الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ﴿ومِمَّنْ خَلَقْنا﴾ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ و﴿أُمَّةً﴾ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ و﴿يَهْدُونَ﴾ وما بَعْدَهُ صِفَةٌ لَهُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ﴿ومِمَّنْ خَلَقْنا﴾ هو المُبْتَدَأُ كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ﴾ ( البَقَرَةِ: ٨ ) والمَعْنى: أنَّ مِن جُمْلَةِ مَن خَلَقَهُ اللَّهُ أُمَّةً يَهْدُونَ النّاسَ مُتَلَبِّسِينَ بِالحَقِّ أوْ يَهْدُونَهم بِما عَرَفُوهُ مِنَ الحَقِّ وبِالحَقِّ ﴿يَعْدِلُونَ﴾ بَيْنَهم قِيلَ: هم مِن هَذِهِ الأُمَّةِ، وإنَّهُمُ الفِرْقَةُ الَّذِينَ لا يَزالُونَ عَلى الحَقِّ ظاهِرِينَ كَما ورَدَ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ. ثُمَّ لَمّا بَيَّنَ حالَ هَذِهِ الأُمَّةِ الصّالِحَةِ بَيَّنَ حالَ مَن يُخالِفُهم فَقالَ: ﴿والَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهم مِن حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ﴾ والِاسْتِدْراجُ: هو الأخْذُ بِالتَّدْرِيجِ مَنزِلَةً بَعْدَ مَنزِلَةٍ، والدَّرْجُ: كَفُّ الشَّيْءِ، يُقالُ: أدْرَجْتُهُ ودَرَجْتُهُ، ومِنهُ إدْراجُ المَيِّتِ في أكْفانِهِ، وقِيلَ: (p-٥١٦)هُوَ مِنَ الدَّرَجَةِ، فالِاسْتِدْراجُ: أنْ يَخْطُوَ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ إلى المَقْصُودِ، ومِنهُ دَرَجَ الصَّبِيُّ: إذا قارَبَ بَيْنَ خُطاهُ، وأدْرَجَ الكِتابَ: طَواهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، ودَرَجَ القَوْمُ: ماتَ بَعْضُهم في أثَرِ بَعْضٍ، والمَعْنى: سَنَسْتَدْنِيهم قَلِيلًا قَلِيلًا إلى ما يُهْلِكُهم، وذَلِكَ بِإدْرارِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ وإنْسائِهِمْ شُكْرَها، فَيَنْهَمِكُونَ في الغَوايَةِ ويَتَنَكَّبُونَ طُرُقَ الهِدايَةِ لِاغْتِرارِهِمْ بِذَلِكَ وأنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهم إلّا بِما لَهم عِنْدَ اللَّهِ مِنَ المَنزِلَةِ والزُّلْفَةِ. قَوْلُهُ: ﴿وأُمْلِي لَهُمْ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى " ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ﴾ ": أيْ أُطِيلُ لَهُمُ المُدَّةَ وأُمْهِلُهم وأُؤَخِّرُ عَنْهُمُ العُقُوبَةَ، وجُمْلَةُ ﴿إنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ مُقَرِّرَةٌ لِما قَبْلَها مِنَ الِاسْتِدْراجِ والإمْلاءِ، ومُؤَكِّدَةٌ لَهُ، والكَيْدُ: المَكْرُ، والمَتِينُ: الشَّدِيدُ القَوِيُّ، وأصْلُهُ مِنَ المَتْنِ وهو اللَّحْمُ الغَلِيظُ الَّذِي عَلى جانِبِ الصُّلْبِ. قالَ في الكَشّافِ: سَمّاهُ كَيْدًا؛ لِأنَّهُ شَبِيهٌ بِالكَيْدِ مِن حَيْثُ إنَّهُ في الظّاهِرِ إحْسانٌ وفي الحَقِيقَةِ خِذْلانٌ. والِاسْتِفْهامُ في ﴿أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾ لِلْإنْكارِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ لَمْ يَتَفَكَّرُوا في شَأْنِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وفِيما جاءَ بِهِ و( ما ) في ﴿ما بِصاحِبِهِمْ﴾ لِلِاسْتِفْهامِ الإنْكارِيِّ، وهي في مَحَلِّ رَفْعٍ بِالِابْتِداءِ، والخَبَرُ بِصاحِبِهِمْ، والجَنَّةُ مَصْدَرٌ: أيْ وقَعَ مِنهُمُ التَّكْذِيبُ ولَمْ يَتَفَكَّرُوا: أيُّ شَيْءٍ مِن جُنُونٍ كائِنٌ بِصاحِبِهِمْ كَما يَزْعُمُونَ ؟ ! فَإنَّهم لَوْ تَفَكَّرُوا لَوَجَدُوا زَعْمَهم باطِلًا، وقَوْلَهم زُورًا وبَهْتًا، وقِيلَ: إنَّ ما نافِيَةٌ واسْمُها مِن جِنَّةٍ وخَبَرُها " بِصاحِبِهِمْ ": أيْ لَيْسَ بِصاحِبِهِمْ شَيْءٌ مِمّا يَدَّعُونَهُ مِنَ الجُنُونِ، فَيَكُونُ هَذا رَدًّا لِقَوْلِهِمْ: ﴿ياأيُّها الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ ( الحِجْرِ: ٦٠ ) ويَكُونُ الكَلامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا﴾ والوَقْفُ عَلَيْهِ مِنَ الأوْقافِ الحَسَنَةِ، وجُمْلَةُ ﴿إنْ هو إلّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَها، ومُبَيِّنَةٌ لِحَقِيقَةِ حالِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . والِاسْتِفْهامُ في ﴿أوَلَمْ يَنْظُرُوا في مَلَكُوتِ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ لِلْإنْكارِ والتَّقْرِيعِ والتَّوْبِيخِ، ولِقَصْدِ التَّعْجِيبِ مِن إعْراضِهِمْ عَنِ النَّظَرِ في الآياتِ البَيِّنَةِ الدّالَّةِ عَلى كَمالِ قُدْرَتِهِ وتَفَرُّدِهِ بِالإلَهِيَّةِ، والمَلَكُوتُ مِن أبْنِيَةِ المُبالِغَةِ، ومَعْناهُ المُلْكُ العَظِيمُ وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُهُ، والمَعْنى: إنَّ هَؤُلاءِ لَمْ يَتَفَكَّرُوا حَتّى يَنْتَفِعُوا بِالتَّفَكُّرِ، ولا نَظَرُوا في مَخْلُوقاتِ اللَّهِ حَتّى يَهْتَدُوا بِذَلِكَ إلى الإيمانِ بِهِ، بَلْ هم سادِرُونَ في ضَلالَتِهِمْ خائِضُونَ في غَوايَتِهِمْ لا يُعْمِلُونَ فِكْرًا ولا يُمْعِنُونَ نَظَرًا. قَوْلُهُ: ﴿وما خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ﴾ أيْ: لَمْ يَنْظُرُوا في مَلَكُوتِ السَّماواتِ والأرْضِ ولا فِيما خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ كائِنًا ما كانَ، فَإنَّ في كُلِّ مَخْلُوقاتِهِ عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ ومَوْعِظَةً لِلْمُتَفَكِّرِينَ، سَواءٌ كانَتْ مِن جَلائِلِ مَصْنُوعاتِهِ كَمَلَكُوتِ السَّماواتِ والأرْضِ، أوْ مِن دَقائِقِها مِن سائِرِ مَخْلُوقاتِهِ. قَوْلُهُ: ﴿وأنْ عَسى أنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أجَلُهم﴾ مَعْطُوفٌ عَلى " مَلَكُوتٍ " وأنْ: هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ واسْمُها ضَمِيرُ الشَّأْنِ وخَبَرُها عَسى وما بَعْدَها: أيْ أوَلَمْ يَنْظُرُوا في أنَّ الشَّأْنَ والحَدِيثَ عَسى أنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أجْلُهم فَيَمُوتُونَ عَنْ قَرِيبٍ. والمَعْنى: إنَّهم إذا كانُوا يُجَوِّزُونَ قُرْبَ آجالِهِمْ فَما لَهم لا يَنْظُرُونَ فِيما يَهْتَدُونَ بِهِ ويَنْتَفِعُونَ بِالتَّفَكُّرِ فِيهِ والِاعْتِبارِ بِهِ ﴿فَبِأيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إلى ما تَقَدَّمَ مِنَ التَّفَكُّرِ والنَّظَرِ في الأُمُورِ المَذْكُورَةِ: أيْ فَبِأيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ هَذا الحَدِيثِ المُتَقَدِّمِ بَيانُهُ يُؤْمِنُونَ ؟ وفي هَذا الِاسْتِفْهامِ مِنَ التَّقْرِيعِ والتَّوْبِيخِ ما لا يُقادَرُ قَدْرُهُ، وقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْقُرْآنِ، وقِيلَ: لِمُحَمَّدٍ ﷺ وقِيلَ: لِلْأجَلِ المَذْكُورِ قَبْلَهُ. وجُمْلَةُ ﴿مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ﴾ مُقَرِّرَةٌ لِما قَبْلَها: أيْ: إنَّ هَذِهِ الغَفْلَةَ مِنهم عَنْ هَذِهِ الأُمُورِ الواضِحَةِ البَيِّنَةِ لَيْسَ إلّا لِكَوْنِهِمْ مِمَّنْ أضَلَّهُ اللَّهُ ومَن يُضْلِلْهُ فَلا هادِيَ لَهُ: أيْ فَلا يُوجَدُ مَن يَهْدِيهِ إلى الحَقِّ ويَنْزِعُهُ عَنِ الضَّلالَةِ ألْبَتَّةَ ﴿ويَذَرُهم في طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ قُرِئَ بِالرَّفْعِ عَلى الِاسْتِئْنافِ وبِالجَزْمِ عَطْفًا عَلى مَحَلِّ الجَزاءِ، وقُرِئَ بِالنُّونِ، ومَعْنى يَعْمَهُونَ: يَتَحَيَّرُونَ، وقِيلَ: يَتَرَدَّدُونَ وهو في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ في قَوْلِهِ: ﴿ومِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ﴾ قالَ: ذُكِرَ لَنا أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «هَذِهِ أُمَّتِي بِالحَقِّ يَحْكُمُونَ ويَقْضُونَ ويَأْخُذُونَ ويُعْطُونَ» . وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ قَتادَةَ في الآيَةِ قالَ: بَلَغَنا أنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ كانَ يَقُولُ إذا قَرَأها: «هَذِهِ لَكَمَ وقَدْ أُعْطِيَ القَوْمُ بَيْنَ أيْدِيكم مِثْلَها، ﴿ومِن قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالحَقِّ وبِهِ يَعْدِلُونَ﴾». . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ الرَّبِيعِ في الآيَةِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ مِن أُمَّتِي قَوْمًا عَلى الحَقِّ حَتّى يَنْزِلَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ مَتى نَزَلَ» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنِ السُّدِّيِّ، في قَوْلِهِ: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهم مِن حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ﴾ يَقُولُ: سَنَأْخُذُهم مِن حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ، قالَ: عَذابُ بَدْرٍ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، عَنْ يَحْيى بْنِ المُثَنّى في الآيَةِ قالَ: كُلَّما أحْدَثُوا ذَنْبًا جَدَّدْنا لَهم نِعْمَةً تُنْسِيهِمُ الِاسْتِغْفارَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا وأبُو الشَّيْخِ، والبَيْهَقِيُّ في الأسْماءِ والصِّفاتِ عَنْ سُفْيانَ في الآيَةِ قالَ: نُسْبِغُ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ ونَمْنَعُهم شُكْرَها. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا والبَيْهَقِيُّ عَنْ ثابِتٍ البُنانِيِّ أنَّهُ سُئِلَ عَنِ الِاسْتِدْراجِ فَقالَ: ذَلِكَ مَكْرُ اللَّهِ بِالعِبادِ المُضَيِّعِينَ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ في قَوْلِهِ: ﴿وأُمْلِي لَهُمْ﴾ يَقُولُ: أكُفُّ عَنْهم ﴿إنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ إنْ مَكْرِي شَدِيدٌ، ثُمَّ نَسَخَها اللَّهُ فَأنْزَلَ: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ﴾ ( التَّوْبَةِ: ٥ ) . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: كَيْدُ اللَّهِ العَذابُ والنِّقْمَةُ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ قَتادَةَ، قالَ: ذُكِرَ لَنا «أنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ قامَ عَلى الصَّفا، فَدَعا قُرَيْشًا فَخِذًا فَخِذًا: يا بَنِي فُلانٍ يا بَنِي فُلانٍ، يُحَذِّرُهم بِأْسَ اللَّهِ ووَقائِعَ اللَّهِ إلى الصَّباحِ حَتّى قالَ قائِلٌ: إنَّ صاحِبَكم هَذا لَمَجْنُونٌ باتَ يُصَوِّتُ حَتّى أصْبَحَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِن جِنَّةٍ إنْ هو إلّا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾». .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب