الباحث القرآني
وهي مَدَنِيَّةٌ.
قالَ الماوَرْدِيُّ: في قَوْلِ الجَمْعِ.
وأخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الصَّفِّ بِالمَدِينَةِ.
وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ.
وأخْرَجَ النَّحّاسُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الصَّفِّ بِمَكَّةَ، ولَعَلَّ هَذا لا يَصِحُّ عَنْهُ ويُؤَيِّدُ كَوْنَها مَدَنِيَّةً ما أخْرَجَهُ أحْمَدُ «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ قالَ: تَذاكَرْنا أيَّكم يَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَيَسْألُهُ: أيُّ الأعْمالِ أحَبُّ إلى اللَّهِ ؟ فَلَمْ يَقُمْ أحَدٌ مِنّا، فَأرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَيْنا رَجُلًا رَجُلًا فَجَمَعَنا، فَقَرَأ عَلَيْنا هَذِهِ السُّورَةَ، يَعْنِي سُورَةَ الصَّفِّ كُلَّها»، وأخْرَجَهُ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وقالَ في آخِرِهِ: فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ السُّورَةُ.
وأخْرَجَهُ أيْضًا التِّرْمِذِيُّ، وابْنُ حِبّانَ، والحاكِمُ وقالَ: صَحِيحٌ عَلى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ والسُّنَنِ.
(p-١٤٨٧)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَوْلُهُ ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى هَذا، ووَجْهُ التَّعْبِيرِ في بَعْضِ السُّوَرِ بِلَفْظِ المُضارِعِ، وفي بَعْضِها بِلَفْظِ الأمْرِ - الإرْشادُ إلى مَشْرُوعِيَّةِ التَّسْبِيحِ في كُلِّ الأوْقاتِ ماضِيها ومُسْتَقْبَلِها وحالِها، وقَدْ قَدَّمْنا نَحْوَ هَذا في أوَّلِ سُورَةِ الحَدِيدِ ﴿وهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ أيُ الغالِبُ الَّذِي لا يُغالَبُ، الحَكِيمُ في أفْعالِهِ وأقْوالِهِ.
﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾ هَذا الِاسْتِفْهامُ لِلتَّقْرِيعِ والتَّوْبِيخِ، أيْ: لِمَ تَقُولُونَ مِنَ الخَيْرِ ما لا تَفْعَلُونَهُ، و" لِمَ " مُرَكَّبَةٌ مِنَ اللّامِ الجارَّةِ، و" ما " الِاسْتِفْهامِيَّةُ، وحُذِفَتْ ألِفُها تَخْفِيفًا لِكَثْرَةِ اسْتِعْمالِها كَما في نَظائِرِها.
ثُمَّ ذَمَّهم سُبْحانَهُ عَلى ذَلِكَ فَقالَ: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾ أيْ: عَظُمَ ذَلِكَ في المَقْتِ، وهو البُغْضُ، والمَقْتُ والمَقاتَةُ مَصْدَرانِ، يُقالُ رَجُلٌ مَقِيتٌ ومَمْقُوتٌ: إذا لَمْ يُحِبَّهُ النّاسُ قالَ الكِسائِيُّ: " أنْ تَقُولُوا " في مَوْضِعِ رَفْعٍ؛ لِأنَّ " كَبُرَ " فِعْلٌ بِمَعْنى بَئِسَ، و" مَقْتًا " مُنْتَصِبٌ عَلى التَّمْيِيزِ، وعَلى هَذا فَيَكُونُ في " كَبُرَ " ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ مُفَسَّرٌ بِالنَّكِرَةِ، و" أنْ تَقُولُوا " هو المَخْصُوصُ بِالذَّمِّ، ويَجِيءُ فِيهِ الخِلافُ هَلْ رَفْعُهُ بِالِابْتِداءِ، وخَبَرُهُ الجُمْلَةُ المُتَقَدِّمَةُ عَلَيْهِ، أوْ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أوْ هو خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ.
لَوْ قِيلَ: إنَّهُ قَصَدَ بِقَوْلِهِ كَبُرَ التَّعَجُّبَ، وقَدْ عَدَّهُ ابْنُ عُصْفُورٍ مِن أفْعالِ التَّعَجُّبِ.
وقِيلَ: إنَّهُ لَيْسَ مِن أفْعالِ الذَّمِّ ولا مِن أفْعالِ التَّعَجُّبِ، بَلْ هو مُسْنَدٌ إلى " أنْ تَقُولُوا "، و" مَقْتًا " تَمْيِيزٌ مُحَوَّلٌ عَنِ الفاعِلِ.
﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: إنَّ المُؤْمِنِينَ قالُوا: ودِدْنا أنَّ اللَّهَ يُخْبِرُنا بِأحَبِّ الأعْمالِ إلَيْهِ حَتّى نَعْمَلَهُ ولَوْ ذَهَبَتْ فِيهِ أمْوالُنا وأنْفُسُنا.
فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ﴾ الآيَةَ، وانْتِصابُ " صَفًّا " عَلى المَصْدَرِيَّةِ، والمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أيْ: يَصِفُونَ أنْفُسَهم صَفًّا، وقِيلَ: هو مَصْدَرٌ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ: صافِّينَ أوْ مَصْفُوفِينَ.
قَرَأ الجُمْهُورُ يُقاتِلُونَ عَلى البِناءِ لِلْفاعِلِ.
وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ وقُرِئَ " يَقْتُلُونَ " بِالتَّشْدِيدِ، وجُمْلَةُ ﴿كَأنَّهم بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِن فاعِلِ " يُقاتِلُونَ "، أوْ مِنَ الضَّمِيرِ في " صَفًّا " عَلى تَقْدِيرِ أنَّهُ مَئَوَّلٌ بِصافِّينَ أوْ مَصْفُوفِينَ، ومَعْنى " مَرْصُوصٌ ": مُلْتَزِقٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، يُقالُ رَصَصْتُ البِناءَ أرُصُّهُ رَصًّا: إذا ضَمَمْتُ بَعْضَهَ إلى بَعْضٍ.
قالَ الفَرّاءُ: مَرْصُوصٌ بِالرَّصاصِ.
قالَ المُبَرِّدُ: هو مَأْخُوذٌ مَن رَصَصْتُ البِناءَ: إذا لايَمْتُ بَيْنَهُ وقارَبْتُ حَتّى يَصِيرَ كَقِطْعَةٍ واحِدَةٍ، وقِيلَ: هو مِنَ الرَّصِيصِ.
وهُوَ ضَمُّ الأشْياءِ بَعْضِها إلى بَعْضٍ، والتَّراصُّ: التَّلاصُقُ.
﴿وإذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ﴾ لَمّا ذَكَرَ سُبْحانَهُ أنَّهُ يُحِبُّ المُقاتِلِينَ في سَبِيلِهِ بَيَّنَ أنَّ مُوسى وعِيسى أمَرا بِالتَّوْحِيدِ وجاهَدا في سَبِيلِ اللَّهِ وحَلَّ العِقابُ بِمَن خالَفَهُما، والظَّرْفُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هو اذْكُرْ، أيِ اذْكُرْ يا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاءِ المُعْرِضِينَ وقْتَ قَوْلِ مُوسى، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ وجْهُ ذِكْرِ قِصَّةِ مُوسى وعِيسى بَعْدَ مَحَبَّةِ المُجاهِدِينَ في سَبِيلِ اللَّهِ - التَّحْذِيرَ لِأمَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ أنْ يَفْعَلُوا مَعَ نَبِيِّهِمْ ما فَعَلَهُ قَوْمُ مُوسى وعِيسى مَعَهُما ﴿ياقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي﴾ هَذا مَقُولُ القَوْلِ، أيْ: لِمَ تُؤْذُونَنِي بِمُخالَفَةِ ما آمُرُكم بِهِ مِنَ الشَّرائِعِ الَّتِي افْتَرَضَها اللَّهُ عَلَيْكم، أوْ لِمَ تُؤْذُونَنِي بِالشَّتْمِ والِانْتِقاصِ، ومِن ذَلِكَ رَمْيُهُ بِالأُدْرَةِ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ هَذا في سُورَةِ الأحْزابِ، وجُمْلَةُ ﴿وقَدْ تَعْلَمُونَ أنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ، و" قَدْ " لِتَحَقُّقِ العِلْمِ أوْ لِتَأْكِيدِهِ، وصِيغَةُ المُضارِعِ لِلدَّلالَةِ عَلى الِاسْتِمْرارِ، والمَعْنى: كَيْفَ تُؤْذُونَنِي مَعَ عِلْمِكم بِأنِّي رَسُولُ اللَّهِ، والرَّسُولُ يُحْتَرَمُ ويُعَظَّمُ، ولَمْ يَبْقَ مَعَكم شَكٌّ في الرِّسالَةِ لِما قَدْ شاهَدْتُمْ مِنَ المُعْجِزاتِ الَّتِي تُوجِبُ عَلَيْكُمُ الِاعْتِرافَ بِرِسالَتِي، وتُفِيدُكُمُ العِلْمَ بِها عِلْمًا يَقِينِيًّا ﴿فَلَمّا زاغُوا أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ أيْ: لَمّا أصَرُّوا عَلى الزَّيْغِ واسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهم عَنِ الهُدى، وصَرَفَها عَنْ قَبُولِ الحَقِّ، وقِيلَ: فَلَمّا زاغُوا عَنِ الإيمانِ أزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهم عَنِ الثَّوابِ.
قالَ مُقاتِلٌ: لَمّا عَدَلُوا عَنِ الحَقِّ أمالَ اللَّهُ قُلُوبَهم عَنْهُ، يَعْنِي أنَّهم لَمّا تَرَكُوا الحَقَّ بِإيذاءِ نَبِيِّهِمْ أمالَ اللَّهُ قُلُوبَهم عَنِ الحَقِّ جَزاءً بِما ارْتَكَبُوا ﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾ هَذِهِ الجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَها.
قالَ الزَّجّاجُ: لا يَهْدِي مَن سَبَقَ في عِلْمِهِ أنَّهُ فاسِقٌ، والمَعْنى: أنَّهُ لا يَهْدِي كُلَّ مُتَّصِفٍ بِالفِسْقِ وهَؤُلاءِ مِن جُمْلَتِهِمْ.
﴿وإذْ قالَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى ﴿وإذْ قالَ مُوسى﴾ مَعْمُولٌ لِعامِلِهِ، أوْ مَعْمُولٌ لِعامِلٍ مُقَدَّرٍ مَعْطُوفٍ عَلى عامِلِ الظَّرْفِ الأوَّلِ.
﴿يابَنِي إسْرائِيلَ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكم مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ﴾ أيْ: أنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكم بِالإنْجِيلِ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ لِأنِّي لَمْ آتِكم بِشَيْءٍ يُخالِفُ التَّوْراةَ، بَلْ هي مُشْتَمِلَةٌ عَلى التَّبْشِيرِ بِي، فَكَيْفَ تَنْفِرُونَ عَنِّي وتُخالِفُونَنِي، وانْتِصابُ " مُصَدِّقًا " عَلى الحالِ وكَذا " مُبَشِّرًا "، والعامِلُ فِيهِما ما في الرَّسُولِ مِن مَعْنى الإرْسالِ، والمَعْنى: أنِّي أرْسَلْتُ إلَيْكم حالَ كَوْنِي مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ ومُبَشِّرًا بِمَن يَأْتِي بَعْدِي، وإذا كُنْتُ كَذَلِكَ في التَّصْدِيقِ والتَّبْشِيرِ فَلا مُقْتَضى لِتَكْذِيبِي، و" أحْمَدُ " اسْمُ نَبِيِّنا ﷺ وهو عَلَمٌ مَنقُولٌ مِنَ الصِّفَةِ، وهي (p-١٤٨٨)تَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ مُبالَغَةً مِنَ الفاعِلِ، فَيَكُونُ مَعْناها أنَّهُ أكْثَرُ حَمْدًا لِلَّهِ مِن غَيْرِهِ، أوْ مِنَ المَفْعُولِ فَيَكُونُ مَعْناها أنَّهُ يُحْمَدُ بِما فِيهِ مِن خِصالِ الخَيْرِ أكْثَرَ مِمّا يُحْمَدُ غَيْرُهُ.
قَرَأ نافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو، والسُّلَمِيُّ، وزِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ ﴿مِن بَعْدِي﴾ بِفَتْحِ الياءِ وقَرَأ الباقُونَ بِإسْكانِها.
﴿فَلَمّا جاءَهم بِالبَيِّناتِ قالُوا هَذا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ أيْ: لَمّا جاءَهم عِيسى بِالمُعْجِزاتِ قالُوا هَذا الَّذِي جاءَنا بِهِ سِحْرٌ واضِحٌ ظاهِرٌ، وقِيلَ: المُرادُ مُحَمَّدٌ ﷺ أيْ لَمّا جاءَهم بِذَلِكَ قالُوا هَذِهِ المَقالَةَ، والأوَّلُ أوْلى.
قَرَأ الجُمْهُورُ ﴿سِحْرٌ﴾ وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ " ساحِرٌ " .
﴿ومَن أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلى اللَّهِ الكَذِبَ وهو يُدْعى إلى الإسْلامِ﴾ أيْ: لا أحَدَ أكْثَرُ ظُلْمًا مِنهُ حَيْثُ يَفْتَرِي عَلى اللَّهِ الكَذِبَ، والحالُ أنَّهُ يُدْعى إلى دِينِ الإسْلامِ الَّذِي هو خَيْرُ الأدْيانِ وأشْرَفُها؛ لِأنَّ مَن كانَ كَذَلِكَ فَحَقُّهُ ألّا يَفْتَرِيَ عَلى غَيْرِهِ الكَذِبَ، فَكَيْفَ يَفْتَرِيهِ عَلى رَبِّهِ.
قَرَأ الجُمْهُورُ ﴿وهُوَ يُدْعى﴾ مِنَ الدُّعاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ.
وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: " يَدَّعِي " بِفَتْحِ الياءِ وتَشْدِيدِ الدّالِ مِنَ الِادِّعاءِ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، وإنَّما عُدِّيَ بِـ " إلى " لِأنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنى الِانْتِماءِ والِانْتِسابِ ﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظّالِمِينَ﴾ هَذِهِ الجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَها.
والمَعْنى: لا يَهْدِي مَنِ اتَّصَفَ بِالظُّلْمِ، والمَذْكُورُونَ مِن جُمْلَتِهِمْ.
﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأفْواهِهِمْ﴾ الإطْفاءُ: الإخْمادُ، وأصْلُهُ في النّارِ، واسْتُعِيرَ لِما يَجْرِي مَجْراها مِنَ الظُّهُورِ.
والمُرادُ بِنُورِ اللَّهِ القُرْآنُ، أيْ: يُرِيدُونَ إبْطالَهُ وتَكْذِيبَهُ بِالقَوْلِ، أوِ الإسْلامِ، أوْ مُحَمَّدٍ ﷺ، أوِ الحُجَجِ والدَّلائِلِ، أوْ جَمِيعِ ما ذُكِرَ، ومَعْنى ﴿بِأفْواهِهِمْ﴾: بِأقْوالِهِمُ الخارِجَةِ مِن أفْواهِهِمُ المُتَضَمِّنَةِ لِلطَّعْنِ ﴿واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ﴾ بِإظْهارِهِ في الآفاقِ وإعْلائِهِ عَلى غَيْرِهِ.
قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ ﴿مُتِمُّ نُورِهِ﴾ بِالإضافَةِ والباقُونَ بِتَنْوِينِ " مُتِمٌّ " ﴿ولَوْ كَرِهَ الكافِرُونَ﴾ ذَلِكَ فَإنَّهُ كائِنٌ لا مَحالَةَ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ.
قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: واللّامُ في ﴿لِيُطْفِئُوا﴾ لامٌ مُؤَكِّدَةٌ دَخَلَتْ عَلى المَفْعُولِ؛ لِأنَّ التَّقْدِيرَ: يُرِيدُونَ أنْ يُطْفِئُوا، وأكْثَرُ ما تَلْزَمُ هَذِهِ اللّامُ - المَفْعُولُ إذا تَقَدَّمَ، كَقَوْلِكَ: لَزَيْدٌ ضَرَبْتُ، ولَرُؤْيَتُكَ قَصَدْتُ، وقِيلَ: هي لامُ العِلَّةِ، والمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أيْ: يُرِيدُونَ إبْطالَ القُرْآنِ أوْ دَفْعَ الإسْلامِ أوْ هَلاكَ الرَّسُولِ لِيُطْفِئُوا، وقِيلَ: إنَّها بِمَعْنى أنِ النّاصِبَةِ وأنَّها ناصِبَةٌ بِنَفْسِها.
قالَ الفَرّاءُ: العَرَبُ تَجْعَلُ لامَ كَيْ في مَوْضِعِ " أنْ " في أرادَ وأمَرَ، وإلَيْهِ ذَهَبَ الكِسائِيُّ، ومِثْلُ هَذا قَوْلُهُ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكم﴾ [النساء: ٢٦] .
وجُمْلَةُ ﴿هو الَّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى ودِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ ولَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِما قَبْلَها، والهُدى القُرْآنُ أوِ المُعْجِزاتُ، ومَعْنى " دِينِ الحَقِّ " المِلَّةُ الحَقَّةُ، وهي مِلَّةُ الإسْلامِ، ومَعْنى " لِيُظْهِرَهُ ": لِيَجْعَلَهُ ظاهِرًا عَلى جَمِيعِ الأدْيانِ عالِيًا عَلَيْها غالِبًا لَها ﴿ولَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ﴾ ذَلِكَ فَإنَّهُ كائِنٌ لا مَحالَةَ.
قالَ مُجاهِدٌ: ذَلِكَ إذا نَزَلَ عِيسى لَمْ يَكُنْ في الأرْضِ دِينٌ إلّا دِينَ الإسْلامِ، والدِّينُ مَصْدَرٌ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الأدْيانِ المُتَعَدِّدَةِ، وجَوابُ " لَوْ " في المَوْضِعَيْنِ مَحْذُوفٌ، والتَّقْدِيرُ أتَمَّهُ وأظْهَرَهُ.
وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: كانَ ناسٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ قَبْلَ أنْ يُفْرَضَ الجِهادُ يَقُولُونَ: ودِدْنا لَوْ أنَّ اللَّهَ أخْبَرَنا بِأحَبِّ الأعْمالِ فَنَعْمَلُ بِهِ، فَأخْبَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ أنَّ أحَبَّ الأعْمالِ إيمانٌ بِاللَّهِ لا شَكَّ فِيهِ، وجِهادُ أهْلِ مَعْصِيَتِهِ الَّذِينَ خالَفُوا الإيمانَ ولَمْ يُقِرُّوا بِهِ، فَلَمّا نَزَلَ الجِهادُ كَرِهَ ذَلِكَ أُناسٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ وشَقَّ عَلَيْهِمْ أمْرُهُ، فَقالَ اللَّهُ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾ .
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾ قالَ: هَذِهِ الآيَةُ في القِتالِ وحْدَهُ، وهم قَوْمٌ كانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ ﷺ فَيَقُولُ الرَّجُلُ: قاتَلْتُ وضَرَبْتُ بِسَيْفِي ولَمْ يَفْعَلُوا، فَنَزَلَتْ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أيْضًا قالَ: قالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أحَبَّ الأعْمالِ إلى اللَّهِ لَفَعَلْناهُ، فَأخْبَرَهُمُ اللَّهُ فَقالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ في سَبِيلِهِ صَفًّا كَأنَّهم بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ﴾ فَكَرِهُوا ذَلِكَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾ ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾ وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ أيْضًا ﴿كَأنَّهم بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ﴾ قالَ: مُثَبَّتٌ لا يَزُولُ مُلْصَقٌ بَعْضُهُ عَلى بَعْضٍ.
وأخْرَجَ البُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُما عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قالَ: «قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إنَّ لِي أسْماءً: أنا مُحَمَّدٌ، وأنا أحْمَدُ، وأنا الحاشِرُ الَّذِي يَحْشُرُ اللَّهُ النّاسَ عَلى قَدَمِي، وأنا الماحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الكُفْرَ، وأنا العاقِبُ: والعاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ» .
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أدُلُّكم عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكم مِن عَذابٍ ألِيمٍ﴾ ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ بِأمْوالِكم وأنْفُسِكم ذَلِكم خَيْرٌ لَكم إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ﴿يَغْفِرْ لَكم ذُنُوبَكم ويُدْخِلْكم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ ومَساكِنَ طَيِّبَةً في جَنّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ ﴿وأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وفَتْحٌ قَرِيبٌ وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَن أنْصارِي إلى اللَّهِ قالَ الحَوارِيُّونَ نَحْنُ أنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ وكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأيَّدْنا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأصْبَحُوا ظاهِرِينَ﴾
قَوْلُهُ ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أدُلُّكم عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكم مِن عَذابٍ ألِيمٍ﴾ جَعَلَ العَمَلَ المَذْكُورَ بِمَنزِلَةِ التِّجارَةِ لِأنَّهم يَرْبَحُونَ فِيهِ كَما يَرْبَحُونَ فِيها، وذَلِكَ بِدُخُولِهِمُ الجَنَّةَ ونَجاتِهِمْ مِنَ النّارِ.
قَرَأ الجُمْهُورُ ﴿تُنْجِيكُمْ﴾ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الإنْجاءِ.
وقَرَأ الحَسَنُ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو حَيْوَةَ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّنْجِيَةِ.
ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ هَذِهِ التِّجارَةَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْها، فَقالَ: ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُجاهِدُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ بِأمْوالِكم وأنْفُسِكم﴾، وهو خَبَرٌ في مَعْنى الأمْرِ لِلْإيذانِ بِوُجُوبِ الِامْتِثالِ، فَكَأنَّهُ قَدْ وقَعَ فَأخْبَرَ بِوُقُوعِهِ، وقَدَّمَ ذِكْرَ الأمْوالِ عَلى الأنْفُسِ لِأنَّها هي الَّتِي يُبْدَأُ بِها في (p-١٤٨٩)الإنْفاقِ والتَّجَهُّزِ إلى الجِهادِ.
قَرَأ الجُمْهُورُ تُؤْمِنُونَ وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: " آمِنُوا وجاهِدُوا " عَلى الأمْرِ.
قالَ الأخْفَشُ: تُؤْمِنُونَ عَطْفُ بَيانٍ لِتِجارَةٍ، والأوْلى أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً مُبَيِّنَةً لِما قَبْلَها، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ ذَلِكم إلى ما ذُكِرَ مِنَ الإيمانِ والجِهادِ، وهو مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ خَيْرٌ لَكم أيْ: هَذا الفِعْلُ خَيْرٌ لَكم مِن أمْوالِكم وأنْفُسِكم ﴿إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أيْ: إنْ كُنْتُمْ مِمَّنْ يَعْلَمُ، فَإنَّكم تَعْلَمُونَ أنَّهُ خَيْرٌ لَكم، لا إذا كُنْتُمْ مِن أهْلِ الجَهْلِ فَإنَّكم لا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ.
﴿يَغْفِرْ لَكم ذُنُوبَكُمْ﴾ هَذا جَوابُ الأمْرِ المَدْلُولُ عَلَيْهِ بِلَفْظِ الخَبَرِ، ولِهَذا جُزِمَ.
قالَ الزَّجّاجُ، والمُبَرِّدُ: قَوْلُهُ تُؤْمِنُونَ في مَعْنى آمِنُوا، ولِذَلِكَ جاءَ يَغْفِرْ لَكم مَجْزُومًا.
وقالَ الفَرّاءُ: يَغْفِرْ لَكم جَوابُ الِاسْتِفْهامِ، فَجَعَلَهُ مَجْزُومًا لِكَوْنِهِ جَوابَ الِاسْتِفْهامِ، وقَدْ غَلَّطَهُ أهْلُ العِلْمِ.
قالَ الزَّجّاجُ: لَيْسُوا إذا دَلَّهم عَلى ما يَنْفَعُهم يَغْفِرْ لَهم، إنَّما يَغْفِرُ لَهم إذا آمَنُوا وجاهَدُوا.
وقالَ الرّازِيُّ في تَوْجِيهِ قَوْلِ الفَرّاءِ: إنَّ ﴿هَلْ أدُلُّكُمْ﴾ في مَعْنى الأمْرِ عِنْدَهُ، يُقالُ هَلْ أنْتَ ساكِتٌ، أيِ اسْكُتْ، وبَيانُهُ أنَّ " هَلْ " بِمَعْنى الِاسْتِفْهامِ، ثُمَّ يَتَدَرَّجُ إلى أنْ يَصِيرَ عَرْضًا وحَثًّا، والحَثُّ كالإغْراءِ، والإغْراءُ أمْرٌ.
وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ " تُؤْمِنُوا، وتُجاهِدُوا " عَلى إضْمارِ لامِ الأمْرِ.
وقِيلَ: إنَّ " يَغْفِرْ لَكم " مَجْزُومٌ بِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ، أيْ: إنْ تُؤْمِنُوا يَغْفِرْ لَكم، وقَرَأ بَعْضُهم بِالإدْغامِ في ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ﴾ والأوْلى تَرْكُ الإدْغامِ؛ لِأنَّ الرّاءَ حَرْفٌ مُتَكَرِّرٌ، فَلا يَحْسُنُ إدْغامُهُ في اللّامِ.
﴿ويُدْخِلْكم جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ كَيْفِيَّةِ جَرْيِ الأنْهارِ مِن تَحْتِ الجَنّاتِ ﴿ومَساكِنَ طَيِّبَةً في جَنّاتِ عَدْنٍ﴾ أيْ: في جَنّاتِ إقامَةٍ ﴿ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ أيْ: ذَلِكَ المَذْكُورُ في المَغْفِرَةِ، وإدْخالُ الجَنّاتِ المَوْصُوفَةِ بِما ذُكِرَ - هو الفَوْزُ الَّذِي لا فَوْزَ بَعْدَهُ، والظَّفَرُ الَّذِي لا ظَفَرَ يُماثِلُهُ.
﴿وأُخْرى تُحِبُّونَها﴾
قالَ الأخْفَشُ، والفَرّاءُ: " أُخْرى " مَعْطُوفَةٌ عَلى " تِجارَةٍ " فَهي في مَحَلِّ خَفْضٍ، أيْ: وهَلْ أدُلُّكم عَلى خَصْلَةٍ أُخْرى تُحِبُّونَها في العاجِلِ مَعَ ثَوابِ الآخِرَةِ، وقِيلَ: هي في مَحَلِّ رَفْعٍ، أيْ: ولَكم خَصْلَةٌ أُخْرى، وقِيلَ: في مَحَلِّ نَصْبٍ، أيْ: ويُعْطِيكم خَصْلَةً أُخْرى.
ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ هَذِهِ الآخِرَةَ فَقالَ: ﴿نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ أيْ: هي نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ لَكم، وفَتْحٌ قَرِيبٌ.
قالَ الكَلْبِيُّ: يَعْنِي النَّصْرَ عَلى قُرَيْشٍ وفَتْحَ مَكَّةَ.
وقالَ عَطاءُ: يُرِيدُ فَتْحَ فارِسَ والرُّومِ ﴿وبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى مَحْذُوفٍ، أيْ: قُلْ يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا وبَشِّرْ، أوْ عَلى " تُؤْمِنُونَ " لِأنَّهُ في مَعْنى الأمْرِ، والمَعْنى: وبَشِّرْ يا مُحَمَّدُ المُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ والفَتْحِ، أوْ بَشِّرْهم بِالنَّصْرِ في الدُّنْيا والفَتْحِ، وبِالجَنَّةِ في الآخِرَةِ، أوْ وبَشِّرْهم بِالجَنَّةِ في الآخِرَةِ.
ثُمَّ حَضَّ سُبْحانَهُ المُؤْمِنِينَ عَلى نُصْرَةِ دِينِهِ فَقالَ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أنْصارَ اللَّهِ﴾ أيْ: دُومُوا عَلى ما أنْتُمْ عَلَيْهِ مِن نُصْرَةِ الدِّينِ.
قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو، ونافِعٌ " أنْصارًا لِلَّهِ " بِالتَّنْوِينِ وتَرْكِ الإضافَةِ.
وقَرَأ الباقُونَ بِالإضافَةِ، والرَّسْمُ يَحْتَمِلُ القِراءَتَيْنِ مَعًا، واخْتارَ أبُو عُبَيْدٍ قِراءَةَ الإضافَةِ لِقَوْلِهِ ﴿نَحْنُ أنْصارُ اللَّهِ﴾ بِالإضافَةِ.
﴿كَما قالَ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَن أنْصارِي إلى اللَّهِ﴾ أيِ انْصُرُوا دِينَ اللَّهِ مِثْلَ نُصْرَةِ الحَوارِيِّينَ لَمّا قالَ لَهم عِيسى: مَن أنْصارِي إلى اللَّهِ، قالُوا: نَحْنُ أنْصارُ اللَّهِ، والكافُ في " كَما قالَ " نَعْتُ مَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: كُونُوا كَوْنًا كَما قالَ، وقِيلَ: الكافُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى إضْمارِ الفِعْلِ، وقِيلَ: هو كَلامٌ مَحْمُولٌ عَلى مَعْناهُ دُونَ لَفْظِهِ، والمَعْنى: كُونُوا أنْصارَ اللَّهِ كَما كانَ الحَوارِيُّونَ أنْصارَ عِيسى حِينَ قالَ لَهم مَن أنْصارِي إلى اللَّهِ.
وقَوْلُهُ: ﴿إلى اللَّهِ﴾ قِيلَ: " إلى " بِمَعْنى مَعَ، أيْ: مَن أنْصارِي مَعَ اللَّهِ، وقِيلَ: التَّقْدِيرُ: مَن أنْصارِي فِيما يُقَرِّبُ إلى اللَّهِ، وقِيلَ: التَّقْدِيرُ: مَن أنْصارِي مُتَوَجِّهًا إلى نُصْرَةِ اللَّهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى هَذا في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ.
والحَوارِيُّونَ هم أنْصارُ المَسِيحِ وخُلَّصُ أصْحابِهِ، وأوَّلُ مَن آمَنَ بِهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُهم ﴿فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِن بَنِي إسْرائِيلَ وكَفَرَتْ طائِفَةٌ﴾ أيْ: آمَنَتْ طائِفَةٌ بِعِيسى وكَفَرَتْ بِهِ طائِفَةٌ، وذَلِكَ لِأنَّهم لَمّا اخْتَلَفُوا بَعْدَ رَفْعِهِ تَفَرَّقُوا وتَقاتَلُوا ﴿فَأيَّدْنا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ﴾ أيْ قَوَّيْنا المُحِقِّينَ مِنهم عَلى المُبْطِلِينَ ﴿فَأصْبَحُوا ظاهِرِينَ﴾ أيْ: عالِينَ غالِبِينَ، وقِيلَ: المَعْنى: فَأيَّدْنا الآنَ المُسْلِمِينَ عَلى الفِرْقَتَيْنِ جَمِيعًا.
وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالُوا: لَوْ كُنّا نَعْلَمُ أيُّ الأعْمالِ أحَبُّ إلى اللَّهِ ؟ فَنَزَلَتْ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أدُلُّكم عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكم مِن عَذابٍ ألِيمٍ﴾ فَكَرِهُوا فَنَزَلَتْ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ﴾ .
وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أنْصارَ اللَّهِ﴾ قالَ: قَدْ كانَ ذَلِكَ بِحَمْدِ اللَّهِ، جاءَهُ سَبْعُونَ رَجُلًا فَبايَعُوهُ عِنْدَ العَقَبَةِ وآوَوْهُ ونَصَرُوهُ حَتّى أظْهَرَ اللَّهُ دِينَهُ.
وأخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ، وابْنُ سَعْدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قالَ: «قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلنَّفَرِ الَّذِينَ لَقُوهُ بِالعَقَبَةِ: أخْرِجُوا إلَيَّ اثْنَيْ عَشَرَ مِنكم يَكُونُونَ كُفَلاءَ عَلى قَوْمِهِمْ كَما كَفَلَتِ الحَوارِيُّونَ لِعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ» .
وأخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قالَ: «قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلنُّقَباءِ: إنَّكم كُفَلاءُ عَلى قَوْمِكم كَكَفالَةِ الحَوارِيِّينَ لِعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ، وأنا كَفِيلُ قَوْمِي، قالُوا: نَعَمْ» .
وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿فَأيَّدْنا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قالَ: فَقَوَّيْنا الَّذِينَ آمَنُوا، وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ فَأيَّدْنا الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ ﷺ وأُمَّتِهِ عَلى عَدُوِّهِمْ فَأصْبَحُوا اليَوْمَ ظاهِرِينَ.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ","یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ","كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُوا۟ مَا لَا تَفۡعَلُونَ","إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلَّذِینَ یُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِهِۦ صَفࣰّا كَأَنَّهُم بُنۡیَـٰنࣱ مَّرۡصُوصࣱ","وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ یَـٰقَوۡمِ لِمَ تُؤۡذُونَنِی وَقَد تَّعۡلَمُونَ أَنِّی رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَیۡكُمۡۖ فَلَمَّا زَاغُوۤا۟ أَزَاغَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡۚ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَـٰسِقِینَ","وَإِذۡ قَالَ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ یَـٰبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ إِنِّی رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَیۡكُم مُّصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَمُبَشِّرَۢا بِرَسُولࣲ یَأۡتِی مِنۢ بَعۡدِی ٱسۡمُهُۥۤ أَحۡمَدُۖ فَلَمَّا جَاۤءَهُم بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ قَالُوا۟ هَـٰذَا سِحۡرࣱ مُّبِینࣱ","وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُوَ یُدۡعَىٰۤ إِلَى ٱلۡإِسۡلَـٰمِۚ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ","یُرِیدُونَ لِیُطۡفِـُٔوا۟ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفۡوَ ٰهِهِمۡ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ","هُوَ ٱلَّذِیۤ أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَىٰ وَدِینِ ٱلۡحَقِّ لِیُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّینِ كُلِّهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ","یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ تِجَـٰرَةࣲ تُنجِیكُم مِّنۡ عَذَابٍ أَلِیمࣲ","تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُجَـٰهِدُونَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَ ٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡۚ ذَ ٰلِكُمۡ خَیۡرࣱ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ","یَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡ وَیُدۡخِلۡكُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ وَمَسَـٰكِنَ طَیِّبَةࣰ فِی جَنَّـٰتِ عَدۡنࣲۚ ذَ ٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ","وَأُخۡرَىٰ تُحِبُّونَهَاۖ نَصۡرࣱ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَتۡحࣱ قَرِیبࣱۗ وَبَشِّرِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ","یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُونُوۤا۟ أَنصَارَ ٱللَّهِ كَمَا قَالَ عِیسَى ٱبۡنُ مَرۡیَمَ لِلۡحَوَارِیِّـۧنَ مَنۡ أَنصَارِیۤ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِیُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِۖ فَـَٔامَنَت طَّاۤىِٕفَةࣱ مِّنۢ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ وَكَفَرَت طَّاۤىِٕفَةࣱۖ فَأَیَّدۡنَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ عَلَىٰ عَدُوِّهِمۡ فَأَصۡبَحُوا۟ ظَـٰهِرِینَ"],"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق