الباحث القرآني
وهي مَكِّيَّةٌ.
قالَ القُرْطُبِيُّ: في قَوْلِ الجَمِيعِ.
وأخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، والنَّحّاسُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الجِنِّ بِمَكَّةَ.
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عائِشَةَ وابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَوْلُهُ: ﴿قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ أُوحِيَ رُباعِيًّا.
وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ، وابْنُ إياسٍ، والعَتَكِيُّ عَنْ أبِي عَمْرٍو " وُحِيَ " ثُلاثِيًّا، وهُما لُغَتانِ.
واخْتُلِفَ هَلْ رَآهُمُ النَّبِيُّ ﷺ أمْ لَمْ يَرَهم ؟ فَظاهِرُ القُرْآنِ أنَّهُ لَمْ يَرَهم؛ لِأنَّ المَعْنى: قُلْ يا مُحَمَّدُ لِأُمَّتِكَ أُوحِيَ إلَيَّ عَلى لِسانِ جِبْرِيلَ ﴿أنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ﴾ ومِثْلُهُ قَوْلُهُ: ﴿وإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ﴾ ويُؤَيِّدُ هَذا ما ثَبَتَ في الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: ما قَرَأ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى الجِنِّ وما رَآهم.
قالَ عِكْرِمَةُ: والسُّورَةُ الَّتِي كانَ يَقْرَؤُها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هي ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ [ أيْ سُورَةُ العَلَقِ ] وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ الأحْقافِ ذِكْرُ ما يُفِيدُ زِيادَةً في هَذا.
قَوْلُهُ: ﴿أنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ﴾ هَذا هو القائِمُ مَقامَ الفاعِلِ، ولِهَذا فُتِحَتْ أنَّ، والضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ، وعِنْدَ الكُوفِيِّينَ والأخْفَشِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ القائِمُ مَقامَ الفاعِلِ الجارُّ والمَجْرُورُ، والنَّفَرُ اسْمٌ لِلْجَماعَةِ ما بَيْنَ الثَّلاثَةِ إلى العَشَرَةِ.
قالَ الضَّحّاكُ: والجِنُّ ولَدُ الجانِّ ولَيْسُوا شَياطِينَ.
وقالَ الحَسَنُ: إنَّهم ولَدُ إبْلِيسَ.
قِيلَ هم أجْسامٌ عاقِلَةٌ خَفِيَّةٌ تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ النّارِيَّةُ والهَوائِيَّةُ، وقِيلَ نَوْعٌ مِنَ الأرْواحِ المُجَرَّدَةِ، وقِيلَ هي النُّفُوسُ البَشَرِيَّةُ المُفارِقَةُ لِأبْدانِها.
وقَدْ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في دُخُولِ مُؤْمِنِي الجِنِّ الجَنَّةَ، كَما يَدْخُلُ عُصاتُهُمُ النّارَ لِقَوْلِهِ في سُورَةِ تَبارَكَ: ﴿وجَعَلْناها رُجُومًا لِلشَّياطِينِ وأعْتَدْنا لَهم عَذابَ السَّعِيرِ﴾ [الملك: ٥] وقَوْلُ الجِنِّ فِيما سَيَأْتِي في هَذِهِ السُّورَةِ، ﴿وأمّا القاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا﴾ وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ، فَقالَ الحَسَنُ: يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، وقالَ مُجاهِدٌ: لا يَدْخُلُونَها وإنْ صُرِفُوا عَنِ النّارِ.
والأوَّلُ أوْلى لِقَوْلِهِ في سُورَةِ الرَّحْمَنِ: ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إنْسٌ قَبْلَهم ولا جانٌّ﴾ وفي سُورَةِ الرَّحْمَنِ آياتٌ غَيْرُ هَذِهِ تَدُلُّ عَلى ذَلِكَ فَراجِعْها. وقَدْ قَدَّمْنا أنَّ الحَقَّ أنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ إلَيْهِمْ رُسُلًا مِنهم، بَلِ الرُّسُلُ جَمِيعًا مِنَ الإنْسِ، وإنْ أشْعَرَ قَوْلُهُ: ﴿ألَمْ يَأْتِكم رُسُلٌ مِنكُمْ﴾ [الزمر: ٧١] بِخِلافِ هَذا فَهو مَدْفُوعُ الظّاهِرِ بِآياتٍ كَثِيرَةٍ في الكِتابِ العَزِيزِ دالَّةٍ عَلى أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ لَمْ يُرْسِلِ الرُّسُلَ إلّا مِن بَنِي آدَمَ، وهَذِهِ الأبْحاثُ الكَلامُ فِيها يَطُولُ. والمُرادُ الإشارَةُ بِأخْصَرِ عِبارَةٍ ﴿فَقالُوا إنّا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبًا﴾ أيْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ لَمّا رَجَعُوا إلَيْهِمْ: أيْ سَمِعْنا كَلامًا مَقْرُوءًا عَجَبًا في فَصاحَتِهِ وبَلاغَتِهِ، وقِيلَ عَجَبًا في مَواعِظِهِ، وقِيلَ في بَرَكَتِهِ، وعَجَبًا مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ لِلْمُبالَغَةِ، أوْ عَلى حَذْفِ المُضافِ: أيْ ذا عَجَبٍ أوِ المَصْدَرِ بِمَعْنى اسْمِ الفاعِلِ: أيْ مُعْجَبًا.
﴿يَهْدِي إلى الرُّشْدِ﴾ أيْ إلى مَراشِدِ الأُمُورِ، وهي الحَقُّ والصَّوابُ، وقِيلَ إلى مَعْرِفَةِ اللَّهِ. والجُمْلَةُ صِفَةٌ أُخْرى لِلْقُرْآنِ ﴿فَآمَنّا بِهِ﴾ أيْ صَدَّقْنا بِهِ بِأنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ ﴿ولَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أحَدًا﴾ مِن خَلْقِهُ ولا نَتَّخِذُ مَعَهُ إلَهًا آخَرَ؛ لِأنَّهُ المُتَفَرِّدُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وفي هَذا تَوْبِيخٌ لِلْكُفّارِ مِن بَنِي آدَمَ حَيْثُ آمَنَتِ الجِنُّ بِسَماعِ القُرْآنِ مَرَّةً واحِدَةً وانْتَفَعُوا بِسَماعِ آياتٍ يَسِيرَةٍ مِنهُ وأدْرَكُوا بِعُقُولِهِمْ أنَّهُ كَلامُ اللَّهِ وآمَنُوا بِهِ ولَمْ يَنْتَفِعْ كُفّارُ الإنْسِ لا سِيَّما رُؤَساؤُهم وعُظَماؤُهم بِسَماعِهِ مَرّاتٍ مُتَعَدِّدَةً وتِلاوَتِهِ عَلَيْهِمْ في أوْقاتٍ مُخْتَلِفَةٍ مَعَ كَوْنِ الرَّسُولِ مِنهم يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ بِلِسانِهِمْ لا جَرَمَ صَرَعَهُمُ اللَّهُ أذَلَّ (p-١٥٣٨)مَصْرَعٍ وقَتَلَهم أقْبَحَ مَقْتَلٍ، ولَعَذابُ الآخِرَةِ أشَدُّ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ.
﴿وأنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا﴾ قَرَأهُ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وابْنُ عامِرٍ، وحَفْصٌ، وعَلْقَمَةُ، ويَحْيى بْنُ وثّابٍ، والأعْمَشُ، وخَلَفٌ، والسُّلَمِيُّ ﴿وأنَّهُ تَعالى﴾ بِفَتْحِ أنَّ، وكَذا قَرَءُوا فِيما بَعْدَها مِمّا هو مَعْطُوفٌ عَلَيْها، وذَلِكَ أحَدَ عَشَرَ مَوْضِعًا إلى قَوْلِهِ: ﴿وأنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ﴾ وقَرَأ الباقُونَ بِالكَسْرِ في هَذِهِ المَواضِعِ كُلِّها إلّا في قَوْلِهِ: ﴿وأنَّ المَساجِدَ لِلَّهِ﴾ فَإنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلى الفَتْحِ، أمّا مَن قَرَأ بِالفَتْحِ في هَذِهِ المَواضِعِ، فَعَلى العَطْفِ عَلى مَحَلِّ الجارِّ والمَجْرُورِ في ﴿فَآمَنّا بِهِ﴾ كَأنَّهُ قِيلَ فَصَدَّقْناهُ وصَدَّقْنا أنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا إلَخْ، وأمّا مَن قَرَأ بِالكَسْرِ في هَذِهِ المَواضِعِ فَعَلى العَطْفِ عَلى ﴿إنّا سَمِعْنا﴾: فَقالُوا: إنّا سَمِعْنا قُرْآنًا، وقالُوا إنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا إلى آخِرِهِ.
واخْتارَ أبُو حاتِمٍ، وأبُو عُبَيْدٍ قِراءَةَ الكَسْرِ لِأنَّهُ كُلَّهُ مِن كَلامِ الجِنِّ ومِمّا هو مَحْكِيٌّ عَنْهم بِقَوْلِهِ ﴿فَقالُوا إنّا سَمِعْنا﴾ .
وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، وشُعْبَةُ بِالفَتْحِ في ثَلاثَةِ مَواضِعَ، وهي: ﴿وأنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا﴾ .
﴿وأنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا﴾
﴿وأنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الإنْسِ﴾
قالا: لِأنَّهُ مِنَ الوَحْيِ، وكَسَرا ما بَقِيَ؛ لِأنَّهُ مِن كَلامِ الجِنِّ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿وأنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ﴾ بِالفَتْحِ لِأنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: أنَّهُ اسْتَمَعَ.
وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وشَيْبَةُ، وزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، وأبُو بَكْرٍ، والمُفَضَّلُ، عَنْ عاصِمٍ بِالكَسْرِ في هَذا المَوْضِعِ عَطْفًا عَلى ﴿فَآمَنّا بِهِ﴾ بِذَلِكَ التَّقْدِيرِ السّابِقِ، واتَّفَقُوا عَلى الفَتْحِ في ﴿أنَّهُ اسْتَمَعَ﴾ كَما اتَّفَقُوا عَلى الفَتْحِ في أنَّ المَساجِدَ وفي ﴿لَوِ اسْتَقامُوا﴾ واتَّفَقُوا عَلى الكَسْرِ في ﴿فَقالُوا إنّا سَمِعْنا﴾ و﴿قُلْ إنَّما أدْعُو رَبِّي﴾ و﴿قُلْ إنْ أدْرِي﴾ و﴿قُلْ إنِّي لا أمْلِكُ لَكُمْ﴾ .
والجَدُّ عِنْدَ أهْلِ اللُّغَةِ العَظَمَةُ والجَلالُ، يُقالُ جَدَّ في عَيْنِي: أيُّ عَظُمَ، فالمَعْنى: ارْتَفَعَ عَظَمَةُ رَبِّنا وجَلالُهُ، وبِهِ قالَ عِكْرِمَةُ، ومُجاهِدٌ.
وقالَ الحَسَنُ: المُرادُ تَعالى غِناهُ، ومِنهُ قِيلَ لِلْحَظِّ جَدٌّ، ورَجُلٌ مَجْدُودٌ: أيْ مَحْظُوظٌ وفي الحَدِيثِ «ولا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ مِنكَ الجَدُّ» قالَ أبُو عُبَيْدٍ والخَلِيلُ: أيْ لا يَنْفَعُ ذا الغِنى مِنكَ الغِنى: أيْ إنَّما تَنْفَعُهُ الطّاعَةُ، وقالَ القُرْطُبِيُّ، والضَّحّاكُ: جَدُّهُ: آلاؤُهُ ونِعَمُهُ عَلى خَلْقِهِ.
وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ، والأخْفَشُ: مُلْكُهُ وسُلْطانُهُ.
وقالَ السُّدِّيُّ: أمْرُهُ.
وقالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ﴿وأنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا﴾ أيْ تَعالى رَبُّنا، وقِيلَ جَدُّهُ قُدْرَتُهُ.
وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ وابْنُهُ جَعْفَرٌ الصّادِقُ، والرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ: لَيْسَ لِلَّهِ جَدٌّ، وإنَّما قالَتْهُ الجِنُّ لِلْجَهالَةِ.
قَرَأ الجُمْهُورُ جَدُّ بِفَتْحِ الجِيمِ، وقَرَأ عِكْرِمَةُ، وأبُو حَيْوَةَ، ومُحَمَّدُ بْنُ السَّمَيْفَعِ بِكَسْرِ الجِيمِ، وهو ضِدُّ الهَزْلِ، وقَرَأ أبُو الأشْهَبِ جَدَّيْ رَبِّنا أيْ جَدْواهُ ومَنفَعَتُهُ.
ورُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أيْضًا أنَّهُ قَرَأ بِتَنْوِينِ ( جَدُّ ) ورَفْعِ ( رَبِّنا ) عَلى أنَّهُ بَدَلٌ مِن ( جَدُّ ) ﴿ما اتَّخَذَ صاحِبَةً ولا ولَدًا﴾ هَذا بَيانٌ لِتَعالِي جَدِّهِ سُبْحانَهُ.
قالَ الزَّجّاجُ: تَعالى جَلالُ رَبِّنا وعَظَمَتُهُ عَنْ أنْ يَتَّخِذَ صاحِبَةً أوْ ولَدًا، وكَأنَّ الجِنَّ نَبَّهُوا بِهَذا عَلى خَطَأِ الكُفّارِ الَّذِينَ يَنْسُبُونَ إلى اللَّهِ الصّاحِبَةَ والوَلَدَ، ونَزَّهُوا اللَّهَ سُبْحانَهُ عَنْهُما ﴿وأنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلى اللَّهِ شَطَطًا﴾ الضَّمِيرُ في أنَّهُ لِلْحَدِيثِ أوِ الأمْرِ، و( سَفِيهُنا ) يَجُوزُ أنْ يَكُونَ اسْمَ كانَ، و( يَقُولُ ) الخَبَرُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ( سَفِيهُنا ) فاعِلَ يَقُولُ والجُمْلَةُ خَبَرُ كانَ، واسْمُها ضَمِيرٌ يَرْجِعُ إلى الحَدِيثِ أوِ الأمْرِ.
ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ ( كانَ ) زائِدَةً، ومُرادُهم بِسَفِيهِهِمْ عُصاتُهم ومُشْرِكُوهم.
وقالَ مُجاهِدٌ، وابْنُ جُرَيْجٍ، وقَتادَةُ: أرادُوا بِهِ إبْلِيسَ، والشَّطَطُ: الغُلُوُّ في الكُفْرِ.
وقالَ أبُو مالِكٍ: الجَوْرُ، وقالَ الكَلْبِيُّ: الكَذِبُ، وأصْلُهُ البُعْدُ عَنِ القَصْدِ ومُجاوَزَةُ الحَدِّ.
ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎بِأيَّةِ حالٍ حُكِّمُوا فِيكَ فاشْتَطُّوا وما ذاكَ إلّا حَيْثُ يَمَّمَكَ الوَخْطُ
﴿وأنّا ظَنَنّا أنْ لَنْ تَقُولَ الإنْسُ والجِنُّ عَلى اللَّهِ كَذِبًا﴾ أيْ إنّا حَسِبْنا أنَّ الإنْسَ والجِنَّ كانُوا لا يَكْذِبُونَ عَلى اللَّهِ بِأنَّ لَهُ شَرِيكًا وصاحِبَةً ووَلَدًا، فَلِذَلِكَ صَدَّقْناهم في ذَلِكَ حَتّى سَمِعْنا القُرْآنَ، فَعَلِمْنا بُطْلانَ قَوْلِهِمْ وبُطْلانَ ما كُنّا نَظُنُّهُ بِهِمْ مِنَ الصِّدْقِ. وانْتِصابُ كَذِبًا عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِ ( يَقُولُ ) لِأنَّ الكَذِبَ نَوْعٌ مِنَ القَوْلِ، أوْ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ: أيْ قَوْلًا كَذِبًا.
وقَرَأ يَعْقُوبُ، والجَحْدَرِيُّ، وابْنُ أبِي إسْحاقَ " أنْ لَنْ تَقُولَ " مِنَ التَّقَوُّلِ، فَيَكُونُ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ كَذِبًا مَفْعُولٌ بِهِ.
﴿وأنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الجِنِّ﴾ قالَ الحَسَنُ، وابْنُ زَيْدٍ وغَيْرُهُما: كانَ العَرَبُ إذا نَزَلَ الرَّجُلُ بِوادٍ قالَ: أعُوذُ بِسَيِّدِ هَذا الوادِي مِن شَرِّ سُفَهاءِ قَوْمِهِ. فَيَبِيتُ في جِوارِهِ حَتّى يُصْبِحَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ.
قالَ مُقاتِلٌ: كانَ أوَّلُ مَن تَعَوَّذَ بِالجِنِّ قَوْمٌ مِن أهْلِ اليَمَنِ، ثُمَّ مِن بَنِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ فَشا ذَلِكَ في العَرَبِ، فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ عاذُوا بِاللَّهِ وتَرَكُوهم ﴿فَزادُوهم رَهَقًا﴾ أيْ زادَ رِجالُ الجِنِّ مَن تَعَوَّذَ بِهِمْ مِن رِجالِ الإنْسِ رَهَقًا: أيْ سَفَهًا وطُغْيانًا، أيْ تَكَبُّرًا وعُتُوًّا، أوْ زادَ المُسْتَعِيذُونَ مِن رِجالِ الإنْسِ مَنِ اسْتَعاذُوا بِهِمْ مِن رِجالِ الجِنِّ رَهَقًا؛ لِأنَّ المُسْتَعاذَ بِهِمْ كانُوا يَقُولُونَ سُدْنا الجِنَّ والإنْسَ.
وبِالأوَّلِ قالَ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، وبِالثّانِي قالَ أبُو العالِيَةِ، وقَتادَةُ، والرَّبِيعُ بْنُ أنَسٍ، وابْنُ زَيْدٍ.
والرَّهَقُ في كَلامِ العَرَبِ: الإثْمُ وغَشِيانُ المَحارِمِ، ورَجُلٌ رَهِقٌ: إذا كانَ كَذَلِكَ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَرْهَقُهم ذِلَّةٌ [يونس: ٢٧] أيْ تَغْشاهم، ومِنهُ قَوْلُ الأعْشى:
؎لا شَيْءَ يَنْفَعُنِي مِن دُونِ رُؤْيَتِها ∗∗∗ هَلْ يَشْتَفِي عاشِقٌ ما لَمْ يُصِبْ رَهَقا
يَعْنِي إثْمًا.
وقِيلَ الرَّهَقُ: الخَوْفُ أيْ: أنَّ الجِنَّ زادَتِ الإنْسَ بِهَذا التَّعَوُّذِ بِهِمْ خَوْفًا مِنهم، وقِيلَ كانَ الرَّجُلُ مِنَ الإنْسِ يَقُولُ: أعُوذُ بِفُلانٍ مِن ساداتِ العَرَبِ مِن جِنِّ هَذا الوادِي، ويُؤَيِّدُ هَذا ما قِيلَ مِن أنَّ لَفْظَ رِجالٍ لا يُطْلَقُ عَلى الجِنِّ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ بِرِجالٍ وصْفًا لِمَن يَسْتَعِيذُونَ بِهِ مِن رِجالِ الإنْسِ: أيْ يَعُوذُونَ بِهِمْ مِن شَرِّ الجِنِّ، وهَذا فِيهِ بُعْدٌ، وإطْلاقُ لَفْظِ رِجالٍ عَلى الجِنِّ عَلى تَسْلِيمِ عَدَمِ صِحَّتِهِ لُغَةً لا مانِعَ مِن إطْلاقِهِ عَلَيْهِمْ هُنا مِن بابِ المُشاكَلَةِ.
﴿وأنَّهم ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أحَدًا﴾ هَذا مِن قَوْلِ الجِنِّ لِلْإنْسِ: أيْ وإنَّ الجِنَّ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أيُّها الإنْسُ أنَّهُ لا بَعْثَ.
وقِيلَ المَعْنى: وإنَّ الإنْسَ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أيُّها الجِنُّ، (p-١٥٣٩)والمَعْنى: أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ بِالبَعْثِ كَما أنَّكم لا تُؤْمِنُونَ.
﴿وأنّا لَمَسْنا السَّماءَ﴾ هَذا مِن قَوْلِ الجِنِّ أيْضًا: أيْ طَلَبْنا خَبَرًا كَما بِهِ جَرَتْ عادَتُنا ﴿فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَسًا﴾ مِنَ المَلائِكَةِ يَحْرُسُونَها عَنِ اسْتِراقِ السَّمْعِ، والحَرَسُ جَمْعُ حارِسٍ، وشَدِيدًا صِفَةٌ لِ حَرَسًا: أيْ قَوِيًّا وشُهُبًا جَمْعُ شِهابٍ، وهو الشُّعْلَةُ المُقْتَبَسَةُ مِن نارِ الكَوْكَبِ كَما تَقَدَّمَ بَيانُهُ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿وجَعَلْناها رُجُومًا لِلشَّياطِينِ﴾ [الملك: ٥] ومَحَلُّ قَوْلِهِ: ﴿مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا﴾ النَّصْبُ عَلى أنَّهُ ثانِي مَفْعُولَيْ وجَدْنا؛ لِأنَّهُ يَتَعَدّى إلى مَفْعُولَيْنِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا إلى مَفْعُولٍ واحِدٍ، فَيَكُونُ مَحَلُّ الجُمْلَةِ النَّصْبُ عَلى الحالِ بِتَقْدِيرِ قَدْ، وحَرَسًا مَنصُوبٌ عَلى التَّمْيِيزِ، ووَصْفُهُ بِالمُفْرِدِ اعْتِبارًا بِاللَّفْظِ، كَما يُقالُ السَّلَفُ الصّالِحُ: أيِ الصّالِحِينَ.
﴿وأنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ﴾ أيْ وأنّا كُنّا مَعْشَرَ الجِنِّ قَبْلَ هَذا نَقْعُدُ مِنَ السَّماءِ مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ، أيْ مَواضِعَ نَقْعُدُ في مِثْلِها لِاسْتِماعِ الأخْبارِ مِنَ السَّماءِ ولِلسَّمْعِ أيْ مَقاعِدَ كائِنَةً لِلسَّمْعِ، والمَقاعِدُ جَمْعُ مَقْعَدٍ، اسْمُ مَكانٍ، وذَلِكَ أنَّ مَرَدَةَ الجِنِّ كانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِيَسْمَعُوا مِنَ المَلائِكَةِ أخْبارَ السَّماءِ فَيُلْقُونَها إلى الكَهَنَةِ، فَحَرَسَها اللَّهُ سُبْحانَهُ بِبَعْثِهِ رَسُولَهُ ﷺ بِالشُّهُبِ المُحْرِقَةِ، وهو مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهابًا رَصَدًا﴾ أيْ أُرْصِدَ لَهُ لِيُرْمى بِهِ، أوْ لِأجْلِهِ لِمَنعِهِ مِنَ السَّماعِ، وقَوْلُهُ: الآنَ هو ظَرْفٌ لِلْحالِ واسْتُعِيرَ لِلِاسْتِقْبالِ، وانْتِصابُ ﴿رَصَدًا﴾ عَلى أنَّهُ صِفَةٌ لِ شِهابًا أوْ مَفْعُولٌ لَهُ، وهو مُفْرَدٌ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ اسْمَ جَمْعٍ كالحَرَسِ.
وقَدِ اخْتَلَفُوا هَلْ كانَتِ الشَّياطِينُ تُرْمى بِالشِّهابِ قَبْلَ المَبْعَثِ أمْ لا ؟ فَقالَ قَوْمٌ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ.
وحَكى الواحِدِيُّ عَنْ مَعْمَرٍ قالَ: قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ: أكانَ يُرْمى بِالنُّجُومِ في الجاهِلِيَّةِ ؟ قالَ نَعَمْ، قُلْتُ: أفَرَأيْتَ قَوْلَهُ: ﴿وأنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنها﴾ الآيَةَ، قالَ: غُلِّظَتْ وشُدِّدَ أمْرُها حِينَ بُعِثَ مُحَمَّدٌ ﷺ .
قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إنَّ الرَّجْمَ قَدْ كانَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ، ولَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ في شِدَّةِ الحِراسَةِ بَعْدَ مَبْعَثِهِ، وكانُوا يَسْتَرِقُونَ في بَعْضِ الأحْوالِ، فَلَمّا بُعِثَ مُنِعُوا مِن ذَلِكَ أصْلًا.
وقالَ عَبْدُ المَلِكِ بْنُ سابُورَ: لَمْ تَكُنِ السَّماءُ تُحْرَسُ في الفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسى ومُحَمَّدٍ، فَلَمّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ ﷺ حُرِسَتِ السَّماءُ، ورُمِيَتِ الشَّياطِينُ بِالشُّهُبِ، ومُنِعَتْ مِنَ الدُّنُوِّ إلى السَّماءِ.
وقالَ نافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ: كانَتِ الشَّياطِينُ في الفَتْرَةِ تَسْمَعُ فَلا تُرْمى، فَلَمّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رُمِيَتْ بِالشُّهُبِ، وقَدْ تَقَدَّمَ البَحْثُ عَنْ هَذا.
﴿وأنّا لا نَدْرِي أشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن في الأرْضِ أمْ أرادَ بِهِمْ رَبُّهم رَشَدًا﴾ أيْ لا نَدْرِي أشَرٌّ أُرِيدَ بِأهْلِ الأرْضِ بِسَبَبِ هَذِهِ الحِراسَةِ لِلسَّماءِ، أمْ أرادَ بِهِمْ رَبُّهم رَشَدًا: أيْ خَيْرًا.
قالَ ابْنُ زَيْدٍ: قالَ إبْلِيسُ: لا نَدْرِي أرادَ اللَّهُ بِهَذا المَنعِ أنْ يُنْزِلَ عَلى أهْلِ الأرْضِ عَذابًا أوْ يُرْسِلُ إلَيْهِمْ رَسُولًا، وارْتِفاعُ أشَّرٌ عَلى الِاشْتِغالِ، أوْ عَلى الِابْتِداءِ وخَبَرُهُ ما بَعْدَهُ، والأوَّلُ أوْلى، والجُمْلَةُ سادَّةٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ " نَدْرِي " والأوْلى أنَّ هَذا مِن قَوْلِ الجِنِّ فِيما بَيْنَهم ولَيْسَ مِن قَوْلِ إبْلِيسَ كَما قالَ ابْنُ زَيْدٍ.
﴿وأنّا مِنّا الصّالِحُونَ﴾ أيْ قالَ بَعْضٌ لِبَعْضٍ لَمّا دَعَوْا أصْحابَهم إلى الإيمانِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ: وأنّا كُنّا قَبْلَ اسْتِماعِ القُرْآنِ مِنّا المَوْصُوفُونَ بِالصَّلاحِ ﴿ومِنّا دُونَ ذَلِكَ﴾ أيْ قَوْمٌ دُونَ ذَلِكَ: أيْ دُونَ المَوْصُوفِينَ بِالصَّلاحِ، وقِيلَ أرادَ بِـ ﴿الصّالِحُونَ﴾ المُؤْمِنِينَ، وبِمَن هم دُونَ ذَلِكَ الكافِرِينَ، والأوَّلُ أوْلى، ومَعْنى ﴿كُنّا طَرائِقَ قِدَدًا﴾ أيْ جَماعاتٍ مُتَفَرِّقَةً وأصْنافًا مُخْتَلِفَةً، والقِدَةُ: القِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ، وصارَ القَوْمُ قِدَدًا: إذا تَفَرَّقَتْ أحْوالُهم، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎القابِضُ الباسِطُ الهادِي لِطاعَتِهِ ∗∗∗ في فِتْنَةِ النّاسِ إذْ أهْواؤُهم قِدَدُ
والمَعْنى: كُنّا ذَوِي طَرائِقَ قِدَدٍ، أوْ كانَتْ طَرائِقُنا طَرائِقَ قِدَدًا، أوْ كُنّا مِثْلَ طَرائِقَ قِدَدًا، ومِن هَذا قَوْلُ لَبِيدٍ:
؎لَمْ تَبْلُغِ العَيْنُ كُلَّ نَهْمَتِها ∗∗∗ يَوْمَ تَمْشِي الجِيادُ بِالقِدَدِ
وقَوْلُهُ أيْضًا:
؎ولَقَدْ قُلْتُ وزَيْدٌ حاسِرٌ ∗∗∗ يَوْمَ ولَّتْ خَيْلُ عَمْرٍو قِدَدًا
قالَ السُّدِّيُّ، والضَّحّاكُ: أدْيانًا مُخْتَلِفَةً، وقالَ قَتادَةُ: أهْواءً مُتَبايِنَةً.
وقالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ: كانُوا مُسْلِمِينَ ويَهُودًا ونَصارى ومَجُوسًا، وكَذا قالَ مُجاهِدٌ.
قالَ الحَسَنُ: الجِنُّ أمْثالُكم قَدَرِيَّةٌ ومُرْجِئَةٌ ورافِضَةٌ وشِيعَةٌ، وكَذا قالَ السُّدِّيُّ.
﴿وأنّا ظَنَنّا أنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ في الأرْضِ﴾ الظَّنُّ هُنا بِمَعْنى العِلْمِ واليَقِينِ: أيْ وإنّا عَلِمْنا أنَّ الشَّأْنَ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ في الأرْضِ أيْنَما كُنّا فِيها، ولَنْ نَفُوتَهُ إنْ أرادَ بِنا أمْرًا ﴿ولَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا﴾ أيْ هارِبِينَ مِنها، فَهو مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ.
﴿وأنّا لَمّا سَمِعْنا الهُدى﴾ يَعْنُونَ القُرْآنَ ﴿آمَنّا بِهِ﴾ وصَدَّقْنا أنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ ولَمْ نُكَذِّبْ بِهِ كَما كَذَّبَتْ بِهِ كَفَرَةُ الإنْسِ ﴿فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْسًا ولا رَهَقًا﴾ أيْ لا يَخافُ نَقْصًا في عَمَلِهِ وثَوابِهِ، ولا ظُلْمًا ومَكْرُوهًا يَغْشاهُ، والبَخْسُ النُّقْصانُ، والرَّهَقُ العُدْوانُ والظُّغْيانُ، والمَعْنى: لا يَخافُ أنْ يَنْقُصَ مِن حَسَناتِهِ ولا أنْ يُزادَ في سَيِّئاتِهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ الرَّهَقِ قَرِيبًا.
قَرَأ الجُمْهُورُ بَخْسًا بِسُكُونِ الخاءِ.
وقَرَأ يَحْيى بْنُ وثّابٍ بِفَتْحِها.
وقَرَأ يَحْيى بْنُ وثّابٍ، والأعْمَشُ ( فَلا يَخَفْ ) جَزْمًا عَلى جَوابِ الشَّرْطِ، ولا وجْهَ لِهَذا بَعْدَ دُخُولِ الفاءِ.
والتَّقْدِيرُ: فَهو لا يَخافُ، والأمْرُ ظاهِرٌ.
وقَدْ أخْرَجَ أحْمَدُ، والبُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ، والتِّرْمِذِيُّ وغَيْرُهم عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «انْطَلَقَ النَّبِيُّ ﷺ في طائِفَةٍ مِن أصْحابِهِ عامِدِينَ إلى سُوقِ عُكاظٍ، وقَدْ حِيلَ بَيْنَ الشَّياطِينِ وبَيْنَ خَبَرِ السَّماءِ وأُرْسِلَتْ عَلَيْهِمُ الشُّهُبُ فَرَجَعَتِ الشَّياطِينُ إلى قَوْمِهِمْ، فَقالُوا: ما لَكم ؟ فَقالُوا: حِيلَ بَيْنَنا وبَيْنَ خَبَرِ السَّماءِ، وأُرْسِلَتْ عَلَيْنا الشُّهُبُ، قالُوا ما حالَ بَيْنَكم وبَيْنَ خَبَرِ السَّماءِ إلّا شَيْءٌ حَدَثَ، فاضْرِبُوا مَشارِقَ الأرْضِ ومَغارِبَها لِتَعْرِفُوا ما هَذا الأمْرُ الَّذِي حالَ بَيْنَكم وبَيْنَ خَبَرِ السَّماءِ، فانْصَرَفَ أُولَئِكَ الَّذِينَ تَوَجَّهُوا نَحْوَ تِهامَةَ إلى النَّبِيِّ ﷺ وهو بِنَخْلَةَ عامِدِينَ إلى سُوقِ عُكاظٍ، وهو يُصَلِّي بِأصْحابِهِ صَلاةَ الفَجْرِ، فَلَمّا سَمِعُوا القُرْآنَ اسْتَمَعُوا لَهُ قالُوا: هَذا واللَّهِ الَّذِي حالَ (p-١٥٤٠)بَيْنَكم وبَيْنَ خَبَرِ السَّماءِ، فَهُناكَ حِينُ رَجَعُوا إلى قَوْمِهِمْ فَقالُوا يا قَوْمَنا ﴿إنّا سَمِعْنا قُرْآنًا عَجَبًا﴾ ﴿يَهْدِي إلى الرُّشْدِ فَآمَنّا بِهِ ولَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أحَدًا﴾ فَأنْزَلَ اللَّهُ عَلى نَبِيِّهِ ﷺ ﴿قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ أنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ﴾» وإنَّما أُوحِيَ إلَيْهِ قَوْلُ الجِنِّ.
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ في قَوْلِهِ: ﴿قُلْ أُوحِيَ إلَيَّ أنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ﴾ قالَ: كانُوا مِن جِنِّ نَصِيبِينَ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وأنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا﴾ قالَ: آلاؤُهُ وعَظَمَتُهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ في الآيَةِ قالَ: أمْرُهُ وقُدْرَتُهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والدَّيْلَمِيُّ قالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ واهٍ «عَنْ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا في قَوْلِهِ: ﴿وأنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا﴾ قالَ: إبْلِيسُ» .
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والعُقَيْلِيُّ في الضُّعَفاءِ والطَّبَرانِيُّ، وأبُو الشَّيْخِ في العَظَمَةِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وابْنُ عَساكِرَ «عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ أبِي السّائِبِ الأنْصارِيِّ قالَ: خَرَجْتُ مَعَ أبِي إلى المَدِينَةِ في حاجَةٍ، وذَلِكَ أوَّلُ ما ذُكِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَكَّةَ، فَآوانا المَبِيتُ إلى راعِي غَنَمٍ، فَلَمّا انْتَصَفَ اللَّيْلُ جاءَ ذِئْبٌ فَأخَذَ حَمَلًا مِنَ الغَنَمِ، فَوَثَبَ الرّاعِي فَقالَ: يا عامِرَ الوادِي أنا جارُكَ، فَنادى مُنادٍ يا سَرْحانُ أرْسِلْهُ، فَأتى الحَمَلُ يَشْتَدُّ حَتّى دَخَلَ في الغَنَمِ وأنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ بِمَكَّةَ ﴿وأنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الجِنِّ﴾» الآيَةَ.
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿فَزادُوهم رَهَقًا﴾ قالَ: إثْمًا.
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قالَ: كانَ القَوْمُ في الجاهِلِيَّةِ إذا نَزَلُوا بِالوادِي قالُوا: نَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذا الوادِي مِن شَرِّ ما فِيهِ، فَلا يَكُونُ بِشَيْءٍ أشَدَّ ولَعًا مِنهُ بِهِمْ، ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَزادُوهم رَهَقًا﴾ .
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وأحْمَدُ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ والنِّسائِيُّ، وابْنُ جَرِيرٍ، والطَّبَرانِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وأبُو نُعَيْمٍ، والبَيْهَقِيُّ «عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: كانَتِ الشَّياطِينُ لَهم مَقاعِدُ في السَّماءِ يَسْمَعُونَ فِيها الوَحْيَ، فَإذا سَمِعُوا الكَلِمَةَ زادُوا فِيها تِسْعًا، فَأمّا الكَلِمَةُ فَتَكُونُ حَقًّا، وأمّا ما زادُوا، فَيَكُونُ باطِلًا، فَلَمّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَنَعُوا مَقاعِدَهم، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِإبْلِيسَ، ولَمْ تَكُنِ النُّجُومُ يُرْمى بِها قَبْلَ ذَلِكَ، فَقالَ لَهم: ما هَذا إلّا مِن أمْرٍ قَدْ حَدَثَ في الأرْضِ، فَبَعَثَ جُنُودَهُ فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قائِمًا يُصَلِّي بَيْنَ جَبَلَيْنِ بِمَكَّةَ، فَأتَوْهُ فَأخْبَرُوهُ، فَقالَ: هَذا الحَدَثُ الَّذِي حَدَثَ في الأرْضِ» .
وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿وأنّا مِنّا الصّالِحُونَ ومِنّا دُونَ ذَلِكَ﴾ يَقُولُ: مِنّا المُسْلِمُ، ومِنّا المُشْرِكُ، و﴿كُنّا طَرائِقَ قِدَدًا﴾ أهْواءً شَتّى.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا ﴿فَلا يَخافُ بَخْسًا ولا رَهَقًا﴾ قالَ: لا يَخافُ نَقْصًا مِن حَسَناتِهِ ولا زِيادَةً في سَيِّئاتِهِ.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["قُلۡ أُوحِیَ إِلَیَّ أَنَّهُ ٱسۡتَمَعَ نَفَرࣱ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَقَالُوۤا۟ إِنَّا سَمِعۡنَا قُرۡءَانًا عَجَبࣰا","یَهۡدِیۤ إِلَى ٱلرُّشۡدِ فَـَٔامَنَّا بِهِۦۖ وَلَن نُّشۡرِكَ بِرَبِّنَاۤ أَحَدࣰا","وَأَنَّهُۥ تَعَـٰلَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا ٱتَّخَذَ صَـٰحِبَةࣰ وَلَا وَلَدࣰا","وَأَنَّهُۥ كَانَ یَقُولُ سَفِیهُنَا عَلَى ٱللَّهِ شَطَطࣰا","وَأَنَّا ظَنَنَّاۤ أَن لَّن تَقُولَ ٱلۡإِنسُ وَٱلۡجِنُّ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبࣰا","وَأَنَّهُۥ كَانَ رِجَالࣱ مِّنَ ٱلۡإِنسِ یَعُوذُونَ بِرِجَالࣲ مِّنَ ٱلۡجِنِّ فَزَادُوهُمۡ رَهَقࣰا","وَأَنَّهُمۡ ظَنُّوا۟ كَمَا ظَنَنتُمۡ أَن لَّن یَبۡعَثَ ٱللَّهُ أَحَدࣰا","وَأَنَّا لَمَسۡنَا ٱلسَّمَاۤءَ فَوَجَدۡنَـٰهَا مُلِئَتۡ حَرَسࣰا شَدِیدࣰا وَشُهُبࣰا","وَأَنَّا كُنَّا نَقۡعُدُ مِنۡهَا مَقَـٰعِدَ لِلسَّمۡعِۖ فَمَن یَسۡتَمِعِ ٱلۡـَٔانَ یَجِدۡ لَهُۥ شِهَابࣰا رَّصَدࣰا","وَأَنَّا لَا نَدۡرِیۤ أَشَرٌّ أُرِیدَ بِمَن فِی ٱلۡأَرۡضِ أَمۡ أَرَادَ بِهِمۡ رَبُّهُمۡ رَشَدࣰا","وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّـٰلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَ ٰلِكَۖ كُنَّا طَرَاۤىِٕقَ قِدَدࣰا","وَأَنَّا ظَنَنَّاۤ أَن لَّن نُّعۡجِزَ ٱللَّهَ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلَن نُّعۡجِزَهُۥ هَرَبࣰا","وَأَنَّا لَمَّا سَمِعۡنَا ٱلۡهُدَىٰۤ ءَامَنَّا بِهِۦۖ فَمَن یُؤۡمِنۢ بِرَبِّهِۦ فَلَا یَخَافُ بَخۡسࣰا وَلَا رَهَقࣰا"],"ayah":"وَأَنَّا كُنَّا نَقۡعُدُ مِنۡهَا مَقَـٰعِدَ لِلسَّمۡعِۖ فَمَن یَسۡتَمِعِ ٱلۡـَٔانَ یَجِدۡ لَهُۥ شِهَابࣰا رَّصَدࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق