الباحث القرآني
الغَضَبُ ما نَزَلَ بِهِمْ مِنَ العُقُوبَةِ في الدُّنْيا بِقَتْلِ أنْفُسِهِمْ، وما سَيَنْزِلُ بِهِمْ في الآخِرَةِ مِنَ العَذابِ، والذِّلَّةُ هي الَّتِي ضَرَبَها اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ﴾ ( البَقَرَةِ: ٦١ )، وقِيلَ: هي إخْراجُهم مِن دِيارِهِمْ، وقِيلَ: هي الجِزْيَةُ، وفِيهِ نَظَرٌ لِأنَّها لَمْ تُؤْخَذْ مِنهم، وإنَّما أُخِذَتْ مِن ذَرارِيهِمْ.
والأوْلى أنْ يُقَيَّدَ الغَضَبُ والذِّلَّةُ بِالدُّنْيا لِقَوْلِهِ: ﴿فِي الحَياةِ الدُّنْيا﴾ وإنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالمُتَّخِذِينَ لِلْعِجْلِ إلَهًا لا لِمَن بَعْدَهم مِن ذَرارِيهِمْ ومُجَرَّدُ ما أُمِرُوا بِهِ مِن قَتْلِ أنْفُسِهِمْ هو غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وبِهِ يَصِيرُونَ أذِلّاءَ، وكَذَلِكَ خُرُوجُهم مِن دِيارِهِمْ هو مِن غَضَبِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وبِهِ يَصِيرُونَ أذِلّاءَ، وأمّا ما نالَ ذَرارِيَهم مِنَ الذِّلَّةِ فَلا يَصِحُّ تَفْسِيرُ ما في الآيَةِ بِهِ إلّا إذا تَعَذَّرَ حَمْلُ الآيَةِ عَلى المَعْنى الحَقِيقِيِّ، وهو لَمْ يَتَعَذَّرْ هُنا ﴿وكَذَلِكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ﴾ أيْ مِثْلَ ما فَعَلْنا بِهَؤُلاءِ نَفْعَلُ بِالمُفْتَرِينَ، والِافْتِراءُ الكَذِبُ، فَمَنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ سَيَنالُهُ مِنَ اللَّهِ غَضَبٌ وذِلَّةٌ في الحَياةِ الدُّنْيا، وإنْ لَمْ يَكُنْ بِنَفْسِ ما عُوقِبَ بِهِ هَؤُلاءِ، بَلِ المُرادُ ما يَصْدُقُ عَلَيْهِ أنَّهُ مِن غَضَبِ اللَّهِ سُبْحانَهُ، وأنَّ فِيهِ ذِلَّةً بِأيِّ نَوْعٍ كانَ.
﴿والَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ﴾ أيَّ سَيِّئَةٍ كانَتْ ﴿ثُمَّ تابُوا﴾ عَنْها مِن بَعْدِ عَمَلِها وآمَنُوا بِاللَّهِ ﴿إنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِها﴾ أيْ مِن بَعْدِ هَذِهِ التَّوْبَةِ، أوْ مِن بَعْدِ عَمَلِ هَذِهِ السَّيِّئاتِ الَّتِي قَدْ تابَ عَنْها فاعِلُها وآمَنَ بِاللَّهِ ﴿لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أيْ كَثِيرُ الغُفْرانِ لِذُنُوبِ عِبادِهِ وكَثِيرُ الرَّحْمَةِ لَهم.
قَوْلُهُ: ﴿ولَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسى الغَضَبُ﴾ أصْلُ السُّكُوتِ: السُّكُونُ والإمْساكُ، يُقالُ: جَرى الوادِي ثَلاثًا ثُمَّ سَكَنَ: أيْ أمْسَكَ عَنِ الجَرْيِ: قِيلَ: هَذا مَثَلٌ كَأنَّ الغَضَبَ كانَ يُغْرِيهِ عَلى ما فَعَلَ، ويَقُولُ لَهُ: قُلْ لِقَوْمِكَ كَذا وألْقِ الألْواحَ وجُرَّ بِرَأْسِ أخِيكَ فَتَرَكَ الإغْراءَ وسَكَتَ، وقِيلَ: هَذا الكَلامُ فِيهِ قَلْبٌ، والأصْلُ سَكَتَ مُوسى عَنِ الغَضَبِ كَقَوْلِهِمْ: أدْخَلْتُ الأُصْبُعَ الخاتَمَ، والخاتَمَ الأُصْبُعَ، وأدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ رَأْسِي، ورَأْسِي القَلَنْسُوَةَ.
وقَرَأ مُعاوِيَةُ بْنُ قُرَّةَ " ولَمّا سَكَنَ عَنْ مُوسى الغَضَبُ " وقُرِئَ " ﴿سَكَتَ﴾ " " وأسْكَتَ " أخَذَ الألْواحَ الَّتِي ألْقاها عِنْدَ غَضَبِهِ وفي نُسْخَتِها هُدًى ورَحْمَةٌ النَّسْخُ نَقْلُ ما في كِتابٍ إلى كِتابٍ آخَرَ، ويُقالُ لِلْأصْلِ الَّذِي كانَ النَّقْلُ مِنهُ: نُسْخَةٌ (p-٥٠٣)ولِلْمَنقُولِ نُسْخَةٌ أيْضًا.
قالَ القُشَيْرِيُّ.
والمَعْنى وفي نُسْخَتِها: أيْ فِيما نُسِخَ مِنَ الألْواحِ المُتَكَسِّرَةِ ونُقِلَ إلى الألْواحِ الجَدِيدَةِ هُدًى ورَحْمَةٌ وقِيلَ: المَعْنى: وفِيما نُسِخَ لَهُ مِنها: أيْ مِنَ اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، وقِيلَ: المَعْنى: وفِيما كُتِبَ لَهُ فِيها هُدًى ورَحْمَةٌ، فَلا يَحْتاجُ إلى أصْلٍ يُنْقَلُ عَنْهُ، وهَذا كَما يُقالُ: أنْسِخْ ما يَقُولُ فُلانٌ: أيْ أثْبِتْهُ في كِتابِكَ والنُّسْخَةُ فُعْلَةٌ، بِمَعْنى مَفْعُولَةٍ كالخُطْبَةِ.
والهُدى ما يَهْتَدُونَ بِهِ مِنَ الأحْكامِ، والرَّحْمَةُ ما يَحْصُلُ لَهم مِنَ اللَّهِ عِنْدَ عَمَلِهِمْ بِما فِيها مِنَ الرَّحْمَةِ الواسِعَةِ، واللّامُ في لِلَّذِينَ هم مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ: أيْ كائِنَةٌ لَهم أوْ لِأجْلِهِمْ، واللّامُ في لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ لِلتَّقْوِيَةِ لِلْفِعْلِ لِما كانَ مَفْعُولُهُ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ فَإنَّهُ يَضْعُفُ بِذَلِكَ بَعْضَ الضَّعْفِ.
وقَدْ صَرَّحَ الكِسائِيُّ بِأنَّها زائِدَةٌ.
وقالَ الأخْفَشُ: هي لامُ الأجْلِ أيْ لِأجْلِ رَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ.
وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ المُبَرِّدُ: هي مُتَعَلِّقَةٌ بِمَصْدَرِ الفِعْلِ المَذْكُورِ، والتَّقْدِيرُ: لِلَّذِينَ هم رَهْبَتُهم لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ.
وقَدْ أخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ أيُّوبَ قالَ: تَلا أبُو قِلابَةَ هَذِهِ الآيَةَ ﴿إنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿وكَذَلِكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ﴾ قالَ: هو جَزاءُ كُلِّ مُفْتَرٍ يَكُونُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ أنْ يُذِلَّهُ اللَّهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: أُعْطِيَ مُوسى التَّوْراةَ في سَبْعَةِ ألْواحٍ مِن زَبَرْجَدٍ، فِيها تِبْيانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ ومَوْعِظَةٌ، ولَمّا جاءَ فَرَأى بَنِي إسْرائِيلَ عُكُوفًا عَلى العِجْلِ رَمى التَّوْراةَ مِن يَدِهِ فَتَحَطَّمَتْ، وأقْبَلَ عَلى هارُونَ فَأخَذَ بِرَأْسِهِ فَرَفَعَ اللَّهُ مِنها سِتَّةَ أسْباعٍ وبَقِيَ سُبُعٌ: ولَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسى الغَضَبُ أخَذَ الألْواحَ وفي نُسْخَتِها هُدًى ورَحْمَةٌ قالَ: فِيما بَقِيَ مِنها.
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ مُجاهِدٍ أوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قالَ: كانَتِ الألْواحُ مِن زُمُرُّدٍ فَلَمّا ألْقاها مُوسى ذَهَبَ التَّفْصِيلُ، وبَقِيَ الهُدى والرَّحْمَةُ، وقَرَأ ﴿وكَتَبْنا لَهُ في الألْواحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ ( الأعْرافِ: ١٤٥ ) وقَرَأ ﴿ولَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسى الغَضَبُ أخَذَ الألْواحَ وفي نُسْخَتِها هُدًى ورَحْمَةٌ﴾ قالَ: ولَمْ يَذْكُرِ التَّفْصِيلَ هاهُنا.
{"ayahs_start":152,"ayahs":["إِنَّ ٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُوا۟ ٱلۡعِجۡلَ سَیَنَالُهُمۡ غَضَبࣱ مِّن رَّبِّهِمۡ وَذِلَّةࣱ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۚ وَكَذَ ٰلِكَ نَجۡزِی ٱلۡمُفۡتَرِینَ","وَٱلَّذِینَ عَمِلُوا۟ ٱلسَّیِّـَٔاتِ ثُمَّ تَابُوا۟ مِنۢ بَعۡدِهَا وَءَامَنُوۤا۟ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورࣱ رَّحِیمࣱ","وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلۡغَضَبُ أَخَذَ ٱلۡأَلۡوَاحَۖ وَفِی نُسۡخَتِهَا هُدࣰى وَرَحۡمَةࣱ لِّلَّذِینَ هُمۡ لِرَبِّهِمۡ یَرۡهَبُونَ"],"ayah":"إِنَّ ٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُوا۟ ٱلۡعِجۡلَ سَیَنَالُهُمۡ غَضَبࣱ مِّن رَّبِّهِمۡ وَذِلَّةࣱ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۚ وَكَذَ ٰلِكَ نَجۡزِی ٱلۡمُفۡتَرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق