهُورُ كالقَصْرِ بِإسْكانِ الصّادِ، وهو واحِدُ القُصُورِ كَما تَقَدَّمَ: وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وحُمَيْدٌ، والسُّلَمِيُّ بِفَتْحِ الصّادِ: أيْ أعْناقُ النَّخْلِ والقَصَرَةُ العُنُقُ جَمْعُهُ قَصْرٌ وقَصَراتٌ. وقالَ قَتادَةٌ: أعْناقُ الإبِلِ. وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ بِكَسْرِ القافِ وفَتْحِ الصّادِ، وهي أيْضًا جَمْعُ قَصْرَةٍ مِثْلَ بَدْرٍ وبَدْرَةٍ وقَصْعٍ وقَصْعَةٍ. وقَرَأ الجُمْهُورُ بِشَرَرٍ بِفَتْحِ الشِّينِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ مِقْسَمٍ بِكَسْرِها مَعَ ألِفٍ بَيْنَ الرّاءَيْنِ. وقَرَأ عِيسى كَذَلِكَ إلّا أنَّهُ بِفَتْحِ الشِّينِ، وهي لُغاتٌ. ثُمَّ شَبَّهَ الشَّرَرَ بِاعْتِبارِ لَوْنِهِ فَقالَ: ﴿كَأنَّهُ جِمالَةٌ صُفْرٌ﴾ وهي جَمْعُ جِمالٍ، وهي الإبِلُ أوْ جَمْعُ (p-١٥٧٢)جَمّالَةٍ. قَرَأ الجُمْهُورُ ( جِمالاتٌ ) بِكَسْرِ الجِيمِ. وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفْصٌ " جِمالَةٌ " جَمْعُ جَمَلٍ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، وابْنُ جُبَيْرٍ، وقَتادَةُ، وأبُو رَجاءَ " جُمالاتٌ " بِضَمِّ الجِيمِ، وهي حِبالُ السُّفُنِ. قالَ الواحِدِيُّ: والصُّفْرُ مَعْناها السُّودُ في قَوْلِ المُفَسِّرِينَ. قالَ الفَرّاءُ: الصُّفْرُ: سَوادُ الإبِلِ لا يُرى أسْوَدُ مِنَ الإبِلِ إلّا وهو مُشْرَبٌ صُفْرَةً، لِذَلِكَ سَمَّتِ العَرَبُ سُودَ الإبِلِ صُفْرًا. قِيلَ والشَّرَرُ إذا تَطايَرَ وسَقَطَ وفِيهِ مِن لَوْنِ النّارِ أشْبَهُ شَيْءٍ بِالإبِلِ السُّودِ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎تِلْكَ خَيْلِي وتِلْكَ رِكابِي هُنَّ صُفْرٌ أوْلادُها كالزَّبِيبِ أيْ هُنَّ سُودٌ، قِيلَ وهَذا القَوْلُ مُحالٌ في اللُّغَةِ أنْ يَكُونَ شَيْءٌ يَشُوبُهُ شَيْءٌ قَلِيلٌ، فَيُنْسَبُ كُلُّهُ إلى ذَلِكَ الشّائِبِ، فالعَجَبُ لِمَن قالَ بِهَذا، وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿جِمالَةٌ صُفْرٌ﴾ . وأُجِيبَ بِأنَّ وجْهَهُ أنَّ النّارَ خُلِقَتْ مِنَ النُّورِ فَهي مُضِيئَةٌ، فَلَمّا خَلَقَ اللَّهُ جَهَنَّمَ، وهي مَوْضِعُ النّارِ حُشِيَ ذَلِكَ المَوْضِعِ بِتِلْكَ النّارِ، وبَعَثَ إلَيْها سُلْطانَهُ وغَضَبَهُ فاسْوَدَّتْ مِن سُلْطانِهِ وازْدادَتْ سَوادًا، وصارَتْ أشَدَّ سَوادًا مِن كُلِّ شَيْءٍ، فَيَكُونُ شَرَرُها أسْوَدَ لِأنَّهُ مِن نارٍ سَوْداءَ. قُلْتُ: وهَذا الجَوابُ لا يَدْفَعُ ما قالَهُ القائِلُ؛ لِأنَّ كَلامَهُ بِاعْتِبارِ ما وقَعَ في الكِتابِ العَزِيزِ هُنا مِن وصْفِها بِكَوْنِها صَفْراءَ، فَلَوْ كانَ الأمْرُ كَما ذَكَرَهُ المُجِيبُ مِنِ اسْوِدادِ النّارِ، واسْوِدادِ شَرَرِها، لَقالَ اللَّهُ: كَأنَّها جِمالاتٌ سُودٌ، ولَكِنْ إذا كانَتِ العَرَبُ تُسَمِّي الأسْوَدَ أصْفَرَ لَمْ يَبْقَ إشْكالٌ؛ لِأنَّ القُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ، وقَدْ نَقَلَ الثِّقاتُ عَنْهم ذَلِكَ، فَكانَ ما في القُرْآنِ هُنا وارِدًا عَلى هَذا الِاسْتِعْمالِ العَرَبِيِّ. ﴿ويْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ لِرُسُلِ اللَّهِ وآياتِهِ. ﴿هَذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ﴾ أيْ لا يَتَكَلَّمُونَ قالَ الواحِدِيُّ: قالَ المُفَسِّرُونَ: في يَوْمِ القِيامَةِ مَواقِفُ، فَفي بَعْضِها يَتَكَلَّمُونَ، وفي بَعْضِها يُخْتَمُ عَلى أفْواهِهِمْ فَلا يَتَكَلَّمُونَ، وقَدْ قَدَّمْنا الجَمْعَ بِهَذا في غَيْرِ مَوْضِعٍ. وقِيلَ إنَّ هَذا إشارَةٌ إلى وقْتِ دُخُولِهِمُ النّارَ وهم عِنْدَ ذَلِكَ لا يَنْطِقُونَ؛ لِأنَّ مَواقِفَ السُّؤالِ والحِسابِ قَدِ انْقَضَتْ. وقالَ الحَسَنُ: لا يَنْطِقُونَ بِحُجَّةٍ وإنْ كانُوا يَنْطِقُونَ. قَرَأ الجُمْهُورُ بِرَفْعِ ( يَوْمٌ ) عَلى أنَّهُ خَبَرٌ لِاسْمِ الإشارَةِ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، والأعْرَجُ، والأعْمَشُ، وأبُو حَيْوَةَ، وعاصِمٌ في رِوايَةٍ عَنْهُ بِالفَتْحِ عَلى البِناءِ لِإضافَتِهِ إلى الفِعْلِ، ومَحَلُّهُ الرَّفْعُ عَلى الخَبَرِيَّةِ، وقِيلَ هو مَنصُوبٌ عَلى الظَّرْفِيَّةِ، والإشارَةُ بِهَذا إلى ما تَقَدَّمَ مِنَ الوَعِيدِ كَأنَّهُ قِيلَ هَذا العِقابُ المَذْكُورُ كائِنٌ يَوْمَ لا يَنْطِقُونَ. ﴿ولا يُؤْذَنُ لَهم فَيَعْتَذِرُونَ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ يُؤْذَنُ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ، وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ ولا يَأْذَنُ عَلى البِناءِ لِلْفاعِلِ: أيْ لا يَأْذَنُ اللَّهُ لَهم: أيْ لا يَكُونُ لَهم إذْنٌ مِنَ اللَّهِ فَيَكُونُ لَهُمُ اعْتِذارٌ مِن غَيْرِ أنْ يُجْعَلَ الِاعْتِذارَ مُسَبَّبًا عَنِ الإذْنِ كَما لَوْ نُصِبَ. قالَ الفَرّاءُ: الفاءُ في فَيَعْتَذِرُونَ نَسَقٌ عَلى ( يُؤْذَنُ ) وأُجِيزَ ذَلِكَ لِأنَّ أواخِرَ الكَلامِ بِالنُّونِ، ولَوْ قالَ فَيَعْتَذِرُوا لَمْ يُوافِقِ الآياتِ، وقَدْ قالَ: ﴿لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا﴾ [فاطر: ٣٦] بِالنُّصْبِ، والكُلُّ صَوابٌ. ﴿ويْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ بِما دَعَتْهم إلَيْهِ الرُّسُلُ وأنْذَرَتْهم عاقِبَتُهُ. ﴿هَذا يَوْمُ الفَصْلِ جَمَعْناكم والأوَّلِينَ﴾ أيْ ويُقالُ لَهم: هَذا يَوْمُ الفَصْلِ الَّذِي يُفْصَلُ فِيهِ بَيْنَ الخَلائِقِ ويَتَمَيَّزُ فِيهِ الحَقُّ مِنَ الباطِلِ، والخِطابُ في جَمَعْناكم لِلْكَفّارِ في زَمَنِ نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ ﷺ، والمُرادُ بِالأوَّلِينَ كُفّارُ الأُمَمِ الماضِيَةِ. ﴿فَإنْ كانَ لَكم كَيْدٌ﴾ أيْ إنْ قَدَرْتُمْ عَلى كَيْدٍ الآنَ فَكِيدُونِ وهَذا تَقْرِيعٌ وتَوْبِيخٌ لَهم. قالَ مُقاتِلٌ: يَقُولُ إنْ كانَ لَكم حِيلَةٌ فاحْتالُوا لِأنْفُسِكم، وقِيلَ المَعْنى: فَإنْ قَدَرْتُمْ عَلى حَرْبٍ فَحارِبُونِ، وقِيلَ إنَّ هَذا مِن قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ، فَيَكُونُ كَقَوْلِ هُودٍ: ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ﴾ [هود: ٥٥] . ﴿ويْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ لِأنَّهُ ظَهَرَ لَهم عَجُزُهم وبُطْلانُ ما كانُوا عَلَيْهِ في الدُّنْيا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ المُؤْمِنِينَ فَقالَ: ﴿إنَّ المُتَّقِينَ في ظِلالٍ وعُيُونٍ﴾ أيْ في ظِلالِ الأشْجارِ وظِلالِ القُصُورِ، لا كالظِّلِّ الَّذِي لِلْكُفّارِ مِنَ الدُّخانِ، أوْ مِنَ النّارِ كَما تَقَدَّمَ. قالَ مُقاتِلٌ، والكَلْبِيُّ: المُرادُ بِالمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ بِاللَّهِ؛ لِأنَّ السُّورَةَ مِن أوَّلِها إلى آخِرِها في تَقْرِيعِ الكُفّارِ عَلى كُفْرِهِمْ. قالَ الرّازِّيُّ: فَيَجِبُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الآيَةُ مَذْكُورَةً لِهَذا الغَرَضِ وإلّا لَتَفَكَّكَتِ السُّورَةُ في نَظْمِها وتَرْتِيبِها وإنَّما يَتِمُّ النَّظْمُ بِأنْ يَكُونَ الوَعْدُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِسَبَبِ إيمانِهِمْ، فَأمّا جَعْلُهُ سَبَبًا لِلطّاعَةِ فَلا يَلِيقُ بِالنَّظْمِ كَذا قالَ. والمُرادُ بِالعُيُونِ الأنْهارُ، وبِالفَواكِهِ ما يَتَفَكَّهُ بِهِ مِمّا تَطْلُبُهُ أنْفُسُهم وتَسْتَدْعِيهِ شَهَواتُهم. ﴿كُلُوا واشْرَبُوا هَنِيئًا بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أيْ يُقالُ لَهم ذَلِكَ، فالجُمْلَةُ مُقَدَّرَةٌ بِالقَوْلِ، وهي في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِن ضَمِيرِ المُتَّقِينَ، والباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ: أيْ بِسَبَبِ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَهُ في الدُّنْيا مِنَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ. ﴿إنّا كَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ﴾ أيْ مِثْلَ ذَلِكَ الجَزاءِ العَظِيمِ نَجْزِي المُحْسِنِينَ في أعْمالِهِمْ، قَرَأ الجُمْهُورُ ﴿فِي ظِلالٍ﴾ . وقَرَأ الأعْمَشُ، والزُّهْرِيُّ، وطَلْحَةُ، والأعْرَجُ " في ظُلُلٍ " جَمْعُ ظُلَّةٍ. ﴿ويْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ حَيْثُ صارُوا في شَقاءٍ عَظِيمٍ، وصارَ المُؤْمِنُونَ في نَعِيمٍ مُقِيمٍ. ﴿كُلُوا وتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إنَّكم مُجْرِمُونَ﴾ الجُمْلَةُ بِتَقْدِيرِ القَوْلِ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِنَ المُكَذِّبِينَ: أيِ الوَيْلُ ثابِتٌ لَهم في حالِ ما يُقالُ لَهم ذَلِكَ تَذْكِيرٌ لَهم بِحالِهِمْ في الدُّنْيا، أوْ يُقالُ لَهم هَذا في الدُّنْيا، والمُجْرِمُونَ: المُشْرِكُونَ بِاللَّهِ، وهَذا وإنْ كانَ في اللَّفْظِ أمْرًا فَهو في المَعْنى تَهْدِيدٌ وزَجْرٌ عَظِيمٌ. ﴿ويْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ كَرَّرَهُ لِزِيادَةِ التَّوْبِيخِ والتَّقْرِيعِ. ﴿وإذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ﴾ أيْ وإذا أُمِرُوا بِالصَّلاةِ لا يُصَلُّونَ. قالَ مُقاتِلٌ: «نَزَلَتْ في ثَقِيفٍ امْتَنَعُوا مِنَ الصَّلاةِ بَعْدَ أنْ أمَرَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِها فَقالُوا: لا نَنْحَنِي فَإنَّها مَسَبَّةٌ عَلَيْنا، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: لا خَيْرَ في دِينٍ لَيْسَ فِيهِ رُكُوعٌ ولا سُجُودٌ» . وقِيلَ إنَّما يُقالُ لَهم ذَلِكَ في الآخِرَةِ حِينَ يُدْعَوْنَ إلى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ. وقِيلَ المَعْنِيُّ بِالرُّكُوعِ: الطّاعَةُ والخُشُوعُ. ﴿ويْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ بِأوامِرِ اللَّهِ سُبْحانَهُ ونَواهِيهِ. ﴿فَبِأيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ أيْ فَبِأيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ القُرْآنِ يُصَدِّقُونَ إذا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ. قَرَأ الجُمْهُورُ (p-١٥٧٣)يُؤْمِنُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلى الغَيْبَةِ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ في رِوايَةٍ عَنْهُ، ويَعْقُوبُ بِالفَوْقِيَّةِ عَلى الخِطابِ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿بِشَرَرٍ كالقَصْرِ﴾ قالَ: كالقَصْرِ العَظِيمِ، وقَوْلِهِ: ﴿جِمالَةٌ صُفْرٌ﴾ قالَ: قِطَعُ النُّحاسِ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، والفِرْيابِيُّ، وهَنّادٌ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والبُخارِيُّ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، والحاكِمُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عابِسٍ قالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبّاسٍ يَسْألُ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿إنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كالقَصْرِ﴾ قالَ: كُنّا نَرْفَعُ الخَشَبَ بِقَدْرِ ثَلاثَةِ أذْرُعٍ أوْ أقَلَّ، فَنَرْفَعُهُ لِلشِّتاءِ فَنُسَمِّيهِ القَصْرَ. قالَ: وسَمِعَتْهُ يَسْألُ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿جِمالَةٌ صُفْرٌ﴾ قالَ: حِبالُ السُّفُنِ يُجْمَعُ بَعْضُها إلى بَعْضٍ حَتّى تَكُونَ كَأوْساطِ الرِّجالِ. ولَفْظُ البُخارِيِّ: كُنّا نَعْمِدُ إلى الخَشَبَةِ ثَلاثَةَ أذْرُعٍ وفَوْقَ ذَلِكَ فَنَرْفَعُهُ لِلشِّتاءِ فَنُسَمِّيهِ القَصْرَ ﴿كَأنَّهُ جِمالَةٌ صُفْرٌ﴾ حِبالُ السُّفُنِ تُجْمَعُ حَتّى تَكُونَ كَأوْساطِ الرِّجالِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ أنَّهُ قَرَأ " كالقَصَرِ " بِفَتْحِ القافِ والصّادِ. وقالَ قَصَرُ النَّخْلِ: يَعْنِي الأعْناقَ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أيْضًا قالَ: كانَتِ العَرَبُ في الجاهِلِيَّةِ تَقُولُ: أقْصِرُوا لَنا الحَطَبَ، فَيُقْطَعُ عَلى قَدْرِ الذِّراعِ والذِّراعَيْنَ. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ في قَوْلِهِ: ﴿تَرْمِي بِشَرَرٍ كالقَصْرِ﴾ قالَ: إنَّها لَيْسَتْ كالشَّجَرِ والجِبالِ، ولَكِنَّها مِثْلُ المَدائِنِ والحُصُونِ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: كالقَصْرِ قالَ: هو القَصْرُ، وفي قَوْلِهِ: ﴿جِمالَةٌ صُفْرٌ﴾ قالَ: الإبِلُ. وأخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ مِن طَرِيقِ عِكْرِمَةَ قالَ: سَألَ نافِعُ بْنُ الأزْرَقِ، ابْنَ عَبّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿هَذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ﴾ ﴿فَلا تَسْمَعُ إلّا هَمْسًا﴾ ﴿وأقْبَلَ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ﴾ و﴿هاؤُمُ اقْرَءُوا كِتابِيَهْ﴾ فَقالَ لَهُ: ويْحَكَ هَلْ سَألْتَ عَنْ هَذا أحَدًا قَبْلِي ؟ قالَ لا، قالَ: أما إنَّكَ لَوْ كُنْتَ سَألْتَ هَلَكْتَ، ألَيْسَ قالَ اللَّهُ: ﴿وإنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَألْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ﴾ قالَ بَلى، قالَ: فَإنَّ لِكُلِّ مِقْدارِ يَوْمٍ مِن هَذِهِ الأيّامِ لَوْنًا مِنَ الألْوانِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿وإذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ﴾ يَقُولُ: يُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيامَةِ إلى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ مِن أجْلِ أنَّهم لَمْ يَكُونُوا يَسْجُدُونَ لِلَّهِ في الدُّنْيا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب