الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ﴿وإنْ تَدْعُوهم إلى الهُدى لا يَتَّبِعُوكم﴾ هَذا خِطابٌ لِلْمُشْرِكِينَ: أيْ وإنْ تَدْعُوا هَؤُلاءِ الشُّرَكاءَ إلى الهُدى والرَّشادِ بِأنْ تَطْلُبُوا مِنهم أنْ يَهْدُوكم ويُرْشِدُوكم لا يَتَّبِعُوكم ولا يُجِيبُوكم إلى ذَلِكَ، وهو دُونُ ما تَطْلُبُونَهُ مِنهم مِن جَلْبِ النَّفْعِ ودَفْعِ الضُّرِّ، والنَّصْرِ عَلى الأعْداءِ. قالَ الأخْفَشُ: مَعْناهُ وإنْ (p-٥٢٠)تَدْعُوهم: أيِ الأصْنامَ إلى الهُدى لا يَتَّبِعُوكم، وقِيلَ: المُرادُ مَن سَبَقَ في عِلْمِ اللَّهِ أنَّهُ لا يُؤْمِنُ. وقُرِئَ " لا يَتَّبِعُوكم " مُشَدَّدًا ومُخَفَّفًا وهُما لُغَتانِ. وقالَ بَعْضُ أهْلِ اللُّغَةِ: اتْبَعَهُ مُخَفَّفًا: إذا مَضى خَلْفَهُ ولَمْ يُدْرِكْهُ، واتَّبَعَهُ مُشَدَّدًا: إذا مَضى خَلْفَهُ فَأدْرَكَهُ، وجُمْلَةُ ﴿سَواءٌ عَلَيْكم أدَعَوْتُمُوهم أمْ أنْتُمْ صامِتُونَ﴾ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَها: أيْ دُعاؤُكم لَهم عِنْدَ الشَّدائِدِ وعَدَمُهُ سَواءٌ لا فَرْقَ بَيْنَهُما، لِأنَّهم لا يَنْفَعُونَ ولا يَضُرُّونَ ولا يَسْمَعُونَ ولا يُجِيبُونَ، وقالَ: ﴿أمْ أنْتُمْ صامِتُونَ﴾ مَكانَ أصَمَتُّمْ لِما في الجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ مِنَ المُبالَغَةِ. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى: إنَّما جاءَ بِالجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِكَوْنِها رَأْسَ آيَةٍ، يَعْنِي لِمُطابَقَةِ ﴿ولا أنْفُسَهم يَنْصُرُونَ﴾ وما قَبْلَهُ. قَوْلُهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أمْثالُكم﴾ أخْبَرَهم - سُبْحانَهُ - بِأنَّهُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ جَعَلْتُمُوهم آلِهَةً هم عِبادٌ لِلَّهِ كَما أنْتُمْ عِبادٌ لَهُ مَعَ أنَّكم أكْمَلُ مِنهم، لِأنَّكم أحْياءٌ تَنْطِقُونَ وتَمْشُونَ وتَسْمَعُونَ وتُبْصِرُونَ، وهَذِهِ الأصْنامُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، ولَكِنَّها مِثْلُكم في كَوْنِها مَمْلُوكَةً لِلَّهِ مُسَخَّرَةً لِأمْرِهِ، وفي هَذا تَقْرِيعٌ لَهم بالِغٌ وتَوْبِيخٌ لَهم عَظِيمٌ، وجُمْلَةُ ﴿فادْعُوهم فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ﴾ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَها مِن أنَّهم إنْ دَعَوْهم إلى الهُدى لا يَتَّبِعُوهم، وأنَّهم لا يَسْتَطِيعُونَ شَيْئًا: أيِ ادْعُوا هَؤُلاءِ الشُّرَكاءَ، فَإنْ كانُوا كَما تَزْعُمُونَ ﴿فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكم إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ فِيما تَدَّعُونَهُ لَهم مِن قُدْرَتِهِمْ عَلى النَّفْعِ والضُّرِّ. والِاسْتِفْهامُ في قَوْلِهِ: ﴿ألَهم أرْجُلٌ﴾ وما بَعْدَهُ لِلتَّقْرِيعِ والتَّوْبِيخِ، أيْ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ جَعَلْتُمُوهم شُرَكاءَ لَيْسَ لَهم شَيْءٌ مِنَ الآلاتِ الَّتِي هي ثابِتَةٌ لَكم فَضْلًا عَنْ أنْ يَكُونُوا قادِرِينَ عَلى ما تَطْلُبُونَهُ مِنهم، فَإنَّهم كَما تَرَوْنَ هَذِهِ الأصْنامَ الَّتِي تَعْكِفُونَ عَلى عِبادَتِها لَيْسَتْ لَهم ﴿أرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها﴾ في نَفْعِ أنْفُسِهِمْ فَضْلًا عَنْ أنْ يَمْشُوا في نَفْعِكم ولَيْسَ ﴿لَهم أيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها﴾ كَما يَبْطِشُ غَيْرُهم مِنَ الأحْياءِ، ولَيْسَ ﴿لَهم أعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها﴾ كَما تُبْصِرُونَ، ولَيْسَ ﴿لَهم آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها﴾ كَما تَسْمَعُونَ، فَكَيْفَ تَدْعُونَ مَن هم عَلى هَذِهِ الصِّفَةِ مَن سَلْبِ الأدَواتِ، وبِهَذِهِ المَنزِلَةِ مِنَ العَجْزِ، وأمْ في هَذِهِ المَواضِعِ هي المُنْقَطِعَةُ الَّتِي بِمَعْنى بَلْ، والهَمْزَةُ كَما ذَكَرَهُ أئِمَّةُ النَّحْوِ. وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، " إنِ الَّذِينَ تَدْعُونَ " بِتَخْفِيفِ " إنَّ " ونَصْبِ " عِبادًا ": أيْ ما الَّذِينَ تَدْعُونَ " مِن دُونِ اللَّهِ عِبادًا أمْثالَكم " عَلى إعْمالِ إنِ النّافِيَةِ عَمَلَ ما الحِجازِيَّةِ وقَدْ ضُعِّفَتْ هَذِهِ القِراءَةُ بِأنَّها خِلافُ ما رَجَّحَهُ سِيبَوَيْهِ وغَيْرُهُ مِنِ اخْتِيارِ الرَّفْعِ في خَبَرِها، وبِأنَّ الكِسائِيَّ قالَ: إنَّها لا تَكادُ تَأْتِي في كَلامِ العَرَبِ بِمَعْنى ما إلّا أنْ يَكُونَ بَعْدَها إيجابٌ كَما في قَوْلِهِ: ﴿إنِ الكافِرُونَ إلّا في غُرُورٍ﴾ ( المُلْكِ: ٢٠ )، والبَطْشُ: الأخْذُ بِقُوَّةٍ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ " يَبْطُشُونَ " بِضَمِّ الطّاءِ، وهي لُغَةٌ. ثُمَّ لَمّا بَيَّنَ لَهم حالَ هَذِهِ الأصْنامِ، وتَعاوَرَ وُجُوهَ النَّقْصِ والعَجْزِ لَها مِن كُلِّ بابٍ، أمْرَهُ اللَّهُ بِأنْ يَقُولَ لَهُمُ ادْعُوا شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَزْعُمُونَ أنَّ لَهم قُدْرَةً عَلى النَّفْعِ والضُّرِّ ﴿ثُمَّ كِيدُونِ﴾ أنْتُمْ وهَمَ جَمِيعًا بِما شِئْتُمْ مِن وُجُوهِ الكَيْدِ ﴿فَلا تُنْظِرُونِ﴾ أيْ فَلا تُمْهِلُونِي ولا تُؤَخِّرُونَ إنْزالَ الضَّرَرِ بِي مِن جِهَتِها. والكَيْدُ: المَكْرُ، ولَيْسَ بَعْدَ هَذا التَّحَدِّي لَهم والتَّعْجِيزِ لِأصْنامِهِمْ شَيْءٌ. ثُمَّ قالَ لَهم: ﴿إنَّ ولِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الكِتابَ﴾ أيْ كَيْفَ أخافُ هَذِهِ الأصْنامَ الَّتِي هَذِهِ صِفَتُها ولِي ولِيٌّ ألْجَأُ إلَيْهِ وأسْتَنْصِرُ بِهِ وهو اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ - ﴿الَّذِي نَزَّلَ الكِتابَ﴾ وهَذِهِ الجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِعَدَمِ المُبالاةِ بِها، ووَلِيُّ الشَّيْءِ هو الَّذِي يَحْفَظُهُ ويَقُومُ بِنُصْرَتِهِ ويَمْنَعُ مِنهُ الضَّرَرَ ﴿وهُوَ يَتَوَلّى الصّالِحِينَ﴾ أيْ يَحْفَظُهم ويَنْصُرُهم، ويَحُولُ ما بَيْنَهم وبَيْنَ أعْدائِهِمْ. قالَ الأخْفَشُ: وقُرِئَ " إنَّ ولِيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الكِتابَ " يَعْنِي جِبْرائِيلَ. قالَ النَّحّاسُ: هي قِراءَةُ عاصِمٍ الجَحْدَرَيِّ والقِراءَةُ الأُولى أبْيَنُ لِقَوْلِهِ: ﴿وهُوَ يَتَوَلّى الصّالِحِينَ﴾ . قَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكم ولا أنْفُسَهم يَنْصُرُونَ﴾ كَرَّرَ - سُبْحانَهُ - هَذا لِمَزِيدِ التَّأْكِيدِ والتَّقْرِيرِ، ولِما في تَكْرارِ التَّوْبِيخِ والتَّقْرِيعِ مِنَ الإهانَةِ لِلْمُشْرِكِينَ والتَّنَقُّصِ بِهِمْ، وإظْهارِ سَخْفِ عُقُولِهِمْ، ورَكاكَةِ أحْلامِهِمْ. ﴿وتَراهم يَنْظُرُونَ إلَيْكَ﴾ جُمْلَةٌ مُبْتَدِأةٌ لِبَيانِ عَجْزِهِمْ، أوْ حالِيَّةٌ، أيْ والحالُ أنَّكَ تَراهم يَنْظُرُونَ إلَيْكَ حالُ كَوْنِهِمْ لا يُبْصِرُونَ، والمُرادُ: الأصْنامُ إنَّهم يُشْبِهُونَ النّاظِرِينَ، ولا أعْيُنَ لَهم يُبْصِرُونَ بِها، قِيلَ: كانُوا يَجْعَلُونَ لِلْأصْنامِ أعْيُنًا مِن جَواهِرَ مَصْنُوعَةٍ، فَكانُوا بِذَلِكَ في هَيْئَةِ النّاظِرِينَ ولا يُبْصِرُونَ، وقِيلَ: المُرادُ بِذَلِكَ المُشْرِكُونَ، أخْبَرَ اللَّهُ عَنْهم بِأنَّهم لا يُبْصِرُونَ حِينَ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِأبْصارِهِمْ، وإنْ أبْصَرُوا بِها غَيْرَ ما فِيهِ نَفْعُهم. وقَدْ أخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قالَ: يُجاءُ بِالشَّمْسِ والقَمَرِ حَتّى يُلَقَيا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ - تَعالى - ويُجاءُ بِمَن كانَ يَعْبُدُهُما، فَيُقالُ: ﴿فادْعُوهم فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكم إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنِ السُّدِّيِّ، في قَوْلِهِ: ﴿وتَراهم يَنْظُرُونَ إلَيْكَ﴾ قالَ: هَؤُلاءِ المُشْرِكُونَ. وأخْرَجَ هَؤُلاءِ أيْضًا عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿وتَراهم يَنْظُرُونَ إلَيْكَ وهم لا يُبْصِرُونَ﴾ ما يَدْعُوهم إلَيْهِ مِنَ الهُدى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب