الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ﴿مُتَّكِئِينَ فِيها عَلى الأرائِكِ﴾ مَنصُوبٌ عَلى الحالِ مِن مَفْعُولِ ( جَزاهم )، والعامِلُ فِيها ( جَزى )، ولا يَعْمَلُ فِيها صَبَرُوا؛ لِأنَّ الصَّبْرَ إنَّما كانَ في الدُّنْيا، وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ أنْ يَكُونَ صِفَةً لِ ( جَنَّةٍ ) . قالَ الفَرّاءُ: وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَ ( مُتَّكِئِينَ ) تابِعًا، كَأنَّهُ قالَ: جَزاهم جَنَّةً مُتَّكِئِينَ فِيها. وقالَ الأخْفَشُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا عَلى المَدْحِ، والضَّمِيرُ مِن فِيها يَعُودُ إلى الجَنَّةِ. والأرائِكُ: السُّرُرُ في الحِجالِ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُها في سُورَةِ الكَهْفِ ﴿لا يَرَوْنَ فِيها شَمْسًا ولا زَمْهَرِيرًا﴾ الجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِن مَفْعُولِ ( جَزاهم )، فَتَكُونُ مِنَ الحالِ المُتَرادِفَةِ، أوْ مِنَ الضَّمِيرِ في مُتَّكِئِينَ، فَتَكُونُ مِنَ الحالِ المُتَداخِلَةِ، أوْ صِفَةً أُخْرى لِلْجَنَّةِ. والزَّمْهَرِيرُ: أشَدُّ البَرْدِ، والمَعْنى: أنَّهم لا يَرَوْنَ في الجَنَّةِ حَرَّ الشَّمْسِ ولا بَرْدَ الزَّمْهَرِيرِ. ومِنهُ قَوْلُ الأعْشى: ؎مُنَعَّمَةٌ طِفْلَةٌ كالمَها لَمْ تَرَ شَمْسًا ولا زَمْهَرِيرا (p-١٥٦٦)وقالَ ثَعْلَبٌ: الزَّمْهَرِيرُ: القَمَرُ بِلُغَةِ طَيِّءٍ، وأنْشَدَ لِشاعِرِهِمْ: ؎ولَيْلَةً ظَلامُها قَدِ اعْتَكَرْ ∗∗∗ قَطَعْتُها والزَّمْهَرِيرُ ما زَهَرْ ويُرْوى ما ظَهَرَ: أيْ لَمْ يَطْلُعِ القَمَرُ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذا في سُورَةِ مَرْيَمَ. ﴿ودانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ ( دانِيَةً ) بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلى مَحَلِّ لا يَرَوْنَ، أوْ عَلى مُتَّكِئِينَ، أوْ صِفَةً لِمَحْذُوفٍ: أيْ وجَنَّةٍ دانِيَةٍ، كَأنَّهُ قالَ: وجَزاهم جَنَّةً دانِيَةً. وقالَ الزَّجّاجُ: هو صِفَةٌ لِجَنَّةٍ المُتَقَدِّمِ ذِكْرُها. وقالَ الفَرّاءُ: هو مَنصُوبٌ عَلى المَدْحِ. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ " ودانِيَةٌ " بِالرَّفْعِ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وظِلالُها مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ النَّصْبِ عَلى الحالِ. والمَعْنى: أنَّ ظِلالَ الأشْجارِ قَرِيبَةٌ مِنهم مُظِلَّةٌ عَلَيْهِمْ زِيادَةً في نَعِيمِهِمْ وإنْ كانَ لا شَمْسَ هُنالِكَ. قالَ مُقاتِلٌ: يَعْنِي شَجَرُها قَرِيبٌ مِنهم. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ " ودانِيًا عَلَيْهِمْ " ﴿ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا﴾ مَعْطُوفٌ عَلى ( دانِيَةً ) كَأنَّهُ قالَ: ومُذَلَّلَةً. ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ في عَلَيْهِمْ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً، والقُطُوفُ الثِّمارُ، والمَعْنى: أنَّها سُخِّرَتْ ثِمارُها لِمُتَناوِلِيها تَسْخِيرًا كَثِيرًا بِحَيْثُ يَتَناوَلُها القائِمُ والقاعِدُ والمُضْطَجِعُ لا يَرُدُّ أيْدِيَهم عَنْها بُعْدٌ ولا شَوْكٌ. قالَ النَّحّاسُ: المُذَلَّلُ: القَرِيبُ المُتَناوَلِ، . ومِنهُ قَوْلُهم حائِطٌ ذَلِيلٌ: أيْ قَصِيرٌ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: ذُلِّلَتْ: أُدْنِيَتْ، مِن قَوْلِهِمْ حائِطٌ ذَلِيلٌ: أيْ كانَ قَصِيرَ السُّمْكِ. وقِيلَ ذُلِّلَتْ: أيْ جُعِلَتْ مُنْقادَةً لا تَمْتَنِعُ عَلى قِطافِها كَيْفَ شاءُوا. ﴿ويُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِن فِضَّةٍ وأكْوابٍ﴾ أيْ تَدُورُ عَلَيْهِمُ الخَدَمُ إذا أرادُوا الشَّرابَ بِآنِيَةِ الفِضَّةِ، والأكْوابُ جَمْعُ كُوبٍ، وهو الكُوزُ العَظِيمُ الَّذِي لا أُذُنَ لَهُ ولا عُرْوَةَ، ومِنهُ قَوْلُ عَدِيٍّ: ؎مُتَّكِئٌ تُقْرَعُ أبْوابُهُ ∗∗∗ يَسْعى عَلَيْهِ العَبْدُ بِالكُوبِ وقَدْ مَضى تَفْسِيرُهُ في سُورَةِ الزُّخْرُفِ. ﴿كانَتْ قَوارِيرَ﴾ ﴿قَوارِيرَ مِن فِضَّةٍ﴾ أيْ في وصْفِ القَوارِيرِ في الصَّفاءِ وفي بَياضِ الفِضَّةِ، فَصَفاؤُها صَفاءُ الزُّجاجِ، ولَوْنُها لَوْنُ الفِضَّةِ. قَرَأ نافِعٌ، والكِسائِيُّ، وأبُو بَكْرٍ قَوارِيرًا قَوارِيرًا بِالتَّنْوِينِ فِيهِما مَعَ الوَصْلِ، وبِالوَقْفِ عَلَيْهِما بِالألِفِ، وقَدْ تَقَدَّمَ وجْهُ هَذِهِ القِراءَةِ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ( سَلاسِلَ ) مِن هَذِهِ السُّورَةِ، وبَيَّنّا هُنالِكَ وجْهَ صَرْفِ ما فِيهِ صِيغَةُ مُنْتَهى الجُمُوعِ فارْجِعْ إلَيْهِ. وقَرَأ حَمْزَةُ بِعَدَمِ التَّنْوِينِ فِيهِما وعَدَمِ الوَقْفِ بِالألِفِ، ووَجْهُ هَذِهِ القِراءَةِ ظاهِرٌ لِأنَّهُما مُمْتَنِعانِ لِصِيغَةِ مُنْتَهى الجُمُوعِ. وقَرَأ هِشامٌ بِعَدَمِ التَّنْوِينِ فِيهِما مَعَ الوَقْفِ عَلَيْهِما بِالألِفِ، وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ بِتَنْوِينِ الأوَّلِ دُونَ الثّانِي والوَقْفِ عَلى الأوَّلِ بِالألِفِ دُونِ الثّانِي. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، وحَفْصٌ، وابْنُ ذَكْوانَ بِعَدَمِ التَّنْوِينِ فِيهِما، والوَقْفِ عَلى الأوَّلِ بِالألِفِ دُونِ الثّانِي، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ جَرِّ صِفَةٍ لِ ( أكْوابٍ ) . قالَ أبُو البَقاءِ: وحُسْنُ التَّكْرِيرِ لِما اتَّصَلَ بِهِ مِن بَيانِ أصْلِها. قالَ الواحِدِيُّ: قالَ المُفَسِّرُونَ: جَعَلَ اللَّهُ قَوارِيرَ أهْلِ الجَنَّةِ مِن فِضَّةٍ، فاجْتَمَعَ لَها بَياضُ الفِضَّةِ وصَفاءُ القَوارِيرِ. قالَ الزَّجّاجُ: القَوارِيرُ الَّتِي في الدُّنْيا مِنَ الرَّمْلِ، فَأعْلَمَ اللَّهُ فَضْلَ تِلْكَ القَوارِيرِ أنَّ أصْلَها مِن فِضَّةٍ يُرى مِن خارِجِها ما في داخِلِها، وجُمْلَةُ ﴿قَدَّرُوها تَقْدِيرًا﴾ صِفَةً لِقَوارِيرَ. قَرَأ الجُمْهُورُ قَدَّرُوها بِفَتْحِ القافِ عَلى البِناءِ لِلْفاعِلِ: أيْ قَدَّرَها السُّقاةُ مِنَ الخَدَمِ الَّذِينَ يَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ عَلى قَدْرِ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ الشّارِبُونَ مِن أهْلِ الجَنَّةِ مَن دُونِ زِيادَةٍ ولا نُقْصانٍ. قالَ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ: أتَوْا بِها عَلى قَدْرِ رَيِّهِمْ بِغَيْرِ زِيادَةٍ ولا نُقْصانٍ. قالَ الكَلْبِيُّ: وذَلِكَ ألَذُّ وأشْهى، وقِيلَ: قَدَّرَها المَلائِكَةُ، وقِيلَ قَدَّرَها أهْلُ الجَنَّةِ الشّارِبُونَ عَلى مِقْدارِ شَهَواتِهِمْ وحاجاتِهِمْ فَجاءَتْ كَما يُرِيدُونَ في الشَّكْلِ لا تَزِيدُ ولا تَنْقُصُ. وقَرَأ عَلِيٌّ، وابْنُ عَبّاسٍ، والسُّلَمِيُّ، والشَّعْبِيُّ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وأبُو عَمْرٍو في رِوايَةٍ عَنْهُ قُدِّرُوها بِضَمِّ القافِ وكَسْرِ الدّالِّ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ: أيْ جُعِلَتْ لَهم عَلى قَدْرِ إرادَتِهِمْ. قالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: هو مِن بابِ القَلْبِ، قالَ: لِأنَّ حَقِيقَةَ المَعْنى أنْ يُقالَ: قُدِّرَتْ عَلَيْهِمْ لا قَدَّرُوها؛ لِأنَّهُ في مَعْنى قُدِّرُوا عَلَيْها. وقالَ أبُو حاتِمٍ: التَّقْدِيرُ قُدِّرَتِ الأوانِي عَلى قَدْرِ رَيِّهِمْ، فَمَفْعُولُ ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ مَحْذُوفٌ. قالَ أبُو حَيّانَ: والأقْرَبُ في تَخْرِيجِ هَذِهِ القِراءَةِ الشّاذَّةِ أنْ يُقالَ: قُدِّرَ رَيُّهم مِنها تَقْدِيرًا، فَحُذِفَ المُضافُ فَصارَ قُدِّرُوها. وقالَ المَهْدَوِيُّ: إنَّ القِراءَةَ الأخِيرَةَ يَرْجِعُ مَعْناها إلى مَعْنى القِراءَةِ الأُولى، وكَأنَّ الأصْلَ قَدَرُوا عَلَيْها فَحُذِفَ حَرْفُ الجَرِّ كَما أنْشَدَ سِيبَوَيْهِ: ؎آلَيْتُ حُبَّ العِراقِ الدَّهْرُ آكُلُهُ ∗∗∗ والحَبُّ يَأْكُلُهُ في القَرْيَةِ السُّوسُ أيْ آلَيْتُ عَلى حُبِّ العِراقِ. ﴿ويُسْقَوْنَ فِيها كَأْسًا كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا﴾ قَدْ تَقَدَّمَ أنَّ الكَأْسَ هو الإناءُ فِيهِ الخَمْرُ، وإذا كانَ خالِيًا عَنِ الخَمْرِ فَلا يُقالُ لَهُ كَأْسٌ، والمَعْنى: أنَّ أهْلَ الجَنَّةِ يُسْقَوْنَ في الجَنَّةِ كَأْسًا مِنَ الخَمْرِ مَمْزُوجَةٌ بِالزَّنْجَبِيلِ وقَدْ كانَتِ العَرَبُ تَسْتَلِذُّ مَزْجَ الشَّرابِ بِالزَّنْجَبِيلِ لِطِيبِ رائِحَتِهِ. وقالَ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ: الزَّنْجَبِيلُ اسْمٌ لِلْعَيْنِ الَّتِي يَشْرَبُ بِها المُقَرَّبُونَ. وقالَ مُقاتِلٌ: هو زَنْجَبِيلٌ لا يُشْبِهُ زَنْجَبِيلَ الدُّنْيا. ﴿عَيْنًا فِيها تُسَمّى سَلْسَبِيلًا﴾ انْتِصابُ عَيْنًا عَلى أنَّها بَدَلٌ مِن كَأْسًا ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَنصُوبَةً بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ: أيْ يُسْقَوْنَ عَيْنًا، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَنصُوبَةً بِنَزْعِ الخافِضِ: أيْ مِن عَيْنٍ، والسَّلْسَبِيلُ: الشَّرابُ اللَّذِيذُ، مَأْخُوذٌ مِنَ السَّلاسَةِ، تَقُولُ العَرَبُ: هَذا شَرابٌ سَلِسٌ، وسَلْسالٌ وسَلْسَبِيلٌ: أيْ طَيِّبٌ لَذِيذٌ. قالَ الزَّجّاجُ: السَّلْسَبِيلُ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِماءٍ في غايَةِ السَّلاسَةِ حَدِيدُ الجَرْيَةِ يَسُوغُ في حُلُوقِهِمْ، ومِنهُ قَوْلُ حَسّانَ بْنِ ثابِتٍ: ؎يُسْقَوْنَ مِن ورْدِ البَرِيصِ عَلَيْهِمُ ∗∗∗ كَأْسًا يُصَفِّقُ بِالرَّحِيقِ السَّلْسَلِ ﴿ويَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ﴾ لَمّا فَرَغَ سُبْحانَهُ مِن وصْفِ شَرابِهِمْ، ووَصْفِ آنِيَتِهِمْ، ووَصْفِ السُّقاةِ الَّذِينَ يَسْقُونَهم ذَلِكَ الشَّرابَ. ومَعْنى مُخَلَّدُونَ باقُونَ عَلى ما هم عَلَيْهِ مِنَ الشَّبابِ والطَّراوَةِ والنَّضارَةِ، لا يَهْرَمُونَ ولا يَتَغَيَّرُونَ، وقِيلَ مَعْنى مُخَلَّدُونَ لا يَمُوتُونَ، وقِيلَ التَّخْلِيدُ التَّحْلِيَةُ: أيْ مُحَلَّوْنَ ﴿إذا رَأيْتَهم حَسِبْتَهم لُؤْلُؤًا مَنثُورًا﴾ إذا نَظَرْتَ إلَيْهِمْ ظَنَنْتَهم لِمَزِيدِ حُسْنِهِمْ وصَفاءِ (p-١٥٦٧)ألْوانِهِمْ ونَضارَةِ وُجُوهِهِمْ لُؤْلُؤًا مُفَرَّقًا. قالَ عَطاءٌ: يُرِيدُ في بَياضِ اللَّوْنِ وحُسْنِهِ، واللُّؤْلُؤُ إذا نُثِرَ مِنَ الخَيْطِ عَلى البِساطِ كانَ أحْسَنَ مِنهُ مَنظُومًا. قالَ أهْلُ المَعانِي: إنَّما شُبِّهُوا بِالمَنثُورِ لِانْتِثارِهِمْ في الخِدْمَةِ، ولَوْ كانُوا صَفًّا لَشُبِّهُوا بِالمَنظُومِ، وقِيلَ إنَّما شَبَّهَهم بِالمَنثُورِ لِأنَّهم سِراعٌ في الخِدْمَةِ، بِخِلافِ الحُورِ العِينِ فَإنَّهُ شَبَّهَهُنَّ بِاللُّؤْلُؤِ المَكْنُونِ لِأنَّهُنَّ لا يُمْتَهَنَّ بِالخِدْمَةِ. ﴿وإذا رَأيْتَ ثَمَّ رَأيْتَ نَعِيمًا ومُلْكًا كَبِيرًا﴾ أيْ وإذا رَمَيْتَ بِبَصَرِكَ هُناكَ، يَعْنِي في الجَنَّةِ رَأيْتَ نَعِيمًا لا يُوصَفُ، ومُلْكًا كَبِيرًا لا يُقادَرُ قَدْرُهُ، و" ثَمَّ " ظَرْفُ مَكانٍ، والعامِلُ فِيها ( رَأيْتَ ) . قالَ الفَرّاءُ في الكَلامِ ما مُضْمَرَةٌ: أيْ وإذا رَأيْتَ ما ثَمَّ، كَقَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ٩٤] أيْ ما بَيْنَكم. قالَ الزَّجّاجُ مُعْتَرِضًا عَلى الفَرّاءِ: إنَّهُ لا يَجُوزُ إسْقاطُ المَوْصُولِ وتَرْكُ الصِّلَةِ، ولَكِنْ " رَأيْتَ " يَتَعَدّى في المَعْنى إلى ثَمَّ. والمَعْنى: إذا رَأيْتَ بِبَصَرِكَ ثَمَّ، ويَعْنِي بِثَمَّ الجَنَّةَ. قالَ السُّدِّيُّ: النَّعِيمُ ما يُتَنَعَّمُ بِهِ، والمُلْكُ الكَبِيرُ: اسْتِئْذانُ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمْ، وكَذا قالَ مُقاتِلٌ، والكَلْبِيُّ. وقِيلَ إنَّ " رَأيْتَ " لَيْسَ لَهُ مَفْعُولٌ مَلْفُوظٌ ولا مُقَدَّرٌ ولا مَنوِيٌّ، بَلْ مَعْناهُ: أنَّ بَصَرَكَ أيْنَما وقَعَ في الجَنَّةِ رَأيْتَ نَعِيمًا ومُلْكًا كَبِيرًا. ﴿عالِيَهم ثِيابُ سُنْدُسٍ﴾ قَرَأ نافِعٌ، وحَمْزَةُ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ عالِيهِمْ بِسُكُونِ الياءِ وكَسْرِ الهاءِ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وثِيابٌ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، أوْ عَلى أنَّ ( عالِيهِمْ ) مُبْتَدَأٌ، و( ثِيابُ ) مُرْتَفِعٌ بِالفاعِلِيَّةِ وإنْ لَمْ يَعْتَمِدِ الوَصْفَ كَما هو مَذْهَبُ الأخْفَشِ. وقالَ الفَرّاءُ: هو مَرْفُوعٌ بِالِابْتِداءِ، وخَبَرُهُ: ثِيابُ سُنْدُسٍ، واسْمُ الفاعِلِ مُرادٌ بِهِ الجَمْعُ. وقَرَأ الباقُونَ بِفَتْحِ الياءِ وضَمِّ الهاءِ عَلى أنَّهُ ظَرْفٌ في مَحَلِّ رَفْعٍ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، و( ثِيابُ ) مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، كَأنَّهُ قِيلَ فَوْقَهم ثِيابٌ. قالَ الفَرّاءُ: إنَّ ( عالِيَهم ) بِمَعْنى فَوْقَهم، وكَذا قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ. قالَ أبُو حَيّانَ: عالٍ وعالِيَةٌ اسْمُ فاعِلٍ، فَيَحْتاجُ في كَوْنِهِما ظَرْفَيْنِ إلى أنْ يَكُونَ مَنقُولًا مِن كَلامِ العَرَبِ، وقَدْ تَقَدَّمَهُ إلى هَذا الزَّجّاجُ وقالَ: هَذا مِمّا لا نَعْرِفُهُ في الظُّرُوفِ ولَوْ كانَ ظَرْفًا لِمَ لَمْ يَجُزْ إسْكانُ الياءِ، ولَكِنَّهُ نُصِبَ عَلى الحالِ مِن شَيْئَيْنِ: أحَدُهُما الهاءُ والمِيمُ في قَوْلِهِ: ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ﴾ أيْ عَلى الأبْرارِ ( وِلْدانٌ ) عالِيًا الأبْرارَ ﴿ثِيابُ سُنْدُسٍ﴾ أيْ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ في هَذِهِ الحالِ. والثّانِي أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الوِلْدانِ: أيْ إذا رَأيْتَهم حَسِبْتَهم لُؤْلُؤًا مَنثُورًا في حالِ عُلُوِّ الثِّيابِ أبْدانِهِمْ. وقالَ أبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: العامِلُ في الحالِ إمّا لَقّاهم نَضْرَةً وسُرُورًا وإمّا جَزاهم بِما صَبَرُوا. قالَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ظَرْفًا. وقَرَأ ابْنُ سِيرِينَ، ومُجاهِدٌ، وأبُو حَيْوَةَ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: " عَلَيْهِمْ " وهي قِراءَةٌ واضِحَةُ المَعْنى ظاهِرَةُ الدَّلالَةِ. واخْتارَ أبُو عُبَيْدٍ القِراءَةَ الأُولى لِقِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " عَلِيَتْهم " . وقَرَأ الجُمْهُورُ بِإضافَةِ ثِيابٍ إلى سُنْدُسٍ. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ بِتَنْوِينِ ( ثِيابٌ ) وقَطْعِها عَنِ الإضافَةِ ورَفْعِ ( سُنْدُسٌ )، و﴿خُضْرٌ وإسْتَبْرَقٌ﴾ عَلى أنَّ السُّنْدُسَ نَعْتٌ لِلثِّيابِ؛ لِأنَّ السُّنْدُسَ نَوْعٌ مِنَ الثِّيابِ، وعَلى أنَّ " خُضْرٍ " نَعْتٌ لِسُنْدُسٍ؛ لِأنَّهُ يَكُونُ أخْضَرُ وغَيْرُ أخْضَرٍ، وعَلى أنَّ ( إسْتَبْرَقٍ ) مَعْطُوفٌ عَلى سُنْدُسٍ: أيْ وثِيابُ إسْتَبْرَقٍ، والجُمْهُورُ مِنَ القُرّاءِ اخْتَلَفُوا في ﴿خُضْرٌ وإسْتَبْرَقٌ﴾ مَعَ اتِّفاقِهِمْ عَلى جَرِّ سُنْدُسٍ بِإضافَةِ ( ثِيابُ ) إلَيْهِ، فَقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ بِجَرِّ " خُضْرٍ " نَعْتًا لِ ( سُنْدُسٍ ) ورَفْعِ ( إسْتَبْرَقُ ) عَطْفًا عَلى ( ثِيابُ ): أيْ عَلَيْهِمْ ثِيابُ سُنْدُسٍ وعَلَيْهِمْ إسْتَبْرَقٌ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ بِرَفْعِ ( خُضَرٌ ) نَعْتًا لِ ( ثِيابُ )، وجَرِّ " إسْتَبْرَقٍ " نَعْتٌ لِسُنْدُسٍ. واخْتارَ هَذِهِ القِراءَةَ أبُو حاتِمٍ، وأبُو عُبَيْدٍ، لِأنَّ الخُضْرَ أحْسَنُ ما كانَتْ نَعْتًا لِلثِّيابِ فَهي مَرْفُوعَةٌ، والإسْتَبْرَقُ مِن جِنْسِ السُّنْدُسِ. وقَرَأ نافِعٌ، وحَفْصٌ بِرَفْعِ ﴿خُضْرٌ وإسْتَبْرَقٌ﴾ لِأنَّ ( خُضْرٌ ) نَعْتٌ لِلثِّيابِ، و( إسْتَبْرَقٌ ) عَطْفٌ عَلى الثِّيابِ. وقَرَأ الأعْمَشُ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ بِجَرِّ " خُضْرٍ وإسْتَبْرَقٍ " عَلى أنَّ ( خُضْرٍ ) نَعْتٌ لِلسُّنْدُسِ، و( إسْتَبْرَقٍ ) مَعْطُوفٌ عَلى سُنْدُسٍ. وقَرَءُوا كُلُّهم بِصَرْفِ ( إسْتَبْرَقٍ ) إلّا ابْنُ مُحَيْصِنٍ فَإنَّهُ لَمْ يَصْرِفْهُ، قالَ: لِأنَّهُ أعْجَمِيٌّ، ولا وجْهَ لِهَذا لِأنَّهُ نَكِرَةٌ إلّا أنْ يَقُولَ إنَّهُ عَلَمٌ لِهَذا الجِنْسِ مِنَ الثِّيابِ. والسُّنْدُسُ: ما رَقَّ مِنَ الدِّيباجِ. والإسْتَبْرَقُ: ما غَلُظَ مِنهُ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُما في سُورَةِ الكَهْفِ ﴿وحُلُّوا أساوِرَ مِن فِضَّةٍ﴾ عَطْفٌ عَلى يَطُوفُ عَلَيْهِمْ. ذَكَرَ سُبْحانَهُ هُنا أنَّهم يُحَلَّوْنَ بِأساوِرِ الفِضَّةِ وفي سُورَةِ فاطِرٍ ﴿يُحَلَّوْنَ فِيها مِن أساوِرَ مِن ذَهَبٍ﴾ [فاطر: ٣٣] وفي سُورَةِ الحَجِّ ﴿يُحَلَّوْنَ فِيها مِن أساوِرَ مِن ذَهَبٍ ولُؤْلُؤًا﴾ [الحج: ٢٣] ولا تَعارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الآياتِ لِإمْكانِ الجَمْعِ بِأنْ يَجْعَلَ لَهم سِواراتٍ مِن ذَهَبٍ وفِضَّةٍ ولُؤْلُؤٍ، أوْ بِأنَّ المُرادَ أنَّهم يَلْبَسُونَ سِواراتِ الذَّهَبِ تارَةً، وسِواراتِ الفِضَّةِ تارَةً، وسِواراتِ اللُّؤْلُؤِ تارَةً، أوْ أنَّهُ يَلْبَسُ كُلُّ أحَدٍ مِنهُ ما تَمِيلُ إلَيْهِ نَفْسُهُ مِن ذَلِكَ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِن ضَمِيرِ عالِيَهم بِتَقْدِيرِ ( قَدْ ) ﴿وسَقاهم رَبُّهم شَرابًا طَهُورًا﴾ هَذا نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الشَّرابِ الَّذِي يَمُنُّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ. قالَ الفَرّاءُ: يَقُولُ هو طَهُورٌ لَيْسَ بِنَجِسٍ كَما كانَ في الدُّنْيا مَوْصُوفًا بِالنَّجاسَةِ. والمَعْنى: أنَّ ذَلِكَ الشَّرابَ طاهِرٌ لَيْسَ كَخَمْرِ الدُّنْيا. قالَ مُقاتِلٌ: هو عَيْنُ ماءٍ عَلى بابِ الجَنَّةِ مَن شَرِبَ مِنها نَزَعَ اللَّهُ ما كانَ في قَلْبِهِ مَن غَشٍّ وغِلٍّ وحَسَدٍ. قالَ أبُو قِلابَةَ، وإبْراهِيمُ النَّخَعِيُّ: يُؤْتُونَ بِالطَّعامِ، فَإذا كانَ آخِرُهُ أتَوْا بِالشَّرابِ الطَّهُورِ، فَيَشْرَبُونَ فَتَضْمُرُ بُطُونُهم مِن ذَلِكَ ويَفِيضُ عَرَقٌ مِن أبْدانِهِمْ مِثْلَ رِيحِ المِسْكِ. ﴿إنَّ هَذا كانَ لَكم جَزاءً﴾ أيْ يُقالُ لَهم: إنَّ هَذا الَّذِي ذُكِرَ مِن أنْواعِ النِّعَمِ كانَ لَكم جَزاءً بِأعْمالِكم: أيْ ثَوابًا لَها ﴿وكانَ سَعْيُكم مَشْكُورًا﴾ أيْ كانَ عَمَلُكم في الدُّنْيا بِطاعَةِ اللَّهِ مَرْضِيًّا مَقْبُولًا، وشُكْرُ اللَّهِ سُبْحانَهُ لِعَمَلِ عَبْدِهِ هو قَبُولُهُ لِطاعَتِهِ. وقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: الزَّمْهَرِيرُ هو البَرْدُ الشَّدِيدُ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُما عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اشْتَكَتِ النّارُ إلى رَبِّها فَقالَتْ: رَبِّ أكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَجَعَلَ لَها نَفَسَيْنِ: نَفَسًا في الصَّيْفِ، ونَفَسًا في الشِّتاءِ، فَشِدَّةُ ما تَجِدُونَ مِنَ البَرْدِ مِن زَمْهَرِيرِها، وشِدَّةُ ما تَجِدُونَ في (p-١٥٦٨)الصَّيْفِ مِنَ الحَرِّ مِن سَمُومِها» . وأخْرَجَ الفِرْيابِيُّ، وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وهَنّادُ بْنُ السَّرِيِّ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ في زَوائِدِ الزُّهْدِ وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في البَعْثِ عَنِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ في قَوْلِهِ: ﴿ودانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها﴾ قالَ: قَرِيبَةٌ ﴿وذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا﴾ قالَ: إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ يَأْكُلُونَ مِن ثِمارِ الجَنَّةِ قِيامًا وقُعُودًا ومُضْطَجِعِينَ وعَلى أيِّ حالٍ شاءُوا. وفِي لَفْظٍ قالَ: ذُلِّلَتْ فَيَتَناوَلُونَ مِنها كَيْفَ شاءُوا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، والبَيْهَقِيُّ في البَعْثِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: آنِيَةٍ مِن فِضَّةٍ وُصَفاؤُها كَصَفاءِ القَوارِيرِ ﴿قَدَّرُوها تَقْدِيرًا﴾ قالَ: قُدِّرَتْ لِلْكَفِّ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، والبَيْهَقِيُّ عَنْهُ قالَ: لَوْ أخَذْتَ فِضَّةً مِن فِضَّةِ الدُّنْيا فَضَرَبْتَها حَتّى جَعَلْتَها مِثْلَ جَناحِ الذُّبابِ لَمْ يُرَ الماءُ مِن ورائِها، ولَكِنْ قَوارِيرَ الجَنَّةِ بَياضُ الفِضَّةِ في صَفاءِ القَوارِيرِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا قالَ: لَيْسَ في الجَنَّةِ شَيْءٌ إلّا وقَدْ أعْطَيْتُمْ في الدُّنْيا شِبْهَهُ إلّا قَوارِيرَ مِن فِضَّةٍ. وأخْرَجَ الفِرْيابِيُّ عَنْهُ أيْضًا في قَوْلِهِ: ﴿قَدَّرُوها تَقْدِيرًا﴾ قالَ: أتَوْا بِها عَلى قَدْرِ الفَمِ لا يُفَضِّلُونَ شَيْئًا ولا يَشْتَهُونَ بَعْدَها شَيْئًا. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُ أيْضًا ﴿قَدَّرُوها تَقْدِيرًا﴾ قالَ: قَدَّرَتْها السُّقاةُ. وأخْرَجَ ابْنُ المُبارَكِ، وهَنّادٌ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والبَيْهَقِيُّ في البَعْثِ عَنِ ابْنِ عَمْرٍو قالَ: إنَّ أدْنى أهْلِ الجَنَّةِ مَنزِلًا مَن يَسْعى عَلَيْهِ ألْفُ خادِمٍ كُلُّ خادِمٍ عَلى عَمَلٍ لَيْسَ عَلَيْهِ صاحِبُهُ، وتَلا هَذِهِ الآيَةَ ﴿إذا رَأيْتَهم حَسِبْتَهم لُؤْلُؤًا مَنثُورًا﴾ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب