الباحث القرآني

وهي مَكِّيَّةٌ في قَوْلِ الحَسَنِ، وعِكْرِمَةَ، وعَطاءٍ، وجابِرٍ. قالَ قَتادَةُ: إلّا آيَةً مِنها وهي قَوْلُهُ: ﴿وإذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ﴾ فَإنَّها مَدَنِيَّةٌ، ورُوِيَ هَذا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وأخْرَجَ النَّحّاسُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ المُرْسَلاتِ بِمَكَّةَ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُما عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: «بَيْنَما نَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ في غارٍ بِمِنى إذْ نَزَلَتْ سُورَةُ المُرْسَلاتِ عُرْفًا، فَإنَّهُ لَيَتْلُوها وإنِّي لَأتَلَقّاها مِن فِيهِ وإنَّ فاهُ لَرَطْبٌ بِها إذْ وثَبَتْ عَلَيْنا حَيَّةٌ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: اقْتُلُوها، فابْتَدَرْناها فَذَهَبَتْ، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: وُقِيَتْ شَرَّكم كَما وُقِيتُمْ شَرَّها» . وأخْرَجَ البُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُما عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ «أنَّ أُمَّ الفَضْلِ سَمِعَتْهُ وهو يَقْرَأُ: ﴿والمُرْسَلاتِ عُرْفًا﴾ فَقالَتْ: يا بُنَيَّ لَقَدْ ذَكَّرْتَنِي بِقِراءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ، إنَّها آخَرُ ما سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقْرَأُ بِها في المَغْرِبِ» . بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْلُهُ: ﴿والمُرْسَلاتِ عُرْفًا﴾ قالَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ: هي الرِّياحُ، وقِيلَ هي المَلائِكَةُ، وبِهِ قالَ مُقاتِلٌ، وأبُو صالِحٍ، والكَلْبِيُّ، وقِيلَ هُمُ الأنْبِياءُ، فَعَلى الأوَّلِ أقْسَمَ سُبْحانَهُ بِالرِّياحِ المُرْسَلَةِ لِما يَأْمُرُها بِهِ كَما في قَوْلِهِ: ﴿وأرْسَلْنا الرِّياحَ لَواقِحَ﴾ [الحجر: ٢٢] وقَوْلِهِ: يُرْسِلُ الرِّياحَ وغَيْرِ ذَلِكَ. وعَلى الثّانِي أقْسَمَ سُبْحانَهُ بِالمَلائِكَةِ المُرْسَلَةِ بِوَحْيِهِ وأمْرِهِ ونَهْيِهِ. وعَلى الثّالِثِ أقْسَمَ سُبْحانَهُ بِرُسُلِهِ المُرْسَلَةِ إلى عِبادِهِ لِتَبْلِيغِ شَرائِعِهِ. وانْتِصابُ ( عُرْفًا ) إمّا عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ لِأجْلِهِ أيْ: المُرْسَلاتُ لِأجْلِ العُرْفِ وهو ضِدُّ النُّكْرِ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎مَن يَفْعَلِ الخَيْرَ لا يُعْدَمْ جَوازِيهِ لا يَذْهَبُ العُرْفُ بَيْنَ اللَّهِ والنّاسِ أوْ عَلى أنَّهُ حالٌ بِمَعْنى مُتَتابِعَةٍ يَتْبَعُ بَعْضُها بَعْضًا كَعُرْفِ الفَرَسِ، تَقُولُ العَرَبُ: سارَ النّاسُ إلى فُلانٍ عُرْفًا واحِدًا: إذا تَوَجَّهُوا إلَيْهِ، وهم عَلى فُلانٍ كَعُرْفِ الضَّبُعِ: إذا تَألَّبُوا عَلَيْهِ، أوْ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ كَأنَّهُ قالَ: والمُرْسَلاتُ إرْسالًا: أيْ مُتَتابِعَةً، أوْ عَلى أنَّهُ مَنصُوبٌ بِنَزْعِ الخافِضِ: أيْ والمُرْسَلاتُ بِالعُرْفِ. قَرَأ الجُمْهُورُ عُرْفًا بِسُكُونِ الرّاءِ: وقَرَأ عِيسى بْنُ عُمَرَ بِضَمِّها، وقِيلَ المُرادُ بِالمُرْسَلاتِ السَّحابُ لِما فِيها مِن نِعْمَةٍ ونِقْمَةٍ. ﴿فالعاصِفاتِ عَصْفًا﴾ وهي الرِّياحُ الشَّدِيدَةُ الهُبُوبِ. قالَ القُرْطُبِيُّ بِغَيْرِ اخْتِلافٍ: يُقالُ عَصَفَ بِالشَّيْءِ: إذا أبادَهُ وأهْلَكَهُ، وناقَةٌ عُصُوفٌ: أيْ تَعْصِفُ بِراكِبِها فَتَمْضِي كَأنَّها رِيحٌ في السُّرْعَةِ، ويُقالُ عَصَفَتِ الحَرْبُ بِالقَوْمِ إذا ذَهَبَتْ بِهِمْ، وقِيلَ هي المَلائِكَةُ المُوَكَّلُونَ بِالرِّياحِ يَعْصِفُونَ بِها، وقِيلَ يَعْصِفُونَ بِرُوحِ الكافِرِ، وقِيلَ هي الآياتُ المُهْلِكَةُ كالزَّلازِلِ ونَحْوِها. ﴿والنّاشِراتِ نَشْرًا﴾ يَعْنِي الرِّياحَ تَأْتِي بِالمَطَرِ وهي تَنْشُرُ السَّحابَ نَشْرًا، أوِ المَلائِكَةُ المُوَكَّلُونَ بِالسَّحابِ يَنْشُرُونَها أوْ يَنْشُرُونَ أجْنِحَتَهم في الجَوِّ عِنْدَ النُّزُولِ بِالوَحْيِ، أوْ هي الأمْطارُ لِأنَّها تَنْشُرُ النَّباتَ. وقالَ الضَّحّاكُ: يُرِيدُ ما يُنْشَرُ مِنَ الكُتُبِ وأعْمالِ بَنِي آدَمَ. وقالَ الرَّبِيعُ: إنَّهُ البَعْثُ لِلْقِيامَةِ بِنَشْرِ الأرْواحِ، وجاءَ بِالواوِ هُنا لِأنَّهُ اسْتِئْنافُ قَسَمٍ آخَرَ. ﴿فالفارِقاتِ فَرْقًا﴾ يَعْنِي المَلائِكَةَ تَأْتِي بِما يُفَرِّقُ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ والحَلّالِ والحَرامِ. وقالَ مُجاهِدٌ: هي الرِّيحُ تُفَرِّقُ بَيْنَ السَّحابِ فَتُبَدِّدُهُ. ورُوِيَ عَنْهُ أنَّها آياتُ القُرْآنِ تَفْرُقُ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ، وقِيلَ هي الرُّسُلُ فَرَقُوا ما بَيْنَ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ ونَهى عَنْهُ. وبِهِ قالَ الحَسَنُ. ﴿فالمُلْقِياتِ ذِكْرًا﴾ هي المَلائِكَةُ. قالَ القُرْطُبِيُّ: بِإجْماعٍ؛ أيْ تُلْقِي الوَحْيَ إلى الأنْبِياءِ، وقِيلَ هو جِبْرِيلُ، وسُمِّيَ بِاسْمِ الجَمْعِ تَعْظِيمًا لَهُ، وقِيلَ هي الرُّسُلُ يُلْقُونَ إلى أُمَمِهِمْ ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، قالَ قُطْرُبٌ. قَرَأ الجُمْهُورُ ( فالمُلْقِياتِ ) بِسُكُونِ اللّامِ وتَخْفِيفِ القافِ اسْمُ فاعِلٍ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ بِفَتْحِ اللّامِ وتَشْدِيدِ القافِ مِنَ التَّلْقِيَةِ وهي إيصالُ (p-١٥٧٠)الكَلامِ إلى المُخاطَبِ، والرّاجِحُ أنَّ الثَّلاثَةَ الأُوَلَ لِلرِّياحِ، والرّابِعُ والخامِسُ لِلْمَلائِكَةِ، وهو الَّذِي اخْتارَهُ الزَّجّاجُ، والقاضِي وغَيْرُهُما. ﴿عُذْرًا أوْ نُذْرًا﴾ انْتِصابُهُما عَلى البَدَلِ مِن ذِكْرًا أوْ عَلى المَفْعُولِيَّةِ، والعامِلُ فِيهِما المَصْدَرُ المُنَوَّنُ، كَما في قَوْلِهِ: ﴿أوْ إطْعامٌ في يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا﴾ [البلد: ١٥، ١٤] أوْ عَلى المَفْعُولِ لِأجْلِهِ: أيْ لِلْإعْذارِ والإنْذارِ، أوْ عَلى الحالِ بِالتَّأْوِيلِ المَعْرُوفِ: أيْ مُعَذِّرِينَ أوْ مُنْذِرِينَ. قَرَأ الجُمْهُورُ بِإسْكانِ الذّالِ فِيهِما. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ وابْنُهُ خارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ، وطَلْحَةُ بِضَمِّهِما. وقَرَأ الحَرَمِيّانِ وابْنُ عامِرٍ، وأبُو بَكْرٍ بِسُكُونِها في ( عُذْرًا ) وضَمِّها في ( نُذُرًا ) . وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿عُذْرًا أوْ نُذْرًا﴾ عَلى العَطْفِ بِأوْ. وقَرَأ إبْراهِيمُ التَّيْمِيُّ، وقَتادَةُ عَلى العَطْفِ بِالواوِ بِدُونِ ألِفٍ، والمَعْنى: أنَّ المَلائِكَةَ تُلْقِي الوَحْيَ إعْذارًا مِنَ اللَّهِ إلى خَلْقِهِ وإنْذارًا مِن عَذابِهِ، كَذا قالَ الفَرّاءُ، وقِيلَ عُذْرًا لِلْمُحِقِّينَ ونُذْرًا لِلْمُبْطِلِينَ. قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ العُذُرُ والنُّذُرُ بِالتَّثْقِيلِ جَمْعُ عاذِرٍ وناذِرٍ كَقَوْلِهِ: ﴿هَذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولى﴾ [النجم: ٥٦] فَيَكُونُ نَصْبًا عَلى الحالِ مِنَ الإلْقاءِ: أيْ يُلْقُونَ الذِّكْرَ في حالِ العُذْرِ والإنْذارِ، أوْ مَفْعُولانِ لِ ( ذِكْرًا ): أيْ تَذَكَّرْ عُذْرًا أوْ نُذْرًا. قالَ المُبَرِّدُ: هُما بِالتَّثْقِيلِ جَمْعٌ، والواحِدُ عَذِيرٌ ونَذِيرٌ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ جَوابَ القَسَمِ فَقالَ: ﴿إنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ﴾ أيْ إنَّ الَّذِي تُوعَدُونَهُ مِن مَجِيءِ السّاعَةِ والبَعْثِ كائِنٌ لا مَحالَةَ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ مَتى يَقَعُ ذَلِكَ فَقالَ: ﴿فَإذا النُّجُومُ طُمِسَتْ﴾ أيْ مُحِيَ نُورُها وذَهَبَ ضَوْؤُها، يُقالُ طُمِسَ الشَّيْءُ: إذا دَرَسَ وذَهَبَ أثَرُهُ. ﴿وإذا السَّماءُ فُرِجَتْ﴾ أيْ فُتِحَتْ وشُقَّتْ، ومِثْلُهُ قَوْلُهُ: ﴿وفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أبْوابًا﴾ [النبأ: ١٩] . ﴿وإذا الجِبالُ نُسِفَتْ﴾ أيْ قُلِعَتْ مِن مَكانِها بِسُرْعَةٍ، يُقالُ نَسَفْتُ الشَّيْءَ وأنْسَفْتُهُ: إذا أخَذْتَهُ بِسُرْعَةٍ. وقالَ الكَلْبِيُّ: سُوِّيَتْ بِالأرْضِ، والعَرَبُ تَقُولُ: نَسَفَتِ النّاقَةُ الكَلَأ: إذا رَعَتْهُ، وقِيلَ جُعِلَتْ كالحَبِّ الَّذِي يُنْسَفُ بِالمَنسَفِ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿وبُسَّتِ الجِبالُ بَسًّا﴾ [الواقعة: ٥] والأوَّلُ أوْلى. قالَ المُبَرِّدُ: نُسِفَتْ قُلِعَتْ مِن مَواضِعِها. ﴿وإذا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ﴾ الهَمْزَةُ في أُقِّتَتْ بَدَلٌ مِنَ الواوِ المَضْمُومَةِ، وكُلُّ واوٍ انْضَمَّتْ وكانَتْ ضَمَّتُها لازِمَةً يَجُوزُ إبْدالُها بِالهَمْزَةِ، وقَدْ قَرَأ بِالواوِ أبُو عَمْرٍو، وشَيْبَةُ، والأعْرَجُ وقَرَأ الباقُونَ بِالهَمْزَةِ. والوَقْتُ: الأجَلُ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَهُ الشَّيْءُ المُؤَخَّرُ إلَيْهِ، والمَعْنى: جُعِلَ لَها وقْتًا لِلْفَصْلِ والقَضاءِ بَيْنَهم وبَيْنَ الأُمَمِ كَما في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ﴾ [المائدة: ١٠٩] وقِيلَ هَذا في الدُّنْيا: أيْ جُمِعَتِ الرُّسُلُ لِمِيقاتِها الَّذِي ضُرِبَ لَها في إنْزالِ العَذابِ بِمَن كَذَّبَها، والأوَّلُ أوْلى، قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: أيْ جَعَلَ يَوْمَ الدِّينِ والفَصْلِ لَها وقْتًا، وقِيلَ أُقِّتَتْ: أُرْسِلَتْ لِأوْقاتٍ مَعْلُومَةٍ عَلى ما عَلِمَ اللَّهُ بِهِ. ﴿لِأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ﴾ هَذا الِاسْتِفْهامُ لِلتَّعْظِيمِ والتَّعْجِيبِ: أيْ لِأيِّ يَوْمٍ عَظِيمٍ يَعْجَبُ العِبادُ مِنهُ لِشَدَّتِهِ ومَزِيدِ أهْوالِهِ ضُرِبَ لَهُمُ الأجَلُ لِجَمْعِهِمْ، والجُمْلَةُ مَقُولُ قَوْلٍ مُقَدَّرٍ هو جَوابٌ لِ ( إذا )، أوْ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ في أُقِّتَتْ قالالزَّجّاجُ: المُرادُ بِهَذا التَّأْقِيتِ تَبْيِينُ الوَقْتِ الَّذِي يَحْضُرُونَ فِيهِ لِلشَّهادَةِ عَلى أُمَمِهِمْ. ثُمَّ بَيَّنَ هَذا اليَوْمَ فَقالَ: ﴿لِيَوْمِ الفَصْلِ﴾ قالَ قَتادَةُ: يُفْصَلُ فِيهِ بَيْنَ النّاسِ بِأعْمالِهِمْ إلى الجَنَّةِ والنّارِ. ثُمَّ عَظَّمَ ذَلِكَ اليَوْمَ فَقالَ: ﴿وما أدْراكَ ما يَوْمُ الفَصْلِ﴾ أيْ وما أعْلَمَكَ بِيَوْمِ الفَصْلِ يَعْنِي أنَّهُ أمْرٌ بَدِيعٌ هائِلٌ لا يُقادَرُ قَدْرُهُ، و" ما " مُبْتَدَأٌ و" أدْراكَ " خَبَرُهُ، أوِ العَكْسُ كَما اخْتارَهُ سِيبَوَيْهِ. ثُمَّ ذَكَرَ حالَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِذَلِكَ اليَوْمِ فَقالَ: ﴿ويْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ أيْ ويْلٌ لَهم في ذَلِكَ اليَوْمِ الهائِلِ، ووَيْلٌ أصْلُ مَصْدَرٍ سادٌّ مَسَدَّ فِعْلِهِ، وعَدَلَ بِهِ إلى الرَّفْعِ لِلدَّلالَةِ عَلى الثَّباتِ. والوَيْلُ الهَلاكُ، أوْ هو اسْمُ وادٍ في جَهَنَّمَ، وكَرَّرَ هَذِهِ الآيَةَ في هَذِهِ السُّورَةِ لِأنَّهُ قَسَّمَ الوَيْلَ بَيْنَهم عَلى قَدْرِ تَكْذِيبِهِمْ، فَإنَّ لِكُلِّ مُكَذِّبٍ بِشَيْءٍ عَذابًا سِوى تَكْذِيبِهِ بِشَيْءٍ آخَرَ، ورُبَّ شَيْءٍ كُذِّبَ بِهِ هو أعْظَمُ جُرْمًا مِنَ التَّكْذِيبِ بِغَيْرِهِ، فَيَقْسِمُ لَهُ مِنَ الوَيْلِ عَلى قَدْرِ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحانَهُ ما فَعَلَ بِالكُفّارِ مِنَ الأُمَمِ الخالِيَةِ فَقالَ: ﴿ألَمْ نُهْلِكِ الأوَّلِينَ﴾ أخْبَرَ سُبْحانَهُ بِإهْلاكِ الكُفّارِ مِنَ الأُمَمِ الماضِيَةِ مِن لَدُنْ آدَمَ إلى مُحَمَّدٍ ﷺ . قالَ مُقاتِلٌ: يَعْنِي بِالعَذابِ في الدُّنْيا حِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهم. ﴿ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ﴾ يَعْنِي كُفّارَ مَكَّةَ، ومَن وافَقَهم حِينَ كَذَّبُوا مُحَمَّدًا ﷺ . قَرَأ الجُمْهُورُ ( نُتْبِعُهُمُ ) بِالرَّفْعِ عَلى الِاسْتِئْنافِ أيْ ثُمَّ نَحْنُ نُتْبِعُهُمُ. قالَ أبُو البَقاءِ لَيْسَ بِمَعْطُوفٍ لِأنَّ العَطْفَ يُوجِبُ أنْ يَكُونَ المَعْنى: أهْلَكْنا الأوَّلِينَ ثُمَّ أتْبَعْناهُمُ الآخَرِينَ في الإهْلاكِ. ولَيْسَ كَذَلِكَ لِأنَّ إهْلاكَ الآخَرِينَ لَمْ يَقَعْ بَعْدُ. ويَدُلُّ عَلى الرَّفْعِ قِراءَةُ ابْنُ مَسْعُودٍ " ثُمَّ سَنُتْبِعُهُمُ " . وقَرَأ الأعْرَجُ، والعَبّاسُ عَنْ أبِي عَمْرٍو " نُتْبِعْهم " بِالجَزْمِ عَطْفًا عَلى " نُهْلِكْ " قالَ شِهابُ الدِّينِ: عَلى جَعْلِ الفِعْلِ مَعْطُوفًا عَلى مَجْمُوعِ الجُمْلَةِ مِن قَوْلِهِ: ( ألَمْ نُهْلِكِ ) . ﴿كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالمُجْرِمِينَ﴾ أيْ مِثْلَ ذَلِكَ الفِعْلِ الفَظِيعِ نَفْعَلُ بِهِمْ، يُرِيدُ مَن يُهْلِكُهُ فِيما بَعْدُ، والكافُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى النَّعْتِ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ: أيْ مِثْلَ ذَلِكَ الإهْلاكِ نَفْعَلُ بِكُلِّ مُشْرِكٍ إمّا في الدُّنْيا أوْ في الآخِرَةِ. ﴿ويْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ أيْ ويْلٌ يَوْمَ ذَلِكَ الإهْلاكِ لِلْمُكَذِّبِينَ بِكُتُبِ اللَّهِ ورُسُلِهِ، قِيلَ الوَيْلُ الأوَّلُ لِعَذابِ الآخِرَةِ، وهَذا لِعَذابِ الدُّنْيا. ﴿ألَمْ نَخْلُقْكم مِن ماءٍ مَهِينٍ﴾ أيْ ضَعِيفٍ حَقِيرٍ، وهو النُّطْفَةُ. ﴿فَجَعَلْناهُ في قَرارٍ مَكِينٍ﴾ أيْ مَكانٍ حَرِيزٍ، وهو الرَّحِمُ. ﴿إلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ أيْ إلى مِقْدارٍ مَعْلُومٍ، وهو مُدَّةُ الحَمْلِ، وقِيلَ إلى أنْ يُصَوَّرَ. ( فَقَدَرْنا ) قَرَأ الجُمْهُورُ فَقَدَرْنا بِالتَّخْفِيفِ. وقَرَأ نافِعٌ، والكِسائِيُّ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّقْدِيرِ. قالَ الكِسائِيُّ، والفَرّاءُ: وهُما لُغَتانِ بِمَعْنًى. تَقُولُ: قَدَرْتُ كَذا، وقَدَّرْتُهُ. ﴿فَنِعْمَ القادِرُونَ﴾ أيْ نِعْمَ المُقَدِّرُونَ نَحْنُ، قِيلَ المَعْنى: قَدَرْناهُ قَصِيرًا أوْ طَوِيلًا، وقِيلَ مَعْنى قَدَرْنا مُلْكَنا. ﴿ويْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ بِقُدْرَتِنا عَلى ذَلِكَ. ثُمَّ بَيَّنَ لَهم بَدِيعَ صُنْعِهِ وعَظِيمَ قُدْرَتِهِ لِيَعْتَبِرُوا فَقالَ: ﴿ألَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفاتًا﴾ مَعْنى الكَفْتُ في اللُّغَةِ: الضَّمُّ والجَمْعُ، يُقالُ كَفَتَ الشَّيْءَ: إذا ضَمَّهُ وجَمَعَهُ، ومِن هَذا يُقالُ لِلْجِرابِ والقِدْرِ كَفْتٌ، والمَعْنى: ألَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ ضامَّةً لِلْأحْياءِ عَلى ظَهْرِها والأمْواتِ في (p-١٥٧١)باطِنِها تَضُمُّهم وتَجْمَعُهم. قالَ الفَرّاءُ: يُرِيدُ تَكْفِتُهم أحْياءً عَلى ظَهْرِها في دُورِهِمْ ومَنازِلِهِمْ. وتَكْفِتُهم أمْواتًا في بَطْنِها: أيْ تَحُوزُهم وهو مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿أحْياءً ‎وأمْواتًا﴾ وأنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: ؎كِرامٌ حِينَ تَنْكَفِتُ الأفاعِي ∗∗∗ إلى أجْحارِهِنَّ مِنَ الصَّقِيعِ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: كِفاتًا: أوْعِيَةً، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎فَأنْتَ اليَوْمَ فَوْقَ الأرْضِ حَيٌّ ∗∗∗ وأنْتَ غَدًا تُضَمَّنُ في كِفاتِ أيْ في قَبْرٍ، وقِيلَ مَعْنى جَعْلِها كِفاتًا: أنَّهُ يُدْفَنُ فِيها ما يَخْرُجُ مِنَ الإنْسانِ مِنَ الفَضَلاتِ. وقالَ الأخْفَشُ، وأبُو عُبَيْدَةَ: الأحْياءُ والأمْواتُ وصْفانِ لِلْأرْضِ: أيِ الأرْضُ مُنْقَسِمَةٌ إلى حَيٍّ وهو الَّذِي يَنْبُتُ، وإلى مَيِّتٍ وهو الَّذِي لا يَنْبُتُ. قالَ الفَرّاءُ: انْتِصابُ ﴿أحْياءً ‎وأمْواتًا﴾ بِوُقُوعِ الكِفاتِ عَلَيْهِ: أيْ ألَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفاتَ أحْياءٍ وأمْواتٍ، فَإذا نُوِّنَ نُصِبَ ما بَعْدَهُ، وقِيلَ نَصْبًا عَلى الحالِ مِنَ الأرْضِ: أيْ مِنها كَذا ومِنها كَذا، وقِيلَ هو مَصْدَرٌ نُعِتَ بِهِ لِلْمُبالَغَةِ. وقالَ الأخْفَشُ: كِفاتًا جَمْعُ كافِتَةٍ، والأرْضُ يُرادُ بِها الجَمْعُ فَنُعِتَتْ بِالجَمْعِ. وقالَ الخَلِيلُ: التَّكَفُّتُ: تَقْلِيبُ الشَّيْءِ ظَهْرًا لِبَطْنٍ أوْ بَطْنًا لِظَهْرٍ، ويُقالُ انْكَفَتَ القَوْمُ إلى مَنازِلَهم: أيْ ذَهَبُوا. ﴿وجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ﴾ أيْ جِبالًا طُوالًا، والرَّواسِي: الثَّوابِتُ، والشّامِخاتُ: الطُّوالُ، وكُلُّ عالٍ فَهو شامِخٌ ﴿وأسْقَيْناكم ماءً فُراتًا﴾ أيْ عَذْبًا، والفُراتُ الماءُ العَذْبُ يُشْرَبُ مِنهُ ويُسْقى بِهِ. قالَ مُقاتِلٌ: وهَذا كُلُّهُ أعْجَبُ مِنَ البَعْثِ. ﴿ويْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ﴾ بِما أنْعَمْنا عَلَيْهِمْ مَن نِعَمِنا الَّتِي هَذِهِ مِن جُمْلَتِها. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ ﴿والمُرْسَلاتِ عُرْفًا﴾ قالَ: هي المَلائِكَةُ أُرْسِلَتْ بِالعُرْفِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ﴿والمُرْسَلاتِ عُرْفًا﴾ قالَ الرِّيحُ ﴿فالعاصِفاتِ عَصْفًا﴾ قالَ: الرِّيحُ ﴿والنّاشِراتِ نَشْرًا﴾ قالَ: الرِّيحُ. وأخْرَجَ ابْنُ راهَوَيْهِ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ أنَّهُ جاءَ رَجُلٌ إلى عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ، فَقالَ ما العاصِفاتُ عَصْفًا ؟ قالَ الرِّياحَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿والمُرْسَلاتِ عُرْفًا﴾ قالَ: الرِّيحُ ﴿فالعاصِفاتِ عَصْفًا﴾ قالَ: الرِّيحُ ﴿فالفارِقاتِ فَرْقًا﴾ قالَ: المَلائِكَةُ ﴿فالمُلْقِياتِ ذِكْرًا﴾ قالَ: المَلائِكَةُ. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ ﴿والمُرْسَلاتِ عُرْفًا﴾ قالَ: المَلائِكَةُ ﴿فالفارِقاتِ فَرْقًا﴾ قالَ: المَلائِكَةُ، فَرَّقَتْ بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ ﴿فالمُلْقِياتِ ذِكْرًا﴾ قالَ: بِالتَّنْزِيلِ. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: ( ويْلٌ ) وادٍ في جِنِّهِمْ يَسِيلُ فِيهِ صَدِيدُ أهْلِ النّارِ، فَجُعِلَ لِلْمُكَذِّبِينَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿مِن ماءٍ مَهِينٍ﴾ قالَ: ضَعِيفٌ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ كِفاتًا قالَ: كِنًّا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا ﴿رَواسِيَ شامِخاتٍ﴾ قالَ: جِبالًا مُشْرِفاتٍ، وفي قَوْلِهِ: فُراتًا قالَ: عَذْبًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب